أتواصل في هذه الآونة مع رفاق ورفيقات انقطعت أخبارهم منذ زمن طويل، تقريبًا لا نقول شيئًا ذا معنى، نتصل لنطمئن كأنما إلى فكرة أن لا شيء يبعث على الاطمئنان أو كي نستمع إلى صوتنا الخاص. نقول أحيانًا نكتًا رديئة ونسرّ بها، كل تلك أدلة دامغة على الحياة نحتاجها حاليًا. بصعوبة نخترع موادًا للثرثرة، نصل منهكين إلى آخر الحديث بالرغم من أن أي جهد لم يبذل بخلاف احتواء انهيار عصبي لا تأذن به الحرب أو ربما تجنب نوبة بكاء جماعية، لا تسمح بها الطاقة الحالية. نتفق على موعد ما مبهم، لا يبدو أن له من مكان أو زمان، بحسب ما ستؤول إليه الأمور. نغلق الهاتف ونتشبث بذلك المكان الغامض في الذهن وبكل تلك الأمكنة الأخرى، محال للقاءات أخرى مستقبلية، وكأنما نركّب مدينة أخرى متخيلة نسكن إليها بدل كل أماكننا التي تتساقط كقطع الليغو.
لم يغادرنا المكان للتو، لا بد أن ذلك حدث منذ وقت أطول من أمد الحرب. بدأ ذلك منذ الانهيار الكبير الذي ألمّ بنا، منذ هوت لحظة انتفاضة 17 تشرين وهوينا معها نحو سقوط حر، لم يسمع حتى إيقاعه، فلم يكن قاع ذلك الارتطام العنيف سوى الصمت، ذلك لا بد ما كان أكثر إيلامًا. دخل البلد منذها في حلم انهيار تدريجي وبطيء يحاذي الخدر لم يستفق منه للغرابة إلا وقت اندلاع الحرب، بشكل أدق لما وصلت الحرب إلى العاصمة ومعها أكثر من مليون نازح فروا من مساكنهم في الجنوب تحت وقع المذابح الإسرائيلية. أذكر أنه أثناء حديث جمعني بأحد الأصدقاء قبل الحرب، كنا نحاول أن نبحث في فكرة المدينة التي باتت غريبة أو بتنا غرباء عنها، فتشتت أماكننا التي بالنسبة لنا كانت كل المدينة. لم يعد من مكان مألوف، بل إن الجميع بات يتجنب الأماكن المألوفة وكأنها وشم لخيال سقط وخيالات أخرى وشخوص كانوا في مسرح حياتنا اختفوا أيضًا أو اختفينا عنهم بلا سبب واضح. قلت لصديقي آنذاك: عجيب أن يغادرنا المكان ولم نزل فيها. هنالك مدينة اختفت داخل المدينة نفسها، أو هو وهم المدينة سقط فعادت لكونها مجرد مدينة فعلية من بشر وباطون وطرقات. لم يكن ذلك ذنبها، بل ربما حمّلناها أوهامًا لا تحتمل حتى نفضت عنها كل شيء، بمن فيه نحن. ما بين قديم وجديد يتبادلان الأمكنة في كل حرب جديدة وآليتي الدمار والإعمار المتلازمين في بيروت وكأنهما يجريان في زمن واحد، كان من الصعب أن نضم أشلاء هذه المدينة تحت راية سوى خيالنا الجامع عنها. هو ذلك الخيال الذي ساعدنا لأن نسكن فيها وإليها، وأن نخرج من الهشاشة صوب ما هو أكثر ثباتًا، فمادة الوهم لا تسقط بسهولة كما المكان وأساساته، بل هو العكس تمامًا، إنها تتغذى من غيابه وتداعيه. ربما لهذا السبب تحديدًا، اعتاد اللبنانيون القول لأنفسهم بأن بيروت لا تهزم، بل هي دائمًا حية، صاخبة بالحياة مهما حل بها. ما حدث بعد الانهيار العظيم أن وهم المكان قد سقط وتكشفت خلفه مدينة لم نعد نعرف كيف نتعامل معها فعليًا أو كيف نحتملها، أو تحتملنا.
منذ بدأت الحرب، صار الخوف أن يغادرنا المكان فعليًا وليس فقط وهمه أو أن نغادر الاثنين معًا، وفي ظل كل ذلك يحس المرء فجأة بعلاقة مغايرة مع المكان الذي سبق وفي مرحلة ما أن فك ارتباطه العاطفي به، على الأقل حاول وظن أنه قد نجح ربما. لكن صورة المكان الآن تعود على نحو أكثر عضوية، فيصعب أن تفصل جلدك عنه. الآن تتشارك أنت والمكان نفس المصير ونفس الخوف من الاختفاء الكلي. على نحو حميمي أكثر، أجدني أفكر مثلًا بعلاقتي مع صور وبيتنا في الجنوب. بيت يحمل ذكريات طفولتنا أنا وأخي وعطلنا الصيفية، وعلّه وحده يحمل جانبًا من ذكريات قد يصنّفها المرء بالسعيدة وسط طفولة لا يحلو لي غالبًا تذكّرها. بيت تحولت علاقتنا معه وتأثرت بعوامل حياتنا، فهجرناه لفترة ثم عدنا إليه، لكن في كل مرة كان المكان في استقبالنا وكأننا لم نغادره قط. كان يبدو لي أمرًا مذهلًا على سبيل المثال أنه فور ورودنا إلى الحي، حتى بعد مضي سنوات، أن يتعرّف على الدكنجي أو الصيدلي. هذا مكان لا يُسمح لك فعليًا بالتغرّب عنه، أنا ابنة المكان تقريبًا، شئت أم أبيت. وبالرغم من علاقتي الشائكة مع مفهوم الانتماء بحدّ ذاته، إذ يبدو لي أحيانًا أن الأمكنة الأخف ثقلًا هي تلك التي نبقى فيها زوارًا كغرف الفنادق على سبيل المثال، إلا أنه المكان المهدّد بالاندثار يجبرك على تقفّي أثرك فيه. إنه أثر يتقاطع مع وهم الهوية، ونحتاجه كوهم المدينة.
لسبب غامض، هنالك خارطة الآن تتشكل في الذهن، خارطة كل الأمكنة التي ألفتها أو اغتربت عنها، أمكنة من أزمنة مختلفة تتلاقى لتشكّل مدينة هجينة تعبرها فرادية. كل تفاصيل المكان تظهر فجأة على السطح، كدرجة دفء الشمس، كرائحة الهواء، كملوحة البحر، كأصوات الضوضاء القادمة من الشارع آخر الليل. وكأنما في اللحظة الأخيرة قبل الدمار، تسقط فكرتك عن المكان، فتتمكن وللمرة الأولى من أن تراه بوضوح أو أن تستذكره بأدق تفاصيله. المدينة التي اختفت ذات يوم تعيد تشكيل نفسها وتلمع لبرهة قبل أن تسقط. إنها في تلك اللحظة تورثك كل تفاصيلها، أنت الشاهد هنا على هذا الاختفاء، يخطر لك في تلك الآونة أنك كنت دائمًا ذلك الوهم الذي خلته سقط عنها.
فيما ورد إلينا، بعد إعلان وقف إطلاق النار، نجا البيت الذي عايشناه وسقط لنا بيت آخر، هو بيت العائلة الأولي الذي لأسباب شائكة لم يتسنَّ لي معرفته عن كثب. بيت تخيلته مرارًا من خلال أحاديث جدتي وعمتي. تساءلت مرارًا منذ عرفت بالخبر، كيف لك أن تفقد بيتًا تقريبًا لا تعرفه؟ حزن ما أصابني وكأنه لا يخصني تحديدًا، بل عادت إلى ذهني كل تلك الذكريات المنقولة إليّ، قد اندثر مسرحها ولم يعد لها من مكان سوى فيّ. أنت حامل أثر لوجود لم تشهده حتى لكأنه يسري فيك الآن، ويحملك على تقفيه. إنه أثر رقيق وهش بخفة خطواتك على الرمل، وليس لك إلا أن تتبعه حتى النهاية فيما يختفي كل شيء. علّك لست حامله، علّك أنت ذلك الأثر، الذي يتتبع نفسه.