هي جزء من طفولتنا، من عالمنا، لم تغادرنا قط... تحوم حولنا نحن الأطفال فيما نلعب "الكف الأسود"، "رحلة الحج"، "الغمّيضة"، "بيت بيوت"، نتسلق الشجر، نركض خلف الكرة، والكثير من أفكار الألعاب التي لا تنضب، فيما هي تراقبنا من بعيد... أحيانًا كانت تقترب منا أكثر ويرتفع صوتها عاليًا، تنادينا أمي "افتحوا أفواهكم... اصرخوا... افعلوا أي شيء، ولكن لا تتركوا أفواهكم مغلقة كي لا تؤذيكم، إذا صرختم ستبتعد". وهكذا كنا نفعل، نصرخ سويًا أنا وإخوتي ورفاقنا بأعلى أصواتنا لنملأ فراغات السماء، ثم نفرط في الضحك...
قد تشبه طفولتي طفولة الكثيرين، أتحدث هنا عن أواخر السبعينيات من القرن الماضي وأوائل الثمانينيات، يوم كان التلفاز حلمًا، نجتمع كل مساء في منزل "أبو حسين". وأبو حسين يعيش في لندن ويرسل لزوجته وأولاده الكثير من الأموال، وهو الوحيد في الحيّ، وربما في قريتنا كلها الذي كان يمتلك تلفازًا. يقولون لأم حسين إن زوجها متزوج من بريطانية ولديه أولاد، ويثرثرون أنه خرج عن الدين، ولكنها تريد أن لا تصدّق أو تريد أن لا تكترث، فهو لا يكفّ عن الاهتمام بعائلته وتحقيق كل أحلام أطفاله. ودار "أبو حسين" الخارجية للبيت واسعة ومكشوفة على السماء. هناك تضع أم حسين التلفاز قرب باب المدخل، ويتسمّر كل ليلة أهل الحيّ والأحياء الأخرى أمامه جالسين فرحين، شيوخًا ورجالًا ونساء وشبابًا وشابات وأطفالًا يشاهدون يوميًا "المصارعة" التي كانت تبثّها قناة "لحد" (قناة جيش لبنان الجنوبي المتعاون مع إسرائيل في ذلك الوقت)، وهي القناة الوحيدة التي كان يصل بثّها إلى قريتنا. كانت في لبنان قناة تلفزيونية واحدة هي "تلفزيون لبنان"، ورغم صغر مساحة لبنان إلا أن بثّها لم يكن يصل إلى قريتي على أطراف الحدود الجنوبية من لبنان مع فلسطين، وقد يصل الصوت أحيانًا فيما يظلّ التشويش طاغيًا. وأبطال "المصارعة" هم كيفن وكيري وآخرون، وهم أبطال ضيوف أم حسين، البعض يصرخ لهذا والبعض يهتف لذاك، وتسهو عيون العجائز لكنهم يصمدون في منزل "أبو حسين"، لا يغادرون حتى تنتهي السهرة. وفي خضمّ أصوات المصارعين والمشجّعين في بيت "أبو حسين" كانت إم كامل تركّز فينا جميعًا، لكن أحدًا لم يكن يعيرها أي انتباه إلا أنا... كان النظر إليها يورثني إحساسًا عميقًا من الحزن...
في الليالي التي تتشوّش صورة التلفاز، يقوم شابان بضرب التلفاز من الخلف علّ الصورة تعود، نبدأ بسماع الصوت ولكن الصورة لا تأتي، يصبح همّ الجميع أن تعود الصورة... ينسون إم كامل ومراقبتها لنا، ينسون القصف الإسرائيلي المتقطع، ينسون أن أيامهم مستقطعة من حياة ليست لهم، وأنهم بالكاد يؤمّنون قوت يومهم، شغلهم الشاغل هو أن تعود الصورة... يهتفون كلما توضّحت الصورة قليلًا ثم يهتفون عندما يغطي التشويش الشاشة... لم يكن هذا الانشداد إلى الصورة غريبًا فقط، بل كان مؤلمًا، لأن ما فعلته الصورة بعد ذلك أن حوّلت العالم أجمع إلى قطيع، وخلقت عداوات وأحقاد إنسانية مخيفة...
ثمة تفاوت بيني وبين طفولتي في الكثير من الأشياء، نعم كانت سنوات من الشقاء والفقر، ولكنها كانت سنوات من الفرح اللامحدود الذي قد يأتي من أي مكان، فرح ضاع الكثير منه بفعل الخيبات المتتالية حتى أنني لم أعد أتذكر كيف أفرح. الشيء الوحيد الذي لا يزال يرافقني هو إم كامل...
ما إن قطعت سنّ المراهقة حتى تزوجت وسافرت.. ابتعدت كثيرًا عن طفولتي.. كان أهلي قد انتقلوا إلى بيروت بعد الاحتلال الإسرائيلي لقريتنا. ثم تحرّرت الأراضي، وكبرتُ أربعين عامًا وأنا بعيدة، بعيدة جدًا عن عالمي الحقيقي، عن لعبة "بيت بيوت" ودار "أبو حسين" والتلفاز الذي يبث قناة وحيدة، والمصارعة... حتى إنني بالكاد أذكرها... ولما عدتُ إلى القرية بعد أربعين عامًا، كان ثمة صوت يحوم فوق رأسي، لم يكن يتوقف... صوت أرجع لي كل تلك الصور التي فقدتها بالتتابع... كانت الصور حية وأكثر حيوية من قبل، كأني انتقلت إلى ذلك الزمن دفعة واحدة، اجتاحني التذكر، وتملّكني التناقض، فرح لا يمكن استرداده، وحزن عميق... شعرت في الأعماق بأن هذا الصوت سبب فرحي وحزني في الوقت نفسه... هل يمكنني أن أستبدل الزمن، أعود إلى الوراء ثم أحرّكه إلى الأمام لأختار منه فقط تلك الإشارات التي تمنحني حقيقة الوجود... كان ذلك الصوت صوت طائرة M K التي كنا ندلّعها "إم كامل"..
نظرتُ إليها وقلت لأمي: "يا إلهي... ألا تزال إم كامل هنا؟!".. أجابتني: "خمسون عامًا ولم تتعب من لبنان، لا تزال... وتسبّبت بالألم للكثيرين في غيابك... فقد أصبحت ذكية جدًا، لدرجة أنها تحفظ أصواتنا ونظراتنا عن ظهر قلب، وباتت تقتلنا من بعيد بواسطة ضوء!"...