}

فائض القهر في الرقة

ملكة العائد 1 يناير 2025
يوميات فائض القهر في الرقة
إبراهيم برغود، سورية


"المأخوذ مع ربعو مو مأخوذ".

هكذا يقول مثل في الرقة لا بد أن له معادلًا في مدن سورية، وبلاد أخرى.

ردّده من يعرفه من أهل الرقة، ومارسه آخرون، ضمنًا، حتى لو لم يسمعوا به. استعانوا به على موت أبنائهم بالقصف، أو القتل، أو القصاص المعلن وغير المعلن. استعانوا به على هدم بيوتهم، ونزوحهم، ولجوئهم، وتجربتهم الفظيعة المضاعفة في الألم والنوعية طوال هذه السنوات الثلاث عشرة من أوديسة السوريين. نصيبهم من ذلك يفيض على طاقة تحملهم، من هدر للكرامة، وللحياة، بكل الأشكال، حتى انقطعوا حرفيًا عن أي صلة لهم بالحياة خارج مدينتهم، التي تحولت إلى سجن كبير معبأ بهواء الخوف والضغط اليومي الذي وصل بهم إلى مستويات أسفل من الحضيض.

سقط النظام فجأة، وسقطت عائلة الأسد، وتتابع التحرير المتسارع للمدن السورية. شدّهم الأمل، وانتظروا دورهم متأهبين. مرّت أيام ولم يحدث شيء غير مناوشات خارج الرقة تدفعهم إلى الأمل، ثم تسلمهم لليأس. بقسوة بحثوا عن مثل آخر يرافقهم، ويحمل معهم هذا الغموض، ليعينهم، لكن يبدو أن جعبة تراثهم فارغة. مع ذلك ظلت عيونهم معلقة بالأخبار بعد أيام من رفع العلم الأخضر، متابعين الاحتفالات في باقي المدن، وفجأة رفع العلم نفسه في ساحة النعيم في الرقة.

لا شيء واضحًا، هل هو قرار متخبط من الإدارة الذاتية لـ قسد؟ هل قرر الناس أن يغامروا ويحتفلوا؟ هل هو مجرد فخ لبدء حملة ترويع واعتقال كل من احتفل؟ لا شيء واضحًا. احتفل الناس لدقائق، وبدأ إطلاق الرصاص في أماكن عدة، منها دوار النعيم، وللصدفة، أو للتدبير، انطلق رشاش أحد المحتفلين. لا نعرف من هو، ولا كيف كان لديه رشاش. هل تصرف بعفوية، أم دفع دفعًا للاحتفال بهذه الطريقة ليبرر ما حدث لاحقًا. هذا الشخص التقطته الكاميرات، وعرض على شاشات، مثل العربية، على أنه من أصاب المحتفلين بالرصاص، مع أن كل الموجودين أكدوا أنه لم يصب أحد وقتها. في أماكن أخرى، جرى إطلاق الرصاص بعيدًا عن الكاميرا، فأُصيب عشرات بجروح وهم يرقصون. شباب مندفع بنشوة الاحتفال يقفزون ويرقصون. تخيل هذا المشهد: رصاصة تخترق جسد شاب فيهدر دم حار مليء بالنشوة، تخترقه رصاصة تحدث ثقبًا يمتص كل هذه النشوة. كل هذه النشوة تسقط في ثقب بالعين لشخص يكاد أن يعبر المراهقة ولا ينجح، شاب هو أحد جيراننا في بيتنا القديم الذي تهدم بطائرات التحالف يعمل أبوه في سوق الخضار المجاور لبيتنا.

في مكان آخر من شارع تل أبيض، يقف ياسر، الابن الوحيد للمرحوم ناصر جارنا الملاصق لبيتنا القديم أيضًا. لم يرث ياسر من أبيه إلا فقره وبساطته وعربة خشبية يبيع عليها الخضار كانت مصدر رزق أبيه الذي توفي مبكرًا، فأصبحت هذه العربة مصدر رزق العائلة. طورها ياسر قليلًا، وبدل البضاعة إلى شيء لا يفسد مثل الخضار، ووضع عليها علبًا تحوي مكسرات بطريقة أنيقة لفتت أنظار الناس، ولفتت جيوب موظفي المنظمات ربما للشراء منه تعاطفًا، وبعض ممن يمتلكون ترف شراء المكسرات. لا أدري إن كان ياسر أحد المحتفلين. أقدر أنه ربما شارك من بعيد بهتاف، أو حركة من يده، فهو لا يستطيع ترك عربته في هذه المعمعة، لكن نصيبه من الرصاص جاءه من بعيد، ففتح طاقة بالرأس لم تمته، لكنها أوصلته إلى المستشفى مع الجرحى المحتفلين، وأرغمته على ترك عربته كارهًا، في اليوم نفسه الذي جرى فيه اعتقال الجرحى من المستشفيات. استطاع أهل ياسر تهريبه من المستشفى، وأخذه إلى البيت، رغم إصابته الخطيرة، فهم أبسط من أن يواجهوا تهمة وجود رصاصة وجرح في الرأس قد تؤكد تهمة مشاركة ابنهم بالاحتفال مثل عشرات الجرحى المتهمين بالرقص.

التزم ياسر منذ تلك الساعة بفراشه، وطبق الحظر المفروض على أهل البلد من السادسة مساء حتى شروق الشمس، فأي شخص يتحرك بعد ساعة الحظر له رصاصة كرصاصة ياسر، رصاصة أميركية موجهة بليزر لا يخطئ.

يسمع أهل البلد أصوات الرصاص، ولا يعرفون ماذا يحصل في الليل، الذي أصبح وقتًا للتشبيح والترويع في شوارعها لعناصر قسد الذين يجوبون الشوارع بسياراتهم ويطلقون الصيحات، ويكتفي الناس بالقهر طوال الليل، قهر سيتركونه في البيوت صباحًا، ليرتدوا وجوهًا جامدة خالية من الانفعالات، وأيد مسبلة لا توحي بالاحتفال، وهو شيء تعلموه في زمن النظام، وفي زمن داعش، ولا يملكون غيره كآلية دفاع للبقاء، مجرد البقاء. استمر معهم هذا الحال مع قسد، التي لم تحاول حتى أن تجد طرقًا أخرى للسيطرة على هذا البلد غير القوة، الشيء الوحيد الذي حرصت عليه طوال هذه الأعوام ليس بالتأكيد العيش المشترك وأخوة الشعوب تحت شعار فج هش لم يستطع أن يكسبهم ود الناس في البلد، البلد التي لطالما روعوا أهلها بحملات مداهمة متكررة على بيوتهم بحجة البحث عن سلاح يعرفون أنه غير موجود، فحدودهم محكمة وتقتصر على دخول وخروج البشر، فكيف بالسلاح!

هذا الأسلوب غير مستغرب، لكن أن يحدث هذا بعد سقوط الأسد، وبعد أن تحرّرت سورية، والناس في الشام مشغولون بشكل الدولة، العلمانية، أو غيرها، فهذا يفيض عن طاقة القهر، وما تبقى من قدرة الفهم.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
1 يناير 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.