سدّت الحروف حلقي فانكتمت، وصفني أحدهم بالأسود، قذفني بالصفة، ذكّرني بلون لا تزيله حرية ممنوحة ثمنها رجل أنلْتُه الشهادة والمجد، وأورثني لعنة نطق بها ابن أخيه: «إن استطعت ألا تريني وجهك فافعل»، ففعلت، ما كنت لأخالفه، والسيوف ترجمان الصمت، من يجادل نبيًّا فاتحا منصورا بقومه؟ حتى ابن هند وابن الراية الحمراء وآخرين ناصروه اختيارا وإذعانا، وبقيت ملعونا، لا يريد النبي سماع شكايتي، وهم مستضعفون في مكة، تلقى قرآنا يلومه على عبوسه في وجه أعمى، ويوصيه باللين، والإنصات إلى الأعمى؛ فقلبه ينشرح بالتبسم، وتنقبض روحه بالتجهم والإعراض والتولّي إلى السادة، وما نزل فيّ قرآن يذكّره بأنه على خلق عظيم، ويصرف عنه غضبا ألَمّ بمثله لما رأى عمه ممثَّلا بجثته، مشقوق البطن، واصطلم أنفه وجدعت أذناه، فأقسم ليمثّلنّ بسبعين رجلا قصاصا، فعاجله القرآن «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله»، فاستجاب ذو الخلق العظيم، وأنت يا سيد السادات جعلتني دون مقام آكلة الأكباد، دون ابن أم مكتوم، ذلك الأعمى الذي أراد الاستماع إلى النبي، فأعرض عنه كما أعرض عني، وكنت أودّ أن أقول له ما يعرفه، ما يدركه أصحابه المهاجرون والأنصار والطلقاء، ما أنا إلا يدٌ صوبت حربة، أداة مملوكة لسادة أكرمتَهم، زوجها أنزلته منزلة عظيمة بذكر اسمه وداره، وأنا لا دار لي، واسمي لم ينطقه لسانك، ولا رأتني عيناك، لو أن في الأرض عدلا لاستحق السادة لعنات، هم الآمرون الواعدون، هو القتال، وفاتني أن أكون فارسا، ولو ظفر بي حمزة لاستكبر أن يقتلني، لا يجدر بسيد كريم أن يمدّ يدًا إلى عبد، ربما أشار إلى بلال أو إلى ابن مسعود بقتلي، هكذا القتال، ولا إرادة لي ولا اختيار، هم أرادوا وقرروا أن تقتله مهارتي، والسيدة أرادت وقررت أن تنتقم، صنعت من آذان الشهداء وأنوفهم قلائد وأساور، أنشدتْ: «شفيتُ من حمزة نفسي بأُحد/ حين بقرتُ بطنه عن الكبدْ»، وصاحتْ: «شفيتَ وحشيّ غليل صدري»، مدّت يديها لتكافئني؛ فجزعت نفسي من اللحم، للمرة الأولى لا ينحني رأسي، بئس الزنّار المزيّن بأرواح تئنّ، تبسمتْ وخلعت قلادتها، ثم محا إسلامها ما قد سلف، جاءت متحدية، تتهم النبي بقتل أولادها، فأحسن إليها؛ فهي حرة وأنا عبدٌ لا فكاك له من ماضيه، وماضي هند لم ينسخه إسلامها، سمّت الآذان صياحا، وسخرت من بلال، استكبرت أن تذكر اسمه، وصفته بالعبد الأسود، لا بلال عبدٌ، ولا الآذان صياح، هند دخلت الإسلام منتصرة، وأنا دخلته منبوذا مغلولا بذنب حمزة، ولا أراه إلا مقاتلا، وفي القتال أنا قاتل مقتول، وغيري قتلة مقتولون، ولا يليق الانتقام بالرجال، ولا بامرأة حرة نبهت النبي بأنها حرة، ويعلم أنها حرة، وما هكذا تلوك الحرائر أكباد المقاتلين، ولو أنني يا رب من أبناء الأحرار، الأحرار الطيبين لا السادة الأقوياء، لترفق بي نبيك، لعاملني بشيء من الرحمة، لذكر اسمي أمام الناس، وأشفق على هواني المقيم، وأبدى بعضا من فرح أسداه إلى سادة يدخلون الدين مكرهين، وأخشى أن تنكشف قلوبهم عن كره عجزوا عن إبدائه في حضرة النصر، وأنت يا رب أعلم بهم، وأعلم بي وأنا أُدعى إلى جهاد قالوا إنه في سبيلك، قلت لأخرجنّ إلى مسيلمة، لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، اشتعل القتال حتى رأيت شهب النار تخرج من خلال السيوف، ولها أصوات كالأجراس، اقتحمنا حديقة الرحمن، فإذا هو رجل مهيب، جمل أورق، ثائر الرأس، لم تأخذني هذه الرجفة يوم أُحد؛ لبعدي عن حمزة، وفي الحديقة أغمضت عيني؛ لأتفادى الرهبة، وأطلقت حربتي، ظفرت به وما ظفرت بحريتي، قالت إحداهن: «قتله العبدُ الأسود»، نطقت بما في الصدور، لا يرونني إلا عبدًا، تأملت وجه القتيل، وأفقت على ابن الوليد يأمر بإلقائه في بئر كان يشرب منها، وكنت عطشان، ولا أشرب ماء بطعم الجثث، وجاءني الرجل البهيّ معاتبا، ناداني باسمي، مسيلمة؟ تبسّم وأجابني: «مَسلمة يا وحشيّ مسلمة»، سقاني فتذكرت أسيرا جريحا في حديقة الدم، سأل أبا سعيد الخدري أن يسقيه، ضنّ بالماء وقتله، فكرهت الحدائق والديار، خلّفت المدينة ورائي، وفي البادية مرّ بي ناجون من الكوفة، سمعوا مَن يقول في مسجد: «مَسلمة كان على حق»، فحكم عليهم ابن مسعود بالقتل، لأنهم لم ينكروا، وأنا يا رب اعتزلت هؤلاء وهؤلاء، صرتُ الآن حرًّا، أتوسل إليك النجاة، وحتى تقدّر لي المقام بمصر أو الشام لن أبرح الخلاء، لي فيه مَن لا يؤذيهم سوادي، هنا أصادق حمارا وكبشا وبضع عنزات ونعاج، وتأنس بنا قطط وكلاب تخيف الضواري، والحربة التي حررتني وقيّدتني أذيقها مذلة الوتد، أدقّ رأسها بالحجر، ويهينها الكلب بالبلل والغبار.
مناجاة...
سعد القرش
21 ديسمبر 2024
قص
(عادل السيوي)
... ويا رب أشكوك، وإلى مَن أشتكي يا سيد السادات إلا إليك؟ ما كنت لأشتكي إلى نبيّك، أو أشكوه إليك، إنما أشكوك أنت إليك، ابتليتني بالعذاب، ما أقسى لعنة لازمتني بقوله «فهل تستطيع أن تغيِّب وجهك عني»، لم ينظر إليّ، لعله نظر وكره أن يراني، لم ينطق اسمي حين حكم عليّ بلعنة تسبق ظلي، ليته ذكر اسمي، علم أني أستطيع ألا أريه وجهي، من يجرؤ على مخالفة أمر نبي فاتح، رسول منتصر منصور بقبيلته، كانت أمنيته أمرًا باختفائي، أقصاني؛ فلا أنا حي ولا أنا ميت، أمر ألا أصلّي خلفه؛ فأكدر صفوه، لا أنا حي ولا أنا ميت، هكذا أنا طوال عمري، لا أنا إنسان ولا أنا من السوائم، لا أنا أسلمت ولا بقيت على الكفر، إسلامي مقبول فأنت تغفر الذنوب جميعا، ووجهي مرفوض، لو كان قاسي القلب غليظ العبارة لأمرني صراحة بالاختفاء، ما كان لمن وصفته بأنه على خلق عظيم إلا أن يكون عظيم الخلق، إشارته ذكية كأنه يخيّرني، متى كنتُ يا رب حرًّا فأختار؟ قبل أُحد كنت عبدًا، وبعد أُحد ما صرتُ حرًّا، صدق السادة وأوفوا بالعهد، ونزعوا عني الأغلال، وتركوني أسير لوني، رهين ميراثي الاستعبادي، وعمّدوا حريتي بالدم، هي الحرب والقتال، والسيدة تذوّقت الدم، بقرت بطن حمزة، ولاكت كبده، فلم تستسغه، فألقته، وأنا لم أمضغ كبدًا، وأخاف الجثث، أخافني الحمزة حيًّا وميتًا، هو أعزّ من أن يقتله عبدٌ مجهول لا يحبه ولا يكرهه، عبدٌ منح حمزة الشهادة، حربتي رفعته إلى منزلة أسد الله، وأنا عبدٌ مغلوب، لست في تلك المرة مأمورا، اخترت حريتي، ولا أملك إلا قوتي، ونعمة تصويب أنعمت بها عليّ، سبقني بلال إلى الشرف، نطق النبي اسمه، «يا بلال»، بلال أندى الأصوات فليكن صوت الرسالة، ولست ذكيًّا، فاتني شرفٌ حظي به بلال، وقايضني السادة، عوّضوني عن ماض لا أستطيع التحرر منه، كسبوا الحرب، وخسرت حظوة أن ينطق النبي اسمي، وأن أتبعه ويراني، والبعض حسدني على الفوز بالانعتاق من الرق، صدق السادة الوعد، استطال عنقي ورأسي في السحاب، تعمّمت وقررت انتظار لحيتي، بقيت يوما مكبّلا بتاريخي، سجين دار ما هي بدار، تحلو لي العمامة ولا أريد خلعها، جرّبت ضبطها لتشبه عمائم أبناء الأحرار، وما أسعفتني لحيتي، لن أخرج كما اعتدت الخروج، مثل المُرْد، عاري الرأس، فأنا اليوم حرٌّ، أريد إعلان ولادتي، ومضى يوم ثان ثقيل، لروحي نبتت أجنحة تحملني إلى ربوع مكة، فيرونني مرفوع الرأس، في الطريق تفاديت تحسُّس العمامة، وتأكد لي استقرارها بعد نجاح التجربة في الدار، اقتربت من أبناء الأحرار فابتعدوا، نبذوني حتى إن ابن آكلة الأكباد وابن الراية الحمراء كلاهما استكبر أن يلومني، أحدهما أشاح بوجهه، والآخر رشق عمامتي بنظرة كادت تسقطها، لو رشقها برمح أو طعنني لأراحني، أوشكت أن أقول لهما ولفتية من أبناء أحرار أقل شأنًا: إنما أنا مثلكم، حرٌ انتزع حريته بالدم، لم أرثها، استحققتها بمهارتي، ويمكنني أن أصرعكم لولا أنه لا بيت يحميني.
مقالات اخرى للكاتب
قص
21 ديسمبر 2024
آراء
8 نوفمبر 2024
قص
28 أغسطس 2024
قص
14 يونيو 2024