عام 1976 قام عدد من المسلحين الفلسطينيين التابعين لما سمي وقتها "حركة فتح – المجلس الثوري" التي كان يقودها صبري البنا (أبو نضال) باحتجاز عدد من نزلاء "فندق سميراميس" في قلب العاصمة السورية دمشق، وانتهت العملية باقتحام قوات الأمن السورية المكان، ونجحت في تحرير الرهائن والقبض على من نفذوها.
تلك الحادثة الإرهابية استنكرها عبر بيان رسمي محمود عباس (أبو مازن)، الرئيس الفلسطيني الحالي، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح في تلك الأيام، ولكنّ سلطة الأسد الأب أصرّت على تجاهل بيان أبو مازن، وواصلت استثمار العملية الإرهابية لتمرير دخول القوات العسكرية السورية إلى لبنان وصدامها مع فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
في صباح تلك العملية كان أفرادٌ من "سرايا الدفاع" لا يتجاوز عددهم العشرين، يجوبون ساحة "السبع بحرات" أمام المصرف المركزي السوري، ويطلقون هتافًا لم تعرفه سورية العربية قبلهم ولم يتفوه به أحد بعدهم: "بدنا نحكي عالمكشوف... فلسطيني ما بدنا نشوف"، وكان المارة يسمعونهم ويبتعدون، وكانت "مظاهرتهم" تذبل وتخفت ما جعلهم يتفرقون.
تلك الواقعة – العار حدثت في دمشق، وكان "أبطالها" ينسون (وربما يجهلون) أنها الشام عاصمة العرب والعروبة وعاصمة دولة بني أمية، وقبل ذلك وبعده أخت فلسطين التي لم تبتعد عنها يومًا على مدار التاريخ، ولم يكن غريبًا بالنسبة لي أن يؤوي حافظ الأسد نفسه التنظيم الذي قام باحتجاز رهائن السميراميس ويمنحه مقرات في دمشق بعد شهور قليلة من تلك العملية الإرهابية، وكان تصرف الأسد – الأب مفهومًا في سياق سياسته التي مارسها لعقود طويلة في محاربة العمل الوطني الفلسطيني، وبذل جهودًا كبرى للسيطرة على قرار منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة تسييرها وفق أهوائه وغاياته كورقة يستخدمها في سوق المساومة.
بعض "طرائف" تلك الأيام عشتها حين انعقد "مؤتمر مدريد"، وكنت كغيري أرى السلوك الغريب والمتناقض لسلطة الأسد الأب، فتلك السلطة التي كانت تشارك في المؤتمر كانت تدفع التنظيمات الفلسطينية التابعة لها للتظاهر ضد مشاركة الوفد الفلسطيني في المؤتمر مع أنه هو ذاته المؤتمر الذي يشارك فيه وفد الدولة السورية.
وكنا نعلق على ذلك بالقول إن المؤتمر خياني واستسلامي في شقه الفلسطيني فيما هو عكس ذلك في شقه الأسدي، بل إن تلك السلطة أوعزت للمشرفين على مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، والتي يحتل الوظائف الرئيسية فيها بعثيون، بإخراج تلاميذ مدارسهم في مظاهرات "تشجب المشاركة في مدريد" وتهتف بسقوط عرفات المستسلم، بل إن أحد قادة التنظيمات الفلسطينية التابعة لسلطة الأسد ذهب في يوم افتتاح مؤتمر مدريد بعيدًا في تماهيه مع أوامر النظام، فزايد على الجميع بأن أمر عناصره برفع علم أسود على مقره الرئيسي تعبيرًا عن رفضه للمشاركة الفلسطينية في المؤتمر، وفوجئ بغضب قادة أمن من النظام يأمرونه بإنزاله فورًا وهو ما فعله بالطبع.
حرب جواز السفر
جواز السفر الفلسطيني الصادر عن السلطة الفلسطينية مرَّ بدوره بمراحل تنوعت واختلفت بدءًا من رفض هذا الجواز وتجريم حامله، صعودًا نحو غض النظر عنه والسماح لحامله باستخدامه في السفر من سورية وإليها، ولكن بشرط عجيب إذ احتفظ النظام بقرار عدم ختمه في الخروج والدخول تأكيدًا من النظام وأجهزته الأمنية على عدم اعترافهم بهذا الجواز، ثم أخيرًا بالموافقة على حصول لاجئي عام 1948 الفلسطينيين على حمله، ولهذا قصة وتفسير أيضًا: مع صعود الثورة السورية حرص نظام الأسد الوريث على "تطفيش" أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتشجيعهم على الخروج من البلاد، فذهب إلى خطوة السماح للفلسطيني السوري بامتلاك جواز سفر فلسطيني حين انتشرت حكاية أن بلدان أوروبا تقبل منح اللجوء لحاملي هذا الجواز أكثر من قبولها بحاملي "وثيقة السفر" الصادرة عن إدارة الجوازات السورية، ولهذا تناقصت بصورة ملحوظة أعداد من تبقوا في سورية من الفلسطينيين، خصوصًا وأن نسبة ملحوظة من هؤلاء الفلسطينيين شاركوا أشقاءهم السوريين وواجهوا معهم جرائم النظام وبطش أجهزته القمعية.
كان ما حدث في "مخيم اليرموك" ذروة جرائم النظام الذي افتعل كل شيء لجرّ المخيم وسكانه من الفلسطينيين والسوريين إلى أتون حرب الإبادة التي شنّها على الشعب السوري بعد شهور قليلة من انطلاق الثورة السورية السلمية: دفع النظام بعض فصائله "الفلسطينية" إلى دفع الشباب الفلسطينيين إلى مغامرة اجتياز الحدود السورية مع الجولان المحتل مرتين نتج عنهما سقوط شهداء في المرة الأولى بعدد محدود، في حين سقط في المرة الثانية عشرون شابًا شهداء، وكانت تلك محاولة من النظام لأن يقول إنه يقاوم إسرائيل وإنه حريص على تحقيق حق عودة الفلسطينيين إلى وطنهم. وهو قد عمد بعد ذلك إلى زج المخيم في الحرب بصورة مباشرة، وكانت الإشارة الكبرى لذلك البدء في قصف طائرات سلاح جو النظام لمسجد المخيم وقتل عدد كبير من الناس ما أدى إلى هروب جماعي من المخيم وفرض حصار خانق على من بقي داخل المخيم من سكانه، وهو الحصار الذي ذاق فيه سكان المخيم ضراوة الجوع ولجأوا لأكل الشجر وحتى القطط ومات كثير منهم بسبب الجوع.
هو نظام "المقاومة والممانعة" الذي يمتلك الحق في تقرير ما ينفع الفلسطينيين وما يضرهم، وهو من يحق له النطق باسمهم وباسم قضيتهم الوطنية، وقد راجت طويلًا في أوساط الفلسطينيين نكتة حدثت فعلًا في الواقع: أحد الفلسطينيين الذين لم يسبق لهم أن دخلوا سورية كان قادمًا من الجزائر حيث يعمل، وفوجئ بالتحقيق معه من قبل الأجهزة الأمنية فأصابته الدهشة لأنه بريء ولم يفعل شيئًا، وتفتقت "سذاجته" بأن يقترح على رجال الأمن أن يريحوا أنفسهم ويريحوه بأن يأخذوه إلى "فرع فلسطين" معتقدًا أن هذا الفرع يتبع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصابته دهشة وحيرة في تفسير سخرية رجال الأمن من اقتراحه وهم تركوه لأن أحد عناصر الأمن قال لزملائه: "دعوه فهو لا يعرف كوعه من بوعه"، وهكذا كان.