نزولًا من سفح (عقبة سداب)*، اعتاد السائق أن يرخي طرف قدمه عن الدواسة توفيرًا للبنزين، فتبدو حافلة الأجرة وهي تهبط وكأنما تتحرك بطاقة ذاتية، وحين تصل إلى قاع المنحدر، تبرد سرعتها رويدًا قبل أن يعترضها مطب تمنحه آخر أنفاسها وهي تجتازه بكسل وتخبو أمامه، ثم وبكبسة مفاجئة من طرف القدم المرفوعة تنطلق الحافلة في دفعة جديدة.
وفي يوم ما، نسي السائق أمر المطب، رغم أنه لم ينس رفع طرف قدمه عن دواسة البنزين، أو بالأحرى لم تنس ذاكرة قدمه عملها (حيث إنَّ لكل عضو في الجسد ذاكرة كما يقال).
وحين وصلت الحافلة إلى قاع المنحدر وشرعت تخبو، ضغط على الدواسة ليحييها من جديد، ولكنه فعل ذلك - هذه المرة- متأخرًا؛ أي قبل لحظات من الوصول إلى أرض المطب، الذي بدا وكأن الحافلة قد فوجئت به، لتعلو وتنخفض في حركة سريعة، صرخ إثرها أحد الركاب محتجًا بعد أن استكان من هول الهزة:
- إييه.إييه. إيييييييه. لسنا على ظهر حمار. انتبه يا أخي انتبه. لقد اقتلعت أمعاءنا.
يضحك السائق وهو يرفع إحدى يديه معتذرًا لجميع الركاب... ثم يمط رقبته وهو يبحث عن الراكب من المرآة العاكسة (فيبدو وكأنه أمامه). يهز رأسه وهو يجاهد في قمع ضحكة أخرى جديدة أخذت تتشكل في وجهه.
ولكنه فجأة يوقف سيارته على جانب الطريق، يهبط منها ويتجه رأسًا إلى ناحية ذلك الراكب، يتفرس في قسمات جسده النحيل، قبل أن يطلق عبارة واثقة:
- يا أخي يجب أن تعلم بأن الحمير تشبهنا... هذا ما قاله أبي.
الراكب لم يعره التفاتًا، بل صعر وجهه وشمر عن ساعديه، وهيّأ نفسه في وضعية من يستعد لخوض غمار عراك مرتقب.
***
من نفس ذلك الطريق كانا فيما مضى يهبطان هو وأبوه، يتقدمهما وجه حمار. يفرجان أقدامهما في هبوطهما السريع، والأب يرفع عصاه بعيدًا عن ظهر الحمار. ثلاثة أجساد اعتادت - كل صباح- العبور بصمت من ذلك المنحدر المُترب.
وكان صغيرًا حينما أوقف الأب فجأة حماره في وسط الطريق، بعد أن اجتازوا المنحدر بخطوات ليست بعيدة عن ذلك المكان الذي غدا وكأنما احدودب ظهره وتحول فيما بعد إلى مطب في طريق الحافلات.
مسح الأب خرزات العرق المتسللة إلى جبهته بمنديل أخرجه من خرج الحمار، وبدون أن يلتفت إلى الصغير الصافن بجانبه، أخرج عباراته بهدوء:
- كنا أنا وجدك. في نفس هذا المكان حين أخبرني أبي بأن أباه في نفس هذا المكان أخبره أبوه أن الحمير تشبهنا.
- هل الحمير تشبهنا يا أبي؟
- نعم. هذا ما قاله أبي نقلًا عن جدي الذي أخبره أبوه نقلًا عن أبيه.......
ثم ساط فجأة جلدة ظهر الحمار الذي بردت همته، فانطلق في دفعة جديدة.
* عقبة سداب: منحدر مسفلت في مسقط كانت تذرعه أقدام الحمير فيما مضى.