}

رزيدنسي... (2/2)

راجي بطحيش 30 ديسمبر 2024
يوميات رزيدنسي... (2/2)
(أسامة دياب)

تعريف:
كتبت هذه النصوص اليومية في أثناء برنامج إقامة فنية بعنوان "مختبر الترجمة" في شمال ولاية نيويورك، وانتهت قبل يومين من دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل حيز التنفيذ.
هنا القسم الثاني والأخير:


(6)
أحاول الحفاظ على انتظام الكتابة... سلاستها... منذ سنة وشهر لم أكتب شيئًا... نسيت أنني كاتب أصلًا... ملأت النقاط المتتابعة أيامي... نقطتان ثم ثلاث نقاط... كان الهم الوحيد أثناء ذلك أن أخفض ضغط الدم، وأقلل من وتيرة نبضات القلب، ومنسوب الحقد والكراهية، وغواية الشماتة، والرغبة في الانتقام... ليس بالمبادرة إلى فعل ما، بل بسماعه... حتى ذلك كنت أتكاسل في فعله... بت أتلذذ في فنون الشماتة وعلومها... النظري منها والعملي... بشرط عدم المخاطرة في زيادة وتيرة دفق الدم، وتضخم عضلة القلب، وتقلص الأوعية الدموية، وتداعي مستوى السكريات في الدم... أحاول من على هذه التلة المطلة على جنوب الأرض وشقائها أن أتأمل النجوم في الليل، أن أرصد حركتها، وأن أميز بين الطائرات الليلية العملاقة التي تستلم تباعًا أذونات الهبوط في أحد مطارات نيويورك، أو بقية اليابسة المتخيلة من هنا... من هذه النقطة... التي هبطت فيها بجناحين مصنوعين من مواد مكررة كي لا تخدش مشاعر أي من هذه الغزلان الحالمة التي تنام قرب عتبتي... يقولان إن القمر كامل في هذه الأيام، ولكني لا أراه فوقي... يقولون إنه من خلفنا، ولكني أخاف الالتفات نحو الخلف كي لا أكتشف الحقيقة... حقيقة تناسل تلك الغزلان عبر أدراج كهربائية عبر وجه القمر... أحاول من على هذه التلة المطلة على جنوب الأرض وشقائها أن أمسك بأحد الغزلان الميلادية وهي تتزلج عبر سكة مضيئة نحو هذه اليابسة السعيدة والخاوية، ولكنني أفتح التلفاز بدلًا من ذلك... ليس عبر شاشة لويحية كبيرة مثبتة على حائط أميركي، بل عبر شاشة متواضعة ملبدة بالغبار، وبعصارات البؤس الذي كنت قد سحبته معي من هناك... وعندها ينتابني سجال ضمني... هل أحلق عن سطح الأرض قليلًا لأعانق غزالًا صغيرًا قبل وصوله أرضًا ثم فراره واختفائه... أم أباشر لعبة ضبط نبضاتي القلبية والدماغية، وضغط دمي القلب، ومنسوب الحقد والكراهية، وغواية الشماتة، والرغبة في الانتقام... عبر الصراخ عاليًا وسط هذا الخواء المتكدس، وطبقات النور التي من المفترض أن تكون مستلقية في ديار الميلاد، لكن وكما يبدو فإن ذلك أيضًا تمت سرقته وإزاحته إلى هنا... وُلد المسيح هنا... في شمال ولاية نيويورك، ليس بعيدًا عن شلالات نياغارا... هنا وُلد المسيح... عبر الصراخ عاليًا وسط هذا الخواء قد أجعل بعض الغزلان المستلقية عند عتبتي تفر هاربة نحو السماء... لأخسر كل شيء... كما يحدث دائمًا...

(7)
لا أريد أكثر من هذا... أكثر من أن أفتح ستارتي لأجد جرو غزال مرقطًا يشم زجاجي ولا يهرب عند رؤيتي... أريد فقط ألا يسرق مني تلك اللحظة، ألا يبقيها مستحيلة، أو مأخوذة من الخيال العلمي... أريده أن يبقى... يضبط نفسه في مكانها... ينتظرني حتى أفتح الزجاج والشبك الخارجي لأضمه طويلًا ويلعقني من وجهي وأسفل أذني لمدة أطول مما توقعت، هكذا أريد أن يبدأ يومي... قبل القهوة، وقبل السيجارة الأولى حتى... هذا أقصى طموحاتي أن أبني لغة عيون من دون لهجات مغرضة، مع غزال صغير بالكاد وُلد قبل أيام وقد أودعته والدته عند عتبتي، أمانة في عنقي، وهي متأكدة من جهتها أنني سأطعمه جيدًا، وسأسقيه كلما نظر إلي وفهمت من دون أن يتكلم ما الذي يرغب في قوله، وأن نخرج في نزهة عشبية خضراء شاسعة من دون أن يضيعَ، أو يفر، ثم نعود لنستلقي كل في مكانه مع الحفاظ على مسار ثابت وحاد للنظر المتبادل بيننا من وراء الزجاج كي نقول ما قد لا يقال، ونهمس بما قد لا يُسمع جليًا... آسف يا غزالي الوديع... لن يسمح لك سجانِيَّ المقنَّعِون بتخطي حدود الزجاج، والاستلقاء قربي هنا على هذا الفراش الأزرق الذي يليق بك ويتلاءم مع النقاط البنية التي ترقط جلدك الناعم اليسوعي، ولكن وجودك العذب هنا سينتهك نظامًا ما أكبر مني ومنك، لا أعرف ما هو الضرر الذي ستحدثه في غرفتي بالضبط إن أنت استلقيت هنا... عند حافتي... عند حافة قدرتي على فهم ما يسمى بـ"القهر" من هنا... من هذا الفراغ المكوّر داخلي، داخل قفصي الصدري، والمعبأ بالقهر... بغاز لا أعرف أين النقطة التي يتوجب علي أن أثقبها كي يتحرر الغاز إلى مثواه الأخير، ظننت أنني سأتحرر من وجع القهر أيها الغزال حينما أراك تسرح وتمرح خارج مطل قضباني، ولكن غيابك وحضورك المتملص دائمًا مني رفع من تركيز غاز القهر في فراغ جوفي، حتى صرت أدمع لمجرد التذكر أنك قد تكون قريبًا جدًا مني الآن.




ومع ذلك ستهرب مني فور رؤيتي مع أنك قد تعرف (أو لا) أن ثمة فوهة بندقية تتربص بك هناك ليس ببعيد، قرب بيت خشبي مقطوع في الغابة تربي العائلة فيه كثيرًا من الحيوانات البيتية الأليفة، بينما تتلخص أكلتها المفضلة بالسبانخ المطهو بلحم غزال حديث الولادة... حيث يكون لحمه طريًا يذوب ذوبانًا في الفم كما نقول... وعظامه سهلة القضم وغير قاسية ولا تؤذي الجهاز الهضمي... للكلاب.

(8)
أعبئ هذا الصمت السحيق بالنفايات، كمنشأة فنية متكلفة لم يفهمها أحد، وهي أصلًا لا تدرك معنىً لذلك، يتوافد عليها طلاب الثانويات ضمن رحلات هرمونية، يملؤون الهاوية الفنية بأغلفة العلكة، والعوازل المستعملة، والبصاق، وأحيانًا بالقيء الأصفر حين يتجاوز أحدهم، أو إحداهن، حاجز القدرة على تحمل كل ذلك الجمال والرتابة وخداع شمس الخريف... كمنشأة فنية ملت من نفسها، ومن أن تكون هي... سئمت المنشأة من كونها أنا... مغلفة بجدارات دقيقة من السخرية السوداء، وغياب الرقابة الذاتية على الكلام، والغرائزية اليائسة الجارية في نبع للمياه العادمة السامة ربما... حيث تجف تلقائيًا عند ملامستها غازات الهواء قبل وصولها لأي ثقب، أو جحر لحيوانات طريفة يتلقفها... لكن كرة الصمت في الداخل لا تتوقف عن التضخم، لتصبح أشبه بالقبة المغلقة ثنائية الرأس. وها أنا أحاول تنفيس منطاد الصمت العملاق العالق في داخلي، ولكن كل ما يستقر داخل فراغ الصمت هذا هو نفايات وركام من بيوت مختلفة، حتى أنها لا تتجاور ولا تقع في الشارع نفسه، أو في المحلة، أو المدينة، أو الديار، ثمة ركام يتساقط علي ليلًا من الجنة... أحصن المنطاد بالألم الهلامي منزوع الهوية الزمكانية... من نافذة واحدة تطل أمي تسألني أين أنا... ومن نافذة أخرى، أو فلنقل شرفة، يحلق وجه أبي... يبتسم لي بوجهه البهي ليعلن لي أنه راضٍ عما آلت إليه أموري التي لا أفهم أصلًا كيف أعربها، أو أقيمها، حين أستيقظ صباحًا لأمضي إلى شؤوني اليومية بعدها... ومن شاشة الحاسوب يطل طيف جدتي بابتسامتها النزقة، التي سرعان ما تتحول لنظرة عتاب لا تخلو من اللؤم المجبول بالإحباط... أنظر إلى نفسك في الشاشة... متى ستقص شعرك عند حلاق طبيعي... هل يعجبك شكلك؟ يبتلع الشعر وجهك، والشيب روحك، ويبدو حاجباك مثل مكنسة القش التي كنت أستخدمها لتنظيف السجاد الفارسي في الشتاء... متى ستذهب إلى حلاق عادي يتقن القصات العادية التي تليق بالرجال الحقيقيين، ممن هم على شاكلتك. هي لا تعرف، ربما، أنني أتعمد إطلاق الشعر ليغزو ويحتل وجهي كي لا أشاهد هاوية الصمت داخل عيوني/ها/ه/هم.

(9)
عندما تذهبون للنوم بتوقيتكم، تصبح السماء ملكي. يمكنني الآن أن أعد النجوم، وأوصل خطوطًا سحرية بينها من دون أن أخشى أن تكون تلك طائراتٍ مسيرةً، أو أجسامًا معادية غريبة. وأنتم نائمون تبدأ حياة جديدة... منصة خلاقة من الصمت تنتهكها أصوات خفيفة لغزال يشعر بالبرد، أو سنجاب كان قد التهم الثمار الجافة وشحيحة الرطوبة ولا يزال جائعًا... وها هو يتأوه بطريقته الخجولة... عندما تخلدون إلى النوم تتفتح السماء فوقي... تطلق أضواءها الخفية. بعض السحب الكثيفة تحجب نور القمر، ما يشكل طبقات وطبقات أخرى من الضوء، وكأن السماء تتقيأ ما علق فيها من شظايا الليل الغائر في الجهة الأخرى من الأرض. السماء تخجل من خطايا الآخرين، فتحول نيرانهم وشظاياهم إلى أحزمة نور يمكنني أن ألامسها الآن إن شئت، ولكنني أكتفي بمراقبتها من بعيد، مقدرًا حجمي الوضيع وسط هذا الخواء الأسود المنير بخجل مثل أي غزال، أو دب، أو سنجاب، أو نوع من الأرانب... لا أعرف حتى ما هو جنسه، أو الجذور التي ينحدر منها. السماء السحيقة أعظم مني، وأي ضوء يتناسل منها وأنتم نيام هو مجرد ظاهرة ضوئية دفعتها الصدفة، والصدفة فقط... وأنتم نيام تستغرقون في الحلم تتوارد أخبار قصف مبنى من أربع طوابق في ذات فجر... أصوات الاستغاثة الأخيرة قبل الذهاب تصمّ آذان سبعين شخصًا... ثمانين... ستة وتسعين... أغلق هاتفي... أضعه على وضعية الطيران... ثم أندم على ذلك... أفتحه... لا يوجد من يغيث هؤلاء العالقين تحت الركام... لقد دّمرت سبل الإغاثة كافة... أضعه على وضعية الطيران مجددًا... لا تتوقف أصوات الاستغاثة... غزلان... دببة... قنافد... أرانب... سناجب... نعود أدراجنا إلى منزل الإقامة الفنية.... تخترق السماء أصوات مروحيات... كثير منها... وأصوات صفارات إنذار.... رائحة حريق أخشاب تملأ الجو... رائحة ذوبان أشواك القنافذ تصارع لتصل هي أيضًا... أعتقد أنني نسيت المدفأة مشتعلة وعليها خرقة قماش مسحت بها هواجسي... لكن الرائحة تصدر من الخارج... وها هي تتعاظم.... رائحة حرق اللحم البشري لم تصل بعد... عندما تذهبون إلى النوم بتوقيتكم.... تبدو الحياة بتوقيتي كمسلسل متوسط الجودة تم إنتاجه لتعبئة الوقت... ريثما تفصح السماء عما تريده بالضبط...

(10)
أحاول جاهدًا أن أتمم اللوحة، أو أن أكتب لغاية ثلاثة آلاف كلمة بالضبط... ربما كلمتين، أو ثلاثة، أكثر، أو ربما عشر كلمات أيضًا... فالمطر هنا يوزع الألوان ويفرز بينها بشكل حاد للغاية... أوراق شجر الكستناء المتساقطة منذ سبتمبر تتحول إلى سجادة برتقالية تتوسط كل هذا الأخضر... ما أن يمسها ماء الشتاء تمعن الأوراق في برتقاليتها، وتوغل الأعشاب في اخضرارها، وأغصان الشجر في عريها، وخاصة أن الماء يقوم بغسل ما علق عليها من غبار وكبريت ورماد ذكريات ستحترق حتمًا حين سنغادر، عيدان الشجر العاري يغدو دامعًا... مع أن الدموع تقف طويلًا على مستوى النظر قبل أن تسقط ليأتي غيرها، ومن ثم غيرها، مع أنها تبدو وكأنها ذات القطرة المتجمدة في مكانها، قبل أن تسقط على ورقة أخرى سقطت هي منذ زمن... لكنني ومع ذلك شاهدتك في الحلم... رأيتك تمشي على البحر، فدعوتك إلي... ما زلت أشعر بتلك الجاهزية الجسدية لتبادل القبل خلسة في أي لحظة متاحة، نلامس بعضنا في المصعد بنزق، وكأننا في عام 2003... لم يتغير شيء من عشرين ونيف... المراهقة ذاتها، والشغب والطفولة، وكأننا صبيان يكتشفان عريهما سوية، وكأنني ما زلت ألعب اللعبة الثلاثينية الشبقة ذاتها... أستنشق كل ذاك البياض، أستعيره، أسرقه، أطويه داخلي في أحشائي... قبل أن يتحول إلى كتلة جمرية حمراء، من الصعب إخمادها الآن كأوراق الكستناء الصفراء المغبرة ما إن يمسها مطر غزير تصبح جمرة برتقالية من المستحيل خلطها بأوراق أخرى قبل أن تشرق شمس النبضات المنتظمة...

(11)
هنا يحاول كل أن يتعالى على وحدته خوفًا من أن يشعر بها، أن يعترف بها ويتكلم عنها أمام الآخرين... في قطار نيويورك السفلي كل يرتدي الأسود، ثمة بقع برتقالية تظهر فجأة، ولكنها عادة ما تكون متسخة، ملوثة... أو كما يقولون نجسة... عندما يموت كل واحد منا ستنتهي الوحدة... ستنتهي الحروب، سينتهي التاريخ، ستنتهي الجغرافيا، سيدخل كل منا في ظلمة سحيقة لا نهاية لها، لن يتوقف قطارها في محطة تالية بعد دقائق، أو ساعات، أو أيام... كيف يقيس كل منا الوقت الذي يمر عبر وحدته المظلمة من دون أن يرتدي البرتقالي، أو أقمشة عاكسة للضوء، أو أحذية شديدة التلون، بحيث تكسر هذه العتمة قليلًا... تتحايل امرأة على وحدتها بالبكاء، وأخرى بالضحك بصوت عال، وآخرون بإلقاء خطب محكمة عن الحياة وفلسفتها، وعن الله، بينما يسرد آخرون حكايات عن مؤامرات كونية تتربص بالجميع إن كانت لم تبدأ بعد... تلك اللحظة التي أقول فيها لنفسي التي سترافقني عبر سراديب العتمة... ليتنا وصلنا الآن إلى هنا... لكن ساحة بيتنا التي كانت مظللة بأوهام الزيتون، وأطياف من تلاشوا، ما زالت تنتظرني كي أنظفها من ركام الأوراق!

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
30 ديسمبر 2024
يوميات
19 ديسمبر 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.