{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
لحرف القاف سُورَةٌ مَكيةٌ تبدأ به وسميت باسمه. آياتها خمس وأربعون آية يتكرر فيها حرف القاف والكلمات القافِيَّة سبعًا وخمسين مرة. لطالما كان هذا الحرف محورًا في اللهجات العربية المختلفة، حيث يتحول تباين نطقه إلى أداة لتعريف هوية المتكلم والانتماء الذي يعبر عنه. في سورية، لا يُنظر إلى القاف كحرف لغوي فقط، بل كرمز يحمل في طياته إشارات ثقافية واجتماعية تعكس الفروق بين الأرياف والمدن، الطبقات الاجتماعية، الانتماءات الدينية، الهويات الجندرية، الأعمار المختلفة، وحتى المستويات التعليمية.
بالإضافة إلى المحكية اللبنانية والمدنية الفلسطينية، يتحول نطق القاف إلى "آف" في دمشق، وبعض المدن الأخرى، ولدى مسيحيي سورية. في الغالب، يعكس هذا الصوت رمزية التمدن والانتماء إلى طبقات حضرية معينة. على النقيض، يحتفظ الناطقون في الريف والأطراف بنطق القاف التقليدي الذي يُنظر إليه على أنه علامة على الأصالة والجذور الريفية. جاء في القاموس المحيط في تعريف الحرف بأنه: الحَرْفُ من كلِّ شيءٍ: طَرَفُهُ، وشَفيرُهُ وحَدُّهُ. إذا كانت دمشق وسكانها هي هذا "الشيء" فيجعل هذا كل ما حولها طرفها وشفيرها وحدها. يترك معظم أهل الأرياف والضواحي والأقليات قافهم وراء ظهورهم ليستبدلوها بـ آف الأكثرية حين وصولهم إلى حروف العاصمة.
في عدد من المجالس العائلية، أو اجتماعات أصدقاء "أقلويين"، تتغير القاف إلى آف باتفاق غير محكي لحظة دخول أكثري إلى الغرفة، وتعود قافًا عند خروجه. شخصيًا، ولدت لأب من جبل الشيخ، وأم من جبل العرب، يقرطون قاف جبلية بجمال ريفي، كاللوز المغلف بالسكر. ولكن هربًا من التنمر الذي عانيت منه عندما وصلت إلى المدينة، تلبست نطق الأكثرية فتلبسني. نسيت هذا كله ولم أفكر بأن ما كونته يومًا كونني. يمثل هذا التحول حكاية مشتركة للكثيرين ممن أعرفهم، حيث تتقاطع اللغة مع الهوية، والبحث عن القبول مع التنازل عن جزء من الذات.
لقد مارس بعض الدمشقيين عبر العقود شكلًا غير مقصود من "إرهاب اللغة" على ناطقي القاف، وذلك بالتعجب، أو بالسخرية، أو حتى بالدونية أحيانًا. أدى ذلك إلى نفض "القافيون" آثار قافهم عن لسانهم في حضور "الآفيين"، ربما لتجنب ضغط الأكثرية، أو للتماهي معهم، أو للانتماء إلى طبقة المدينة وثقافتها. أخبرني الكاتب دارا العبد الله أنه كان يتحدث بال آف في السجن عند الحديث مع بقية المعتقلين، وبالقاف في غرفة التحقيق. تظهر اللغة الحقيقية تحت وطأة الخوف، إذ تنكشف طبقات اللاوعي وتتلاشى الأقنعة الاجتماعية. هذا التكيف اللغوي يبرز تعقيد التفاعلات الاجتماعية، لكن تأثيره يمتد إلى أبعد من ذلك. يعتمد جهاز كشف الكذب، على سبيل المثال، على الترددات الصوتية والخط البياني لتحليل صدق المتحدث. بالنسبة للقافيين، يمكن أن يؤدي الضغط النفسي الناتج عن التحدث في محيط يغلب عليه الآفيون إلى تغيرات في النبرة، ما يجعلهم معرضين لفشل هذا النوع من الاختبارات، حتى وإن كانوا صادقين.
لعبت الدراما والكوميديا والسينما السورية دورًا في تعزيز "الطبقية اللغوية" بتظهير القافيين دومًا كموضوع تندر بالمبالغة بالسخرية من لهجاتهم المحلية وربطها ببساطة متحدثيها. بالطبع، يعتمد فن الفكاهة بشكل أساسي على المبالغات الفعلية، أو اللفظية، ولكن غياب أي إظهار آخر لهذه الفئات ساعد في تعزيز هذه الصورة في الذاكرة الشعبية الجمعية. رُبِط نطق القاف بـاللهجة "الضيعجية"، وهو توصيف يعكس تصورات اجتماعية راسخة تُعلي من شأن المدن على حساب الأرياف.
من اللافت أيضًا أن يحمل حرف القاف أبعادًا جندرية وجنسانية تعكس التوقعات المجتمعية المرتبطة بالأدوار الجندرية والهويات الجنسية. وفي عدد من المناطق، يُنظر إلى نطق القاف بصوت قوي وواضح كرمز للرجولة والقوة، مما يجعله معيارًا ضمنيًا للهوية الذكورية التقليدية. في المقابل، ترتبط الـ آف بنمط أكثر رقّة يُنظر إليه أحيانًا على أنه يعكس الأنوثة والرقة. في الإعلام الشعبوي، يتم استغلال هذا التباين اللغوي لتشويه صورة الرجال المثليين، حيث يُصورون بأسلوب ساخر كأفراد "مؤنثين" ينطقون بالـ آف، وبأصوات ناعمة. يعيد هذا الاستخدام القمعي إنتاج التصورات النمطية التي تفرض نموذجًا واحدًا، يحكم فيه على أي اختلاف بأنه انحراف عن "الرجولة التقليدية".
أكملت المصادفة النفور من استخدام هذا الحرف عندما حكمت سورية عائلة تنتمي إلى مجموعة القافيين لأربعة وخمسين عامًا. انسحب العداء التاريخي بين عاصمة الأمويين وحكامها العلويين على حرف القاف، ليزيد كراهية أبناء العاصمة، وعموم السوريين، حيث أصبح يرمز إلى السلطة، القمع، والقوة الفائضة. لكن اليوم بعد سقوط هذا النظام، وبعد ان نالت سورية حريتها، حان الوقت لننفض كل "آف"ات الزمن، لنستعيد اختلافاتنا بكل ما تحمله من معان بسيطة كرموز لحرية التعبير والانتماء لسورية المتنوعة.
قد تكون قاف أقلوية، لكنها بكل تأكيد جزء أصيل لا يتجزأ من أبجدية هذا الوطن.
(2011- 2024)
برلين
***
العمل الفني المرفق: Slavs and Tatars
العنوان: اللغة الأم والحنجرة الأبوية
"رسم تخطيطي يظهر حروف الأبجدية العربية، والجزء المقابل من الفم المستخدم لنطق هذه الحروف، تتحول الألسنة الأم والحنجرة الأبوية إلى الحنجرة كمصدر للغة صوفية، على عكس الدور الأكثر دنيوية والمعاملاتية للسان. هنا، أضاف الفنانون الحروف للأصوات الحنجرية [gh] و[kh] في السيريلية، والعبرية، كإشارة إلى أهمية هذه الحروف في مجالات متباينة، مثل المستقبلية الروسية، والجيماتريا الكابالية، والتفسير الصوفي".
الحرية لحرف القاف
خالد بركة
27 يناير 2025
مقالات اخرى للكاتب
يوميات
27 يناير 2025