}

في الانتقال من نزوح إلى نزوح

محمود شريح 24 ديسمبر 2024
يوميات في الانتقال من نزوح إلى نزوح
عمل للتشكيلي اللبناني أمين الباشا (1932-2019)

 

كنتُ في حال النعيم في بيروت، في صباي الحالم الواعدِ، كلّما استمعتُ إلى أُغنية فريد الأطرش، لشاعرها يوسف بدروس، ردّني مطلعها:

يا نسمة تجري إلى ديار الحبيبْ
احكي له سرّي وكيف أحيا غريبْ

إلى زمن ولّى كنتُ فيه صبًّا مُستهامًا، ليس فقط لأنّ لحنَها يواكبُ كلماتها، فإذا الشكل والمضمون مُنصهران في وحدة عضويّة، على وقع وترِ عُودِ مغنّيها، بل لأنّها لطالما عادت بي في البال إلى تذوّق متعتيْن، لذّة طعم الشوكولاتة وذكرى صبيّة كنتُ أراها على شرفة أهلها تبتسمُ لي كلّما مررتُ بشرفة أهلها، جيئةً وذهابًا، فما أن كنتُ أستمعُ إلى تلك الأُغنية حتى صرتُ أتحسّر على زوال النعمتيْن.

كان عمّي عبد الله، شقيق والدي مصطفى، كلّما عاد إلينا صيفًا من الظهران يقدّم لي قالب شوكولاتة متى زرتُه إثر قيلولته بعد ظهر كلّ يوم. وكان بعد دراسته التمريض في جامعة بيروت الأميركية غادرَ مسكنَ أهل زوجته في برج البراجنة، ليلتحقَ بشركة النفط السعوديّة فجرى تعيينه ممرّضًا في الظهران، فانتقل إليها مع زوجته وتركَ أولاده في عهدة جدّيهما في منزل فسيح في بستان واسع في الرويس، في أعالي برج البراجنة.

ولكم كنتُ أتمنّى أن يأتي عمّي مرّتين في السنة حتى تكتمل إحدى النعمتيْن عليّ. ولسنوات كنتُ أنتظرُ قدومَ الصّيفِ بفارغ الصّبر فما أن يصلَ عمّي من الظهران حتى أهرعَ إليه فأعود إلى أهلي جذلانَ فرحًا ألتذُّ بطعم قالب الشوكولاتة محشوًّا بجوز الهند.

كان عمّي يمضي شهرَ إجازته في حديقة سكن أهل زوجته جالسًا سحابةَ النهار على كرسيّ قشًّا نافثًا دخان سيجارته، وكان يحضرُ سجائره معه من الظهران، كما كان يحضر معه أيضًا قوالب الشوكولاتة، محدّقًا في البعيد نحو نخلتيْن في تلك الحديقة، ومُنصتًا إلى نشرة الأخبار بالعربية من هيئة الإذاعة البريطانية إلّا أنه لم يكن يهتزّ لسماعِ خبرٍ عن فاجعةٍ أو مأساةٍ، فكان همُّه نفثَ دخان السيجارة وإدامة النظر في هاتين النخلتيْن، فكأن فيهما سرًّا يسعى إلى فكِّ لغزه.

ثمّ أنّي جزعتُ وهلعتُ لمّا سمعتُ ذات ليلةٍ من أهلي أنّ عمّي عزمَ على الهجرة إلى أميركا رأسًا من الظهران إذ يئسَ من العودة إلى مسقطه في الجليل، وأنّه لن يتوقّف في بيروت، فأدركتُ ساعتئذٍ مدى الخسارة اللاحقة بي من جرّاء هجرة عمّي إلى أميركا، فلم يغمض لي جفنٌ تلك الليلة إذ أدركتُ أن المصيبةَ واقعةٌ لا محالة.

لكن مأساتي هذه بهجرة عمّي إلى أميركا وانحباس رزق الشوكولاتة عنّي خفّ وجعُها عليّ بالقياس إلى الواقعة العظمى بنزول هزيمةٍ لم يكن بدٌّ منها على جانبيْ ترعة السويس والهلال الخصيب، فرُجّتْ الأرضُ رَجًّا، ودُكّتْ الدنيا دَكًّا، ودُفنَ الناسُ أحياءً.

ثمّ مرّ عليّ زمن كنتُ فيه حزينًا جرّاء هاتين الواقعتيْن إلى أن انشغلتُ بالسياسة وإنْ بقيَ حزني فيّ باطنًا ولكن إلى أمدٍ، إذ سعدتُ إثر وقوعي فيما أقنعتُ نفسي بأنّه غرامٌ عذبٌ. وكان ذلك إثر النزوح الثاني، فنسيتُ عمّي وإن لم يغبْ عن ذائقةِ مخيّلتي طعمُ تلك الشوكولاتة الهانئة، وانصرفتُ، ولو إلى حين، إلى إقناع نفسي بالغرامِ العذبِ، ولو من جانبي، فما أن كان النزوح الثالث حتى سئمتْ روحي نفسي وازددتُ كَرْبًا، مُدركًا أنّ لكلّ غرضٍ وقتًا، وأنّ ليس من صدّيق يصنع الخيرَ بدون أن يخطئ وأقررتُ بخطأي، إلّا أني لم أَلُمْ نفسي، بل عذرتُها، وعلمتُ، وإن متأخرًا، أني لو زِدْتُ نعمةً لما فارقتني كآبة الروح، فعطفتُ على نفسي أُؤنسها، وعزّيتها بأن الآتي أعظم وأدهى.

ثمّ أني صرفتُ رَدحًا من حياتي أنتقلُ من نزوحٍ إلى نزوحٍ، فعجبتُ لخفّة قدمي في النُّقلة، ولمّا تكاثرتْ عليّ النُزُح وما عُدت قادرًا على حمل أعبائها لجأتُ قانعًا طائعًا راغبًا، بملء إرادتي، إلى منفىً هانئ على سفح سكينة يطلّ على ما شُبّه لي أنه فردوس أرضي، فنزلتُ إليه وإذ على بابه صبيّةٌ فائقةُ الحسنِ رحّبتْ بقدومي، وحين تفحّصتُ هيئتَها أدركتُ أنّها نفسها من كنتُ أراها على شرفة أهلها تبتسمُ لي وأنا ذاهبٌ إلى سكن عمّي صيفًا وأنا عائدٌ منه ثم تختفي عن الشرفة، وبقيتُ أراها في أحلامي تبتسمُ لي ثمّ تختفي، ولمّا أدركتْ هولَ صدمتي لمرآها هناك تحرسُ بابَ الفردوس الأرضي بادرتْني أن أُهدّئ من روعي وقادتْني إلى جذع نخلة وناولتني قوالب شوكولاتة هي نفسها التي عهدتُ تذوّقها كلّما وفد عمّي من الظهران إلى بيروت، فنعمتُ باللذّة نفسِها التي نعمتُ بها طيلةَ زمن ولّى، ثم قادتني مُمسكةً بيدي إلى روضة غنّاء جلسَ في وسطها شيخٌ جليل بنظّارتيْن سميكتيْن في يده "ديوان الخليل" فأدركتُ رأسًا أنه خليل مطران، شاعر القطريْن. اقتربتُ منه وسألتُه ألستَ صاحب قصيدة "المساء"، فأجاب بلى. عندئذٍ تجرّأتُ وطلبتُ منه أن يقرأَ عليّ أحبَّ بيتيْن إلى قلبه من قصيدته، فصدحَ بصوتٍ متهدّج:

داءٌ ألمّ حسبتُ فيه شفائي
من صَبوتي فتضاعفتْ بُرحائي
يا للضعيفيْن استبدّا بي
وما في الظّلمِ مثل تحكّم الضُّعفاءِ

ثمّ شاهدتُ على مقربة شابًّا في شرخ الشباب يتّكئ ساهيًا محتارًا على بندقيّة صيد فيما هو يحدّق في أُفق غير مرئي، فقلتُ لعلّه خليل حاوي صاحب قصيدة "الجسر" التمّوزيّة، ولم يخطئ حدسي إذ سمعته ينشدُ هَمْسًا مخاطبًا نفسه:

سوف يمضون وتبقى
فارغَ الكفّيْن وحيدْ

ثمّ أشار عليّ أن ألتفتَ إلى شجرة متشابكة الأغصان جلس في أفيائها صديقه بدر شاكر السيّاب صاحب "أُنشودة المطر"، فاقتربت منه وألقيتُ عليه التحيّة فردّ بلهجته البصراويّة بأحسنَ منها وانتبهتُ إلى نحولِه وعينيْه الغائرتيْن وإلى مسبحةٍ في يده يكرّ حبّاتها على مهلٍ، فيما قرأ عليّ ما رأيتُه أغزل أبيات في ديوان العرب عند منتصف القرن العشرين:

عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحرْ
أو شرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تبسمان تورقُ الكروم

وقبل أن أُودّعه سألتُه عن رفيقه توفيق صايغ صاحب "من الأعماق صرختُ إليك يا موت"، أجاب تقصدُ صاحب القصيدة ك، إنه هناك عند بحيرة الجليل، هو إرميا الحداثة ساعة شبكَ مأساة غرامه بفقدانه وطنه بقوله "أجئتِ تعيدين عليّ مأساةَ بلادي؟" فانطلقتُ إليه وحين رأيت عنوان الكتاب في يده منعكسًا على صفحة البحيرة "رسالة الغفران" لم أُزعج سكينتَه، هو القائل "العزلةُ وِصَال". عند ضفّة بحر الجليل المقابلة لمحتُ تدفّق بَردى وعندها وقفَ عمر أبو ريشة بقامته الفارعة فسرتُ إليه وسمعتُه يهدرُ بأبياتٍ له كُنتُ حفظتها زمن النعيمِ في بيروت:

أُمّتي! كم غصّةٍ داميةٍ
خنقتْ نجوى عُلاكِ في فمي
كيف أغضيتِ على الذلّ ولم
تنفضي عنك غبارَ التُّهمِ

وعند ملتقى برَدى بالنيل على الدّلتا وقفَ شاعرُ "الكرنك" أحمد فتحي شاخصًا معابدَ الأُقصر وإلى جانبه جلسَ على كرسيّ محمد عبد الوهاب يعزفُ على عود ويشدو قصيدتَه تلك ويمعنُ في ترديد بيتيْن، مثنىً وثلاثَ ورباعَ:

ها هنا الوادي وكم من ملكِ
صارعَ الدهرَ بظلِّ الكرنكِ
أين يا أطلالُ جُندُ الغالبِ
أين آمونُ وصوتُ الراهبِ

وفجأة ظهرتْ الصبيّة الحسناء أمامي وأعلمتْني بضرورة العودة إلى أهلي فأخرجتْني من سرداب إلى فضاءٍ رحبٍ في وسطه بستان فسيح حيث كان يجلس فيه عمّي فيما مضى وقبل هجرته الأميركية، مُنصتًا إلى نشرة أخبار هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية، نافثًا دخان سيجارته محدّقًا في البعيد نحو النخلتيْن نفسهما فأدركتُ ساعتئذٍ أنّي غبتُ طويلًا في الفردوس الأرضي ولا بدّ أن عمّي طالت هجرته فسرتُ كئيبًا إلى حيث أهلي وتلفتّ إلى الشرفة عينها فلم أرَ للصبيّة أثرًا، بل شاهدتُ على حافة شرفة أهلها عندليبًا، فهل تحوّلتْ الصبيّةُ إلى عندليب؟ ما ذكّرني بما كان يصدحُ به يوسف الخطيب من صوت فلسطين في إذاعة دمشق "إلى الزاحفين غدًا على بطاح الجليل وكثبان النقب"، زمنَ النزوح الأوّل، إذ رأى عندليبًا وافدًا من مسقطه، فخاطبَه بصوته الجمهوري:

أتراكَ مثلي يا رفيقُ تمرّ في الزمنِ
عبرَ الممالكِ والليالي السودِ والمحنِ
لكأنّ في عينيك بعض اللمحِ من وطني

وأكملتُ طريقي إلى أهلي فوجدتُ ديارَهم قاعًا صَفْصَفًا وكرومَهم يبابًا وزيتونهم قحلًا وتينهم محلًا ولم يؤنسني سوى ذكرى الصبيّة في البال وترنيمة "يا نسمةً تسري إلى ديار الحبيب احكي له سرّي وكيف أحيا غريب"، إلا أنّي لمحتُ في الأُفق البعيد النخلتيْن نفسها أو شُبِّه لي أنهما نفسهما، ومهما يكن من أمر فقد وقعتُ فجأة ومن حيث لا أدري على سرّ النخلتيْن في أبيات مُطيع بن إياس، خير مُمثّل لنقلة الشعر من العصر الأموي إلى العصر العباسي، ما شفى نفسي وأبرأ سقمَها:

أسعِداني يا نخلتيْ حُلوانِ
وأبكيا لي من رَيْب هذا الزمانِ
واعلما أن رَيْبه لم يزل يَفْ
رُقُ بين الأُلّافِ والجيرانِ
أسعِداني وأيقِنا أن نَحْسًَا
سوف يلقاكُما فتفترقانِ
كم رمتني صروفُ هذي الليالي
بفراق الأحباب والخلّانِ
ولعمري لو ذقتما ألمَ الفر
قةِ أبكاكما الذي أبكاني...

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.