سيدي عبد الرحمن يتربع على طاولة واطئة تعلوها طراحة يستحيل معرفة لونها الأصلي. عصاه القصيرة بعقدها التي كالثآليل الملساء، والتي أكثر ما يستعملها في حك ظهره، تخلق رهبة في جميع من في القاعة عندما يهزها، من أطفال الخامسة حتى الشباب الذي تجاوزوا العشرين، ذكورًا وإناثًا، كانوا يرهبون تلك العصا.

الطاولة المخلعة الركيكة كانت تئن بتردد يوافق حركة رأس الشيخ المستمرة، فيما نحن مستغرقين في قراءة السورة بصوت مرتفع قليلًا.

الشيخ الذي أغمض عينيه واستمر في هز رأسه آليًا يصرخ فجأة: صلح، أو صلحي يا (....).

يعود ال (.....) لقراءة الآية بمفرده/ ها، فإذا كانت القراءة سليمة نتابع بعدها، وإلا أعاد الشيخ القراءة السليمة للآية متعمدًا تجويدها ما أمكن له ذلك، مع تعليق يتناول فيه صاحب العلاقة.

كانت الخميسية وقتها فرنكًا سوريًا، أو بيضة، كان من المفروض أن يدفعه كل واحد إلى الخجا، زوجة الشيخ كل يوم خميس. والويل لمن يتخلف عن ذلك، فهو على الأغلب سيتلقى بيتًا، أو بيتين، من الشعر، يطلب منه أن يسمعهما لأبيه في هجاء، أو لقب.

كان البيض سلعة مقايضة في تلك الأيام، حيث يدفع للبقال (الدكنجي) بيضة مقابل الخيوط، أو الإبر، أو علب الكبريت. وكانت جدتي التي تجمع البيض لتبيعه آخر الشهر لأبي العز، كل عشرين بيضة بليرة في هذا الشهر، وتسع عشرة في الشهر الذي يليه، تدخل في حوار شاق مع أبي العز، فهي ما زالت تذكر أنها أعطته الشهر الماضي عشرين، وهو يؤكد أنه أخذ تسع عشرة. كانت البيضة موضع جدال كل شهر، وكان أبو العز الطرف الرابح في الغالب.

على المبتدئ أن يأتي بقطعة خشبية مستطيلة لها مقبض تشبه مضرب كرة الطاولة ليكتب عليها الشيخ الأحرف العربية بالترتيب الألفبائي. من أجل أن يحفظها بالتكرار الممل، وغالبًا ما كان يستعيرها اللاحق من السابق.

في المرحلة الثانية، ينتقل إلى الصبارة:

وهي كتيب يتألف من عدة أوراق صفراء هشة تحتوي أحرف الهجاء بترتيبها الألفبائي: ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ه و ي.

وترتيبها الأبجدي: ا ب ج د ه و ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ (والجدير ذكره أن الترتيب الأبجدي يستخدم في حساب الجمل: يأخذ حرف الألف رقم واحد، والباء رقم اثنين.... وهكذا الياء رقم عشرة، والقاف رقم مئة، وأخيرًا الغين رقم ألف).

في الصبارة كانت أحرف الهجاء تورد مشكولة بجميع الحركات، وكنا نقرأها بطريقة موسيقية:

ألف نصبه أ، ألف خفضة إي، ألف رفعه أو، ألف جزمه أْء.... وهكذا.

بعد الانتهاء من حفظ الأحرف وحركاتها ننتقل إلى حفظ الفاتحة، وبعدها الى أجزاء القرآن مبتدئين بالسور القصار، حتى نختم بسورة البقرة.

على كل من يصل إلى: سبح باسم ربك الأعلى، الذي... أن يجلب في اليوم الثاني ديكًا مفتخرًا إلى الخجا أم عبد السميع. ومن العار أن يتخلف أحد عن ذلك، لأنها تعد نقيصة.

بعد ختم القرآن، تبدأ مرحلة الكتابة والإملاء، ثم عمليات الحساب الأربع (الجمع والطرح والضرب والقسمة).

ومما أذكره من تلك الفترة ميزان الضرب، والتأكد من عملية الضرب، وهي: ترسم إشارة الضرب، ثم تجمع أرقام العدد المضروب، وكلما صار الجمع تسعة تصفرها، والباقي تضعه في الربع الأعلى، ثم تأخذ العدد المضروب به، وتقوم بالخطوات نفسها، وتضع العدد الزائد عن حذف التسعة في الربع الأسفل، وتضرب العددين، ثم تحذف التسعة من الناتج وتضع النتيجة على اليمين، تأخذ ناتج الضرب وتحذف منه التسعة، وتضعه في الربع الأيسر، إذا تساوى العدد الأيمن مع الأيسر تكون العملية صحيحة.

أخي الذي يصغرني بسنتين أمضى أكثر من عام في الكتّاب من دون أن يتعلم شيئًا، حتى قال سيدي الشيخ إنه غير قابل للعلم، ولكنه ظل محافظًا على تفوقه الدراسي من المرحلة الابتدائية حتى حصل على منحة التفوق البالغة 180 ليرة سورية شهريًا على الشهادة الثانوية، حتى تخرّج من كلية الطب في جامعة دمشق.