}

إِنَّهم ينبحون في رأسي

هدى الشماشي 25 يناير 2025
قص إِنَّهم ينبحون في رأسي
(فريد بلكاهية)
عندما دَخَلَ فَصْلِي الدراسي للمرة الأولى حَسِبْتُهُ شَبَحًا. كان الوقتُ متأخرًا جدًا وقد أوقدت شمعتي الوحيدة المتبقية، وحاولتُ جاهدًا ألا أُفَكر بالبرد. يُمْكنُ للعقل أن يصنع المعجزات دائمًا. كُنَّا نعيش بدايات شتاء سنة 1989، وكنت مُدَرِّسًا فوق قمة جبل من جبال الريف، أما الحظ السيئ فكان زيارات الضيوف العابرين.
- هل تَسمحُ لي بالدخول؟
- لا شك أنك قد دخلتَ أصلًا.
بدا شكله يوحي بالغموض المُخيفِ الذي يحيط ِبإنْسانٍ مُتَوَحِّدٍ، وقد قُلْتُ لنفسي منذ البداية بأنه خطر. إنه رجل مريب وعليّ أن أحذر. جلس على كرسي طاولة مدرسية ومَدَّ قدميه الطويلتين بصعوبة فسمعنا طقطقة عظامه بوضوح ثم ضحك من الأمر. كنتُ أَبيتُ ليلتي في قاعة الدرس عندها. يأتي بعض التلاميذ في الصباح الباكر جدًا وتوقظني خطواتهم، وأحيانًا ما أسمع خطوات خلال الليل أيضًا. هذه المرة مثلًا، دار الرجل حول حجرة الدرس ثلاث مرات قبل أن يُقرر أن يطرق الباب، وقد استمعت أنا لصوت تَرَدُّدِهِ بتمعن وتمنيت في الحقيقة أن يرحل. قال لي وهو يُقَدِّمُ لي سيجارة من علبة فارغة تقريبًا: قالوا لي في القرية إن المُعَلِّمَ لا يَطْرُدُ أحدًا.
كُنْتُ قد بنيتُ لي سمعة جيدة من نوع ما حينها. حدث أن صالحتُ متنازعين على شؤون بعض أشجار اللوز، وتَقَدمتهم للصلاة مرتين عندما مات الإمام فأحسّوا بالامتنان لي على الفور، وهكذا توقفتُ عن أن أَكُونَ الرجلَ الغريب، أما قبل ذلك فقد فعلوا كل ما كان بوسعهم كي أرحل. هذا سِرٌّ يخص القرى النائية عندنا، إنهم يكرهون المُعَلِّم والإمام ومُمَرِّضَ المستوصف حين ترسل لهم الحكومة واحدًا، وبالنهاية يقررون أن يفسدوا حياته. رفضوا أن يُؤَجِّرُوا لي غرفة في أي منزل ثم تضايقوا حين بدأت أمد أغطيتي وأنام بحجرة الدرس نفسها. جاء عون السلطة وقال لي بوضوح: هؤلاء يكرهونك فخذ حذرك! ولكنني رسمتُ على وجهي أفضل ابتساماتي وقلت له بأنه من الخير له أن يهتم بشؤونه الخاصة.
لقد مرت كل تلك الأمور إلى غير رجعة غالبًا. جاء وقتٌ ذهبتُ فيه إلى بيتنا العائلي في المدينة وأحضرتُ كتبي كلها إلى القرية وكان المشهد عجيبًا. حملتُ الحُمولة كلها على حِمارَيْن استأجرتهما وصارا يَئِنَّانِ تقريبا عند كل خطوة، ولَمَحْتُ في لحظة ما نظرة باردة لِرَجُلٍ يَسْخر. إن الكتب لا تلاقي الحفاوة عادة، وقد وضعتُ صناديق الكرتون في كل مكان بعدها وبدأت أستند على بعضها أو أمد عليها قدمي وأقرأ. بعضها كان بالفرنسية، أشعار لبودلير وهوغو وستندال وروايات من قرون أخرى، وقد قال لي الضيفُ الشاحب وهو يتأملها بلهفة مكشوفة: يُمْكِنُكَ أن ترتاب من شاب يقرأ رواية "الأحمر والأسود" ليلًا، وشَعَرْتُ عندها بأنني أدخل في حُلُم.
-   هل قرأتَها؟
-   كُنْتُ شابا ذات مرة أنا أيضًا.
كدت أعانقه حينها. يُرْمَى بك فوق قمة جبل لأربع سنوات في قرية لا يُحِبون فيها المتعلمين أصلا، ثم تُقابِلُ فجأة من قرأ "ستاندال" في ليلة من ليالي الشتاء، ويبدو لك العالم فجأة كمكان مألوف وطيب. اقتربت منه جَذلا ووضعت أمامه كأس شاي ثقيل وأنا أضحك.
-   هل يُعْقَلُ أنك شَبَحٌ مثلًا؟
-   شَبَحٌ بمعنى أنني عائد من الموت؟
بدا لي أنني قد جرحته عن غير قصد فامتد صمت بارد في الجو، وفي البعيد نبح كلبان بإيقاع سريع ومنهك. هل كان ذلك حين لاحظتُ الآثار على مِعصميه وأصبعه المقطوعة؟ مد يديه واحتضن الكأس الساخنة بهما معا وتنهد ليُعبِّرَ عن شعوره بالامتنان والراحة.
-   البطل في الرواية كان يعتقد بأنه قد وُلِدَ ليكون عظيمًا، ولذلك فقد حسب أن أخطاءه كلها ستغتفر. نوع من الثقة التي تجعلك تُشْفق عليه، وعندها سرعان ما تَنْقَضُّ عليه زَلَّاته بلا رحمة.
-   كان شابًا غرًا.
-   كان له إيمانه العنيد الملتبس الذي يخصه.
رقصت شعلة في عينيه كلما أوغلنا في الحديث عن هذه الأشياء التي لا تَدورُ حول أيٍّ مِنا. كنت أطبخ الحساء على قنينة غاز صغيرة وكانت رائحته تعبق الأنوف وتشيع الدفء، وشرعتُ أكتشف في كل لحظة تَمُرُّ علينا شيئا آخر: الآثار على المعصمين، وندبة قبيحة على فكه الأيمن، ثم الغيابَ المفجع لأغلب أسنانه، وبدأت تنتابني شفقة مؤلمة.
في لحظة ما سألني مباشرة: والآن لا شك بأنك قد صِرْتَ تعرف من أكون؟ وأنا أجبته بتحريك رأسي وبدا بأن كل شيء يسير في الكون بتناغم حَسَنٍ: لقد كان معتقلًا سابقًا، وقد أطلقوا سراحه وغادر جحره للتو.
-   خمس سنوات من الظلام يا صديقي.
هَلْ كَانَ يُخَاطِبُني أم أنه كان ُيخاطِبُ الكتابَ الذي أمسكه بين يديه وهو يُمَسِّدُ على غلافه بمودة؟ قال لي بعدها بأنه لم يَفتقد شيئًا بقدر اشتياقه لملمس الأوراق والشمس على جلده، وبأنه قد امتلك في السجن الوقت ليُكلم نفسه بصوت عالٍ حول مواضيع كثيرة، واستحضر أبطال الروايات كلهم، وكأنهم جميعًا كما في مَسْرَحٍ عظيم من شخص واحد، أما المتفرجون فقد كانوا فئرانًا وصراصير.
في واحدة من الليالي ظهر شَبَحُ تلك الأوبرا أيضًا، كلب أسود عدائي خرج فجأة من رَأْسِهِ، وخاف عندها لأول مرة من أنه قد يَفْقِدُ عقله. كان الكلب يراقبه ويمتصُّ حماسه لمسرحه الشخصي ويضع نباحه الضئيل في كل نقاشاته الحميمية مع نفسه. ثم ذات ليلة حدثت المعركة، وقد كانا يعرفان كلاهما بأنها ستحدث.
دَوَّت الريح في الخارج وسمعنا قطرات المطر على سقفِ الحجرة الدراسية الصفيحي. كان الجو مثاليًا لسماع الحكايات الغريبة أو لِحَمْلِي على تصديق أي شيء. قال الرجلُ بأن الكلب قد قفز على كتفيه فجأة وحدق كل واحد منهما بعيني الآخر وفهما بأنهما سيتعاركان حتى النهاية، ولكن دون ضغائن. كَشَّر الحيوان عن أنيابه واقترب من أذنه فلكمه هو وقد شعر للمرة الأولى منذ اعتقاله بأنه لا يزال رجلًا. تواجها لوهلة وسمعا صوت لهاثهما المشترك. قال له السجين بحزم: أنا لن أموت هنا ولن أُجَنَّ. كان يفكر بأنه عليه أن يهزمَ هذا المخلوق ويُعيدَه من حيث أتى، عالم الكوابيس أو أي جحيم آخر، وإلا فلن يعود بوسعه التحكم في مجرى الأمور أبدا.
-  اليومَ كلبٌ وبالغد أرى أجدادي الميتين يتجولون في الزنزانة أيضًا. ما كنت لأسمح بذلك طبعا.
دار الرجل بالحيوان ودار هو به وتلقى الضربات وَوَجَّهَ أخرى، واشتعل جسده كله من الألم، أما ذهنه فقد ظل صافيا. في لحظة ما فهم أن الانتصار هو ألا يستسلم مهما طالت المعركة، وقد شعر بالسلام يغزوه حين توصل إلى ذلك، وعندها أطلق صرخة من الحماسة والوجع أيضا فلقد عضه الكلب، وسال الدم بغزارة على يده، لكن الحيوان كان قد بدأ يتعب. صارت خطواته تتثاقل مع كل ضربة يتلقاها شيئًا فشيئًا، ثم تراجع إلى ركنه فجأة وأدار له ظهره. كانت المعركة قد انتهت إذن، وانتبه الرجل عندها بأنه قد فقد أصبعه.
-  ربما كان زائدًا عن حاجتي أصلًا.
كان يستطيع أن يضحك من كل ذلك وكأنه قد حدث لشخص آخر. لقد خاض حربا ضد قوة مجهولة وأنقذ نفسه من الجنون، وكان أن اختفى ذلك الكلب إلى الأبد. يمكن أن يكون قد ذهب يَعْبَثُ في خيال شخص آخر. حَرَّكَ ملعقته في حسائه بعدها بحرص كمن يبحث عن شيء محدد، ثم أكل بتعجّل مُصدرًا الكثير من الأصوات وفهمت بأن ذلك من تأثير البقاء في عزلة لزمن طويل، وعند كل لقمة كان وجهه يتغير قليلًا، ويكتسب ملامح شخص أطيب. قال لي وأنا أصنع له فراشًا ليمضي عليه ليلته: عندما سأصل إلى قريتي لن يستقبلني أحد، كما أنني قد أُطرَد أيضًا. سيخافون مني، وأنا أعرف بأنني بِتُّ أشيعُ الخوف.
بدا لي ذلك أسوأ اعتراف سمعته في كل حياتي، وقد قاله هو ببساطة وهو ينزع حذاءه البالي ويكاد يبتسم، ولذلك ربما حلمت بذلك الوجه المستسلم الساخر طوال الليل. إن الأحلام تفعل ما تشاءه دائمًا. في الحلم كنا نتجول في زمن آخر تمامًا وبدا أننا نصعد باتجاه المقصلة، وكان يرافقنا بطل "الأحمر والأسود" الأيقوني وهو يبكي ويضحك. قال لنا وهو يكزّ على أسنانه: هذا هو الموت الذي يليق بي، وعندها استيقظت فجأة، ولمحت قامة الضيف الغريب وهو يغادر الغرفة بحزم وحذر وسط ضوء الفجر الملتبس.

*كاتبة من المغرب. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.