لا أعرف بالضبط ماذا حل بي وأنا أجيل النظر في أرتال الشجر التونسي: هل أصابتني سِنة من نوم، أم أن حلم يقظة قد استحوذ علي واستبد بي، أم أنها محض ذكرى طاغية تملكت وعيي وجملة مشاعري، ولفترة دامت نحو ربع ساعة، وقد خرجت من تلك الحالة على صوت أحد رفاق الرحلة وهو يستوثق إذا ما كنت نائمًا أم مستيقظًا، وهو سؤال كنت عاجزًا عن الإجابة عنه، إذ تمنيت ساعتها لو يجيبني أحد من أصدقاء الرحلة! وقد انتفضت على الصوت الواضح غير المرتفع، وخرجت مما كنت عليه من تخيل واستيهام، بصعوبة وإنما على عجل، وبخاصة وقد اكتشفت مذهولًا أن دموعًا قد سحت من عيني من غير أن أنتبه خلال تلك الحالة. وصارحت الأصدقاء بإني كنت في حالة غريبة قد تسمى حالة وجد لم يسبق أن عشتها، حتى حين غادرت البلاد يوم الخميس الثامن من يونيو/ حزيران 1967، أو حين عدت لها زائرًا بعد مضي 30 سنة.
استذكرت تلك المشاعر الجياشة لدى قراءتي مقال المهدي مبروك "الزيت والزيتون والتونسيون" في "العربي الجديد"، 25 نوفمبر، ويدور المقال الشيق حول تعلق أبناء تونس بزيتونتهم لدرجة تسمية الجامعة العريقة بـ"الزيتونة" وإيمانهم بأن زيتونتهم هي الأصل وقد تناسلت منها زيتونات في ديار أخرى، وكيف أن انحدار أسعار الزيت والزيتون لموسم هذا العام 2024 بعد خمس سنوات من الجفاف، قد أصاب المالكين والمزارعين بالكرب، مع الإحالة إلى مقطع لمحمود درويش "لو يذكر الزيتون غارسه/ لصار الزيت دمعًا/ يا حكمة الأجداد...".
لا يحتاج المرء في فلسطين أن يكون ريفيًا حتى ينشأ بينه وبين الزيتون والزيت تعلق ثابت ومحبة راسخة تدوم مع تراخي الأيام وقد تقترن أحيانًا بالدمع. ذلك أن منتوج هذه الشجرة يتغلغل في نسيج حياة قطاع كبير من الناس. وما يستذكره كاتب هذه السطور أن اقتصاد قريته كان يقوم في الخمسينيات على الزيت والزيتون، فالثراء يقاس بمدى امتلاك أعداد من هذه الشجرة التي يقال للواحدة المفردة عِرق، وكم جرة ينتج من الزيت (أما ما ينتج من الزيتون الذي تستخدم حباته بعد تخليلها طعامًا، فهو من النوافل في التقييم)، وقد سمعت في طفولتي عن وجيه في قرية أخرى على درجة من الثراء، لدرجة أنه استعمل الزيت بدلًا من الماء في جبل الطين الذي يجمع أحجار البيت.
وكان من عادات التكافل أن أبناء القرية يسمحون في نهاية الموسم للفقراء ممن لا يملكون أشجار زيتون أن يقوموا بالبحث طيلة عشرة أيام عما تبقى من ثمار على الشجر، أو ما تساقط منها على الأرض خلال عملية القطاف اليدوي، وتسمى هذه العملية لمن يزاولها بالتصييف. وثمة استعمالات شبه طبية للزيت (طب شعبي) واستخدام بقايا ثمار الزيتون بعد عصره لغايات التدفئة بعد تجفيفه ووضعه في المواقد وإشعال النار فيه، علاوة على استخدام ما يتبقى من الزيت في نهاية العصر من زيت عكر لصناعة الصابون المنزلي، وقد أتقنت جدتي لأبي (عزيزة) هذه الصناعة التي تبدأ بما يشبه عملية طبخ في آنية نحاسية كبيرة، ثم يتم سكب السائل الثقيل اللزج في قوالب خشبية مقسمة إلى مربعات صغيرة إلى أن يجف، وبذلك تتأمن مؤونة الصابون لسنة كاملة.
تتألف أملاك القرية من وديان سحيقة وجبال شاهقة جميعها مكسوة بأشجار الزيتون (تتخللها أشجار تين) وتعود ملكيتها لأبناء القرية التي تحولت إلى بلدة أواسط الستينيات مع نشوء بلدية فيها تجمعها مع قرية دير غسانة المجاورة. ليس هناك أسوار أو أسيجة بين الرقع المملوكة، ورغم ذلك فالناس تعرف لمن تعود ملكية كل شجرة من آلاف الأشجار سواء منها الرومية وهي النسبة الأعظم، أو تلك المزروعة منذ ثلاثين سنة فقط. ولم أسمع عن أي تنازع حول ملكية شجرة واحدة، فكل عائلة والعائلة كلها: الزوج والزوجة والأولاد والبنات يعرفون خير المعرفة أشجارهم، وأشجار من يجاورهم في الرزق.
ومع افتتاح المتجر الأول للعم سليم ثم المتجر الثاني فالثالث فالرابع، فقد ظل أبناء القرية يتزودون بما يحتاجونه من هذه المتاجر وهي احتياجات بسيطة وضئيلة، من غير أن يسددوا ثمنها نقدًا، بل بمقايضة آجلة بالزيت حين يحل موسمه وحيث يقوم التجار ببيعه في رام الله. ويعرف التجار الأربعة بدقة ما يملكه فلان وفلان من زبائنه من عروق الزيتون، فيمنحه بضاعة على مدار السنة تضاهي قيمتها ما ينتجه المستدين من زيت. وإذا ما اشتكى أحد من الزبائن قبل حلول الموسم وقبل أن يأزف موعد السداد ولو على سبيل المداعبة، بأن إنتاج هذه السنة ضعيف "شلتونة" وليس وافرًا "ماسية"، فإن التاجر لا يتوانى عن الذهاب بنفسه إلى ما يملكه الزبون في رزقه (حقله)، ويقوم بالتشييك على الأشجار واحدة واحدة ومعاينة ما تحمله من ثمار، وبوسعه حينذاك تقدير كم ستنتج أشجاره من زيت مع هامش ضئيل للخطأ، مما يقطع الطريق أمام أي تلاعب.
ولا شك في أن ما يحيط بشجرة الزيتون من بركة وقدسية قد أسهم في توقير هذه الشجرة (والتين والزيتون، وطور سينين.. آية قرآنية)، (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ .. آيات قرآنية). ويحفل العهد القديم والجديد بما يبجل هذه الشجرة المباركة حتى أن إحصائيات تذكر أن شجر الزيتون قد ورد ذكره في الكتاب المقدس في 140 موضعًا، حتى أصبح هذا التوقير جزءًا من الوعي الفردي والعام، واللاوعي الجمعي أيضًا لسواد أبناء البلاد مسلمين ومسيحيين. فليس هناك من شجرة أليفة، محبوبة وتملأ ذاكرة ومخيلة الناس من جميع الأعمار مثل هذه الشجرة الخضراء التي تحتفظ بخضرة أوراقها الصغيرة على مدار السنة، وتكاد لا تحتاج إلى عناية تذكر بها، سوى في السنين الأولى لزراعتها، فتعطي بلا حساب من غير أن تأخذ.