}

أيقونات مبتورة الرأس!

مفلح العدوان 2 ديسمبر 2024
قص أيقونات مبتورة الرأس!
فسيفساء في مدينة ميفعة/ "أم الرصاص" جنوب عمان/ الأردن

رأيته..
غزال يذرع المدينة بعد أن فَرَغَت من أنفاس البشر، وأرواح سكانها الذين واطنوها سنين عددًا.
تابعته مُذ كان رَسمًا على جدار، ورصدت تناسخه حينًا بعض فسيفساء شَكّلته ألوانها، وحينًا آخر حرفًا في وثيقة مدفونة تحت حجرٍ، أو عتبة معبد.
لم أَملّ رصده، غير أنه ضَجِر من سكونه رسمًا صامتًا على مساحة محددة الأبعاد، فتململ في بادئ الأمر، وعرفت أنه لن يطول سكونه، وسيفضح كل ما رأى وهو قابع هنا يرقب، ويتساءل بعد مأساة مجازر الدم المرتكبة حوله بحق كل الرسومات والأيقونات، في مدينته التي أحب... "مَيفعة" (*)!

***

توقفت عن رصدي للغزال في تَقلُّبه داخل إطار فسيفسائه.
وتأملت اسم المدينة، مُفكرًا في حقيقته، وبدائله المتوارثة في الذاكرة: هل هي "مَيفعة"، أَم "أُم الرصاص"؟ وكلا الاسمين وُجدا لذات المكان!
عجيبة تلك الأماكن القديمة، كيف تُغَيّر أسماءها، وكأنها خائفة، ومرعوبة، من شيء يتعقبها، فتحاول التَخَفّي، كلّ زمن، خلف اسم جديد، كأنما هي تعمل على تعميد ذاتها، وتطهير روحها من إثم قديم، يتجدد.
الغزال المرسوم على الجدار، وفي الأرضية الفسيفسائية، لا تنطلي عليه تلك الحيلة، فهو يعرف كلّ شيء، ويقرأ بين الحروف، وخلف حَدّ المعول الذي كَسَّر كل رؤوس الأيقونات، والرسومات، هنا في كنائس "ميفعة"، حتى صارت المدينة كلها أيقونات مبتورة الرأس!

***

أتابع ضجر الغزال من جلسته...
أراه يَركُل الحجارة الفسيفسائية عنه، ويخلع حجاب الألوان عائدًا إلى الحركة، بَهيًّا بروحه، شفيفًا بتألّقه، رقيقًا كأنه المولود الآن، وهو يتكلم في مهده، كما مسيح يشكو من ظُلم القاطنين حوله، وجور تلك العصابات التي شَوّهت كل ما يدور في فَلكه، وهو يتساءل بدهشة: كيف أَعتِقُني من قطّع رؤوس كل الأيقونات هنا؟ لي ثأر مع الفاعل أيًّا كان مذهبه، ومهما تكُن مِلّته!
صمت بعد احتجاجه المُنكسر...
حاولت أن أكلمه، بعد هذه المعجزة، إلّا أنه لم ينتظر، واستوى على قدميه، ثم بدأ يرمح بين كنائس "ميفعة"، وبدأت أتتبع مسيره راكضًا وراءه كأنني مُستَلب له، راغبًا في اكتشاف حنينه الذي بعثه من رقاده، وبي حماس لمعرفة أسباب حزنه الذي انفطر منها قلبه.

***

ركض، فتبعته...
مرة يسرع كأنه متشوق لبعيد ينتظره، ومرة يتأنى كأنه حَذِرٌ من خطر يتربص به.
بقي يمشي إلى أن وصلنا شمال "ميفعة"، حيث مجمع كنائس "القديس اسطفانس"، رأيت أقواسًا مختلفة، وجدرانًا، وعوارض أبواب مزخرفة بصلبان منقوشة.
رأيت كنائس، وساحات، وآبارًا، ثم توقفت عند قُدس الأقداس، وتلمست المذبح، والمقاعد، وانتظرت عند كل لوحة فسيفساء توقف عندها الغزال، فصرعني مرأى التكسير، والتشويه فيها؛ كانت كلها رسومات مهشمة، ورؤوسًا مقطوعة.
تساءلت: ما الذي حدث هنا؟ ومن هم هؤلاء؛ قاطعو رؤوس الصور، ومحطمو الرسومات؟
كنت أريد من الغزال أن يجيبني، لكنه لم يتكلم.
نظرت في عينيه، فلمحت غمامة دمعة توشك على السقوط، لكنه في تلك اللحظة أَحسَّ باصطيادي لمشروعية ضعفه، فهرب بعيدًا، وبقيت أتبعه، كأن قدري بات مرهونًا بحركة أقدامه.

***

يمشي...
أمشي وراءه، وألمح الجدران حولي، فينتابني هاجس بأن اسم "أم الرصاص" مأخوذ من ذاكرة جدّتي التي كانت حين ترى بناء متقنًا وثابتًا، تقول إنه بنيان مرصوص، وهو شبيه الرصاص... هل يمكن أن يكون فعل الرَصّ هو أصل هذا الاسم؟! ولماذا لم تتراصّ تلك الأيقونات في موقفها أمام من شرّدوها من مواقعها، وأفسدوا فيها خرابًا؟!
انتابني خوف من حجم المؤامرة التي تُحاك لهذه المدينة، مُدركًا أن قصّة "ميفعة" هي أكبر من مسألة جدار مرصوص، أو فسيفساء مشتتة... كان هذا هجسي، وأنا أتبع خطوات الغزال، وهو لا يتوقف.
صارت الجدران والأرضيات تمشي معي، كأنها تتابع وإياي الغزال...
تحولت في مسيرها بجواري إلى شريط سينمائي يحمل الصور الفسيفسائية أنّى اتجهت، فأُحدّق بها، وأُدهَش مما أرى:
سلة عناقيد عنب، شجرتا رمان، حزام من صلبان معقوفة مزدوجة، طيور قُطّعت رؤوسها، باقات زهور، مشهد صيد مُشَوّه، غصون كَرمة، طواويس بلا أعناق، فلّاح ينقل العنب إلى المعصرة على حماره، وكلاهما مبتور الطرف الأعلى. ثم توقف المشهد عند عصافير على شجيرة وأمامهم صياد يرعبهم بقصبته، كان الصياد بلا ملامح، بينما العصافير مكتملة التفاصيل!
فرحت، وابتهج الغزال...
كيف لم يصل الدمار إلى براءة العصافير؟!
شعرت كأن العصافير تتحرك بنَفَس الأُلفة المبثوثة من الغزال، مع رعبها من قصبة الصياد.
أوشكت أن أقترب، فأوقفتني نظرة الغزال الذي مسّد على الفسيفساء بطرف رأسه، فتحركت أجنحة العصافير بِرِقّة في البدء، ثم خبطت بأجنحتها الهواء بقوة متحدية رعب سهم الصياد، وحَلّقت مبتعدة عن أغبرة الفسيفساء، وبقايا دم الأيقونات...
فرحت بتحررها من الكابوس، وزاد نبض بهجتي حين رأيتها تنطلق قريبًا من رأس الغزال مكملة المسير معه.

***

هل حقًا ما أرى؟
أم هو وهم الأمل الذي بات يسكنني مذ راودتني فكرة قرأتها في كتابات الأعداء الذين لا يفصلنا عنهم إلا مساحة ضئيلة، وثأرًا قديمًا، ودمًا دائمًا يتجدد.
قرأت أنه لا بد وأن تقف آلاتهم، وأن يجمعوا عتادهم في هذا المكان، لأنهم به طامعون... ترى هل هُم الصياد الأعمى الذي ذكرته الفسيفساء وهو يحاصر العصافير؟! وهل ما حدث الآن نبوءة تشي بقُدرة من واطن "ميفعة" من غزلان وعصافير ورهبان، على مواجهة ذاك الصياد؟
تمنيت هذا...
ياه، كم أنت عزيزة علينا يا "ميفعة"، وكم هم كُثر أولئك الصيادون الذين ينتظرون لحظة الأيقونات حين يحين قطافها!

***

فرحت للمشهد الذي تغيّر أمامي...
غزال يمرح، وفوق رأسه عصافير فرحة بالحياة وبالاستمرار، بعد تلك المجزرة التي طاولت رؤوس أيقونات المدينة كلها، وليس فقط تلك التي غَفل عنها صيادو الرسوم، ومحطمو الأيقونات!
أتابع المسير...
حائر بين تتبعي لإرث المدينة، وبين هذه الأسطورة التي بدأت تتشكل أمامي، في الانبعاث التلقائي لما تبقى من حياة في ميفعة.

***

من نجا غير هؤلاء؟
تستلبني الذاكرة، وأسئلة مشوشة تحتاج إلى أجوبة، خاصة الاستفهام الكبير داخلي عن حجارة "أم الرصاص" التي نُهبت من وسط هذا الخراب، ترى من سرقها وأخفاها بعيدًا عن المدينة، مثلما فعل بمسلة ميشع؟ كيف لنا أن نقرأ تفاصيل ميفعة بلا حجارتها المنسوبة إليها؟
هذه المدينة، كأن قدرها في أن تتعذب بين سندان السرقة لحجارتها، وتاريخها، وبين مطرقة التحطيم لأيقوناتها، وتشويه لفسيفسائها!

***

أتابع التحديق...
وتُعاد المشاهد أمامي، غير أن بعضها يتجدد، فأتفاءل بنبض حياة فيها، حتى بعد مئات السنين:
أربع شجيرات، وحش بلا عنق يجرّ فريسة بلا ملامح، أشجار زيتون، حيوانان مائيان، جسد سيدة مُشوّه وهي متحلّية بقلادة وزنار من زخرف يشدها من وسطها على ثوبها الطويل، ثمار وسنابل، يد مبتورة تحمل مبخرة، وتجسيدًا للفينيق برأس مُشِع.
توقفت هنا أيضًا، وتوقفت قافلة الناجين حين رأوني تأخرت عنهم...
عادوا إليّ، كأن ما بيننا هو حلف على التواصل الدائم في البحث عن رموز الحياة في المدينة المهملة منذ سنوات (هل هذا التناسي عن سبق إصرار على تغييبها، أم أن هناك خطّة تحملها مواثيق الغيب، وتُحاك لها في مكان آخر؟!)...
تأملنا معًا هذا الطائر الخرافي، وانتظرنا أن تظهر معجزة أخرى، تتحقق على يديه... تأخرنا هنا قليلًا فلم يحدث شيء، وبدأ الغزال يتأهب للمغادرة... تحرّك سرب العصافير معه، وأوشكت على التحرك، غير أن طائر الفينيق انتفض فجأة وسبقنا.
فرحنا، وتفاءلنا خيرًا حين صار يرمم بلمساته الأيقونات المحطمة، فتتبعنا مكملة المسيرة معنا.

***

مشينا...
زاد عددنا...
صرنا فصيلًا من المبعوثين بِهَدْيِ الفينيق الذي أعاد للمدينة هيبتها.
تجاوزنا كنائس "أسطفانس"، ودخلنا مجمع الأسقف "سرجيوس"، وسرنا وراء الفينيق إلى كل مواقع الحياة في "ميفعة"، إلى أن اكتملت الأيقونات مُضْفية الجمال والحياة على المدينة، ثم سِرنا جميعًا حتى وصلنا برج الناسك في "ميفعة"، ذاك البرج يقبع وحيدًا مُنتصبًا ومُنعزلًا شمال المدينة، كأنه مرهون، منذ بُني، لهذا اليوم.
رأيت آخر ما رأيت؛ الفينيق يرحل بعد أن اكتملت المدينة حياةً...
نظرت إلى الأيقونات المبعوثة، وقد تحررت من وهم التشويه والانكسار، كانت مكتملة، تنبض بالتَوق لإعمار "ميفعة"، وإعادتها مدينةً كما كانت في البدء.
تأملت الغزال؛ كان نشيطًا، خفيفًا، يتحرك بين الجميع مُحَصِّنًا إياهم قرب البرج، وحول المدينة، استعدادًا لمواجهة القادمين الجُدد خَوف أن يعيدوا تحطيم أيقونات "ميفعة"، بعد أن لامستها الحياة!

هامش:
(*) ميفعة: مدينة أثرية جنوب عمان في الأردن، تعرف الآن بـ"أم الرصاص"، فيها مجمع كنائس ولوحات فسيفسائية قديمة، عانت من التشويه لتلك اللوحات لأسباب دينية على مدار العصور التي مرّت عليها.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.