}

مقهى صغير في نيس كأثرٍ روحيٍّ

ياسين الغماري 5 نوفمبر 2025
يوميات مقهى صغير في نيس كأثرٍ روحيٍّ
مقهى La Barre des Dégustations

 

في مدينة نيس العتيقة، حيث تتعانق الأرواح من عمق المعاني أو من تناقض منطق الحياة، ثمّة مقهى صغير تُنسب إليه تسمية "La Barre des Dégustations" (بار التذوّق) يقع قبالة قصر العدالة والمعبد، منظر يتلامح لباصرة المارة دارجًا، لكن يبدو عالمًا يجمع بين الجسد والروح والقانون ورغبة عارمة بأن تنال الروح عدالتها. موقع المقهى الرمزي، يضمّ  المصير والروح والانسان الجليّ.

1- المقهى: الملجأ اليومي

يُجسّد المقهى اللغة المتحرّرة من قيود المجتمع، حيث تختلط أنفاس البن صباحًا بأقداح النبيذ ليلًا، بين هذا وذاك تنساب الأفكار غزيرًا، وينساب القدر كثيرًا. زد إلى ذلك، المقهى يكتسب شكلًا محسوسًا للبيت، فيسقط الحدّ الفاصل بين النّاس، ويضمّ التضارب البشري: الوحدة، المصادفة، والتلاقي، الخطيئة والعفو، السعادة والأسى. ولكلّ وجود مقهى، ولكلّ روح، روح أخرى تلتقيها في المقهى. المقهى يستحيل الانسان نفسه في المطلق كما في المجاز. هذا الحدّ الفاصل بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، يتذوق هذا الانسان متقصيًّا عن معنى لوجوده، عن معنى آخر لحياته، عن أي شيء يتشبث به، عن أي روح تنضم إليه. عن أي حلم جديد يولد من داخله. عن قدرٍ لا يُشبهه قدر.

2-  قصر العدالة: سلطة العدل الإنسان 

قُبالة المقهى، المحكمة متحجّرة بهيبتها القانونيَة تبثّ في جُلّاس المقهى تذكيرًا أنّه ما دام في الحياة نفس فميزان العدل قائم. إنّها إشارة العدالة الأرضيّة. وميزان الفعل. ما من شيء يضيع. وكل شيء له أن يعود بطريقة أو بأخرى. وما دام الانسان حيًّا فإنّه سيستردّ حقوقه كاملة.

3- الكنيسة: نداء العدالة السماوية

من ناحية المقهى يقف المعبد بصليبه الذي يتجاوز السماء، ليُذكّر جُلّاس المقهى أنّه إذا لم تتم عدالة الانسان فعدالة الاله تظلّ قائمة. نداء الكنيسة نداء الخالق المطلق. 

4- المقهى بينهما: الإنسان بين العدل الإنساني والعدل الإلهي

هذا المثلث الذي يضم المقهى، الكنيسة وقصر العدالة، ليس صدفة. بل قدرٌ كُتبَ بسحر ميزان الحياة. المقهى هذا المكان الثالث، منطقة العبور بين عدل السماء وعدل الإنسان. وحين تخذلك عدالة السماء، تتّجه نحو عدالة الأرض، وإن خذلَتك الاثنتان، صار جلوسك في مقهى La Barre des Dégustations عدلًا مؤجّلًا وعتابًا صامتًا للسماء والأرض معًا. إنّه زائر المقهى نفسه، جليس البيت الدائم. كلّ فنجان قهوة يُقدّم، كلّ كأس نبيذ يُقدّم هو عطية النسيان ودعوة إلى السكينة. وكلّ مقعد هو انتظار لعدالة ما، وتتلاقى الروح بمن يسكن ألمها.

5- المعنى المتواري

من يلقي نظرة نافذة إلى La Barre des Dégustations بعين الروح، يعرف ضمنيًّا أنّه ما من صدفة في تلاقي الطاقات الثلاث: طاقة القانون (العدالة البشرية)، طاقة الإيمان (العدالة الإلهية)، وطاقة الإنسان (الحياة اليومية، التجربة، الترقب)، ينبض بحياةٍ خفيّة وعدالةٍ مؤجَّلة. كما لو كان أراد أن يهمس برسالةٍ إلى من يفهم لغته: ما بعد قسوة الظلم تُولد رحمة العدل وبعد ولادة العدل يأتي عناق الحياة وزائر المقهى بين هذين المقامين ثابت كميزان الخلود.  

المقهى، الكنيسة، وقصر العدالة- هذا المثلث المقدّس الذي يجمع بين الجسد والروح وميزان العقل. في لغة الروح، معنى "الذوق" لا تُشير إلى الشراب أو الطعام، وإنّما إلى معرفة مكامن القلب والروح. المقهى هو بيت الذوق. يشرب فيه الإنسان ويأكل كما يشرب ويأكل من كأس عدالة الخلق وعدالة البشر، متأمّلًا الوجود في حضرة رمزيةٍ كبرى. كما الماء والنّار متناقضان تغلي القهوة بعدالة مؤجّلة، وهناك يلتقي العبد بمقام روحه عندما تُختبر النّوايا. من يُلامس الصبر الصادق يلا يعود يرهب تأخّر الأحكام. والوجه الصادق من القداسة.

في مقهى La Barre des Dégustations يقف زائر البيت في المنتصف بين عدالة السّماء وعدالة القدر ويتذوق نفسه كما لو كان يتذوق دواخله. فالمقهى طاقة توازن خفيّة تضمّ القانون والإيمان والإنسان بدون قاضٍ يحكم وبدون راهب يعظ. لنُخلص إلى القول إنّ الحرية الحقيقية لا تكون في المعبد ولا في قصر العدالة، وإنّما في مقهى، في هذا المكان البسيط الذي يحكم بين ما هو مقدس وما هو عادل.
في مقهى La Barre des Dégustations تفهم نهاية ماهيّة الانسان بين الخالق والنّاس. وترى وجهك الحقيقي الجميل كما لم تره قبل دخولك إلى المقهى.

 *كاتب تونسي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.