يسأل آدم نواس وهو من الناشطين في جمع التبرعات وتوزيعها، واحدًا تلو الآخر من جموع المنتظرين قعودًا على الأرض عما يفعلونه فيجيبون أنهم يستعدون للعودة إلى البلاد... إلى غزة. وللمشاهد أن يعجب قليلًا ويتساءل مندهشًا: يذهبون إلى غزة... أليسوا فيها... في غزة؟ نعم هم حقًا في قطاع غزة، لكنهم في الجنوب، في رفح مثلًا، وهم عازمون على العودة من حيث أتوا ومن حيث نزحوا، إلى مدينة غزة في وسط القطاع وعاصمته. أو ينوون الذهاب إلى أبعد، إلى الشمال، إلى جباليا وبيت لاهيا أو إلى حيّ الرمال. إنهم لا يقطعون حدودًا ولا يقصدون بلدًا آخر، ولكنهم على شوقٍ مُمض للعودة إلى ديارهم، هناك ما يسمى خط نتساريم الإسرائيلي وهم يعرفونه ولا يألفونه، فهو من مستحدثات الحرب، والحرب انتهت، والخط يجب أن يزول.
وكم من الوقت مضى عليهم في الانتظار تأهبًا للعودة؟ يردّ أحدهم: خمس ساعات، والآخر: ست ساعات، وتجيب ثالثة أنها تنتظر منذ الخامسة والنصف صباحًا. شخص رابع قال إنه ينتظر الإشارة للانتقال راجلًا إلى الشمال من السابعة صباحًا. بينما الشاب الذي يحمل خمس فرشات إسفنج وما تيسّر من بطانيات على رأسه فيجيب ضاحكًا على هيئته وجادًّا في الوقت ذاته، أنه ينتظر هنا قريبًا من البحر منذ ثلاثة أيام. أما الكهل الذي بدا أكبر من عمره ويضع طاقية شتوية على رأسه ويجلس على كرسي متحرك فلدى سؤاله لم يتمالك نفسه من البكاء، وهو ما أربك آدم الذي لا خبرة لديه بمواساة رجل في عمر أبيه. شخص آخر يحسن الحديث بالفصحى سئل عن المسافة إلى الشمال، فأجاب من فوره: رمشة عين. ما إن يسمحوا له بالعودة مع الآخرين حتى يقطع المسافة راجلًا مع أفراد أسرته برمشة عين.
كان اليوم هو الأحد والوقت هو الظهيرة. ويسألهم آدم عن شعورهم فيجيبون أنهم فرحون ويسعى المستجوبون كلٌّ على طريقته في مغالبة دمعة حبيسة أو حرقة مكتومة، وهنا ومن أجل شد العزائم فإن الناشط يُعاجلهم بالسؤال: وكيف المعنويات؟ فيُجمعون بعد تردّد قليل وبشيء من التلعثم أنها عالية. فيما يلهج الجميع رجالًا ونساءً صغارًا وكبارًا بالحمدلله. لقد فعل الإيمان فعل السحر في قلوبهم طيلة 470 يومًا من أيام المحنة ولياليها.
ولكن إلى أين يذهبون بالضبط إلى الشمال. اذا ما رغب سائل بتوجيه هذا السؤال فعليه ابتداء أن يحتاط من الغضب الذي سيواجه به من مُجيبين وضعهم السائل موضع سخرية، وإلا ما هذا السؤال الذي لا يُسأل لطفل. فأين يذهب العائد حين يعود؟ إنه يذهب إلى بيته. وعلى رأي زكريا تامر في قصته "البيت" فالدجاجة لها بيت والأرنب له بيت والحصان له بيت والسمكة لها بيت والقط له بيت والعصفور له بيت... والفلسطيني له بيت والغزّي له بيت... وقد شيّد أبناء الشمال بيوتًا جميلة بعرق جباههم وحُرّ أموالهم وهم في شوق شديد للعودة إليها. وها إنهم يتأهبون للعودة.
من بين الذين استطلعهم آدم، أجابت سيدة واحدة بأن بيتها ما زال قائمًا، والبقية أجابوا أن بيوتهم "راحت" وراح معها العديد من أفراد العائلة.
وقد أتيح للملايين منذ أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وعبر وسائط التواصل، مشاهدة الواقع المروع في جباليا وبيت لاهيا وحيّ الرمال، حيث أنقاض البيوت التي قصفتها القاذفات الإسرائيلية وجعلته منها ركامًا. أتيح مثلًا رؤية ذلك الجندي السعيد المنتشي الذي يهدي خطيبته تفجير بناية سكنية في غزة. كما عرضت برامج تلفزية إسرائيلية اعترافات لجنود قاموا بتفجير البنايات ونالوا تصفيقًا حارًا من الجمهور في الاستديو. وفي الوقت الذي يكتب فيه الكاتب هذه السطور فإن جنود الاحتلال الذين رفضت قيادتهم التقيّد باتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان يقومون بتفجير مبان في ميس الجبل في جنوب لبنان. هدم البيوت والمنشآت والمعابد غير اليهودية نشاط روتيني ومنهجي لجنود الاحتلال، يتعين إزالة مظاهر حياة الآخرين كي لا يبقى في المشهد وما حوله سوى ما شيّده يهود مهاجرون إلى فلسطين. بيوت مهدمة، أطلال بيوت، إلى جانب بيوت من حجر وقرميد في المستوطنات بتبرعات ألمانية وبريطانية وأميركية... وذلكم هو الوعد الصهيوني: حياة الإسرائيلي تتطلب موت الآخر، حضور الإسرائيلي يلزمه تغييب الآخر، ذلك هو الديالكتيك الصهيوني البسيط والبربري.
إنه "موسم الهجرة إلى الشمال"*... شمال القطاع على طريقة الغزّيين الذين تقاسموا ألوان البطولة والكارثة. يعودون إلى بيوت مهدّمة ويشدّدون على أنهم عائدون إلى بيوتهم، سوف أنصب خيمة بجوار البيت. ويقول آخر: سوف أزيح من الركام قدر استطاعتي وبما يكفي لنصب خيمة على أرض البيت. ويقولون إنهم سوف يأنسون برائحة البيت وما يعبق به من ذكريات وأحلام وسوى ذلك هناك الكثير، فسوف يلتقون بمن تبقّى في الشمال من أحبّتهم وأعداد هؤلاء بعشرات الآلاف، ممن عاشوا ظروف القصف الوحشي في بداية الحرب وحتى ما قبل التوصل للهدنة، ومعهم أيضًا ويا للألم الرهيب، فسوف يتعرّف العائدون على من بقي تحت الأنقاض من أهلهم وجيرانهم وأصدقائهم ومعارفهم، ولم يتيسر انتشاله منذ نحو عام بفصوله الأربعة بما يجعلها عودة مشحونة بما لا حصر له من معانٍ وانفعالات.
* تحوير لعنوان رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".