غادرني بائع الجرائد الأفغاني وهو غاضب من الأسئلة الاستفزازية التي طرحتها عليه، وسمعته يصيح بصوت عال "لوموند"، "لوموند"، "لوموند". عودة جاك شيراك. ياسر عرفات رئيس فلسطين. الملكة إليزابيث تغادر القصر. وفهمت من الهتاف الثاني أنه يوجه لي رسالة. فقد كنت أسأله دائمًا: هل هنالك أخبار عن ياسر عرفات في "لوموند"؟ فيضحك ويجيب: لا. لقد خطف منه الأضواء أسامة بن لادن. ويطلق ضحكة، تعقبها جملة ذات مغزى، حركة طالبان تآمرت مع بن لادن من أجل اغتيال فلسطين. لولا هجمات بن لادن في أميركا لما حاصر شارون عرفات.
همس في أذني: هل تعرف أحدًا يمكن أن يشتري قصتي؟ وهل قصتك مغرية إلى حد أنك تعرضها للبيع في باريس؟ لا أقصد أن قصتك تفتقد للإثارة، لكن هل هي الإثارة الدارجة اليوم هنا؟ صفن قليلًا وهو ينظر إلى أرض المقهى الذي كان يلمع بعد أن أشرف على غسله، وتنشيفه، الريس محرز التونسي، كبير الطباخين. فضل تقديم وجبة كسكس يومية، على وظيفة كبير الخدم في وزارة الخارجية. هناك كان يصول ويجول بين موظفي الوزارة، يوقت ظهوره مع مجيء الوزير إلى مكتبه، ليقوم بحفلة تنظيف وترتيب من أجل استقبال الوزير. لكن الأحوال قوّدت. كنت أقول له العبارة قاسية. يقول إنه استقال من هناك بعد أن صار يتعاقب على الوزارة أشخاص بلا مستوى، لا وزن لهم. هو يحب من الوزراء السابقين كلود شيسون، رولان دوما، ميشيل بارنيه. ويرى في برنار كوشنير تكملة عدد، وفيليب دوست بلازي خشخيشة. وماذا تقصد، يرد تعني rattle بالإنكليزية، أي لعبة أطفال. أقول له: لم أفهم. يضحك، يقول: أنت تسخر مني. وفي تقديره لم تعد فرنسا دولة عظمى، بدليل أن وزارة الخارجية باتت مفتوحة لمن هب ودب. ويقول إنه رمى القلادة التي كان يضعها من حول عنقه في صندوق المقتنيات الثمينة، وخرج يبحث عن عمل آخر، فوجد نفسه مشرفًا على التنظيف في هذا المقهى العريق، الذي يرتاده ساسة قدامى، وكتاب وفنانون. وسرعان ما ربطته صداقات مع بعضهم، وخاصة الممثلات، اللاتي يعشقن وجبة الكسكسي على الطريقة التونسية. أحسن نقعد نطعم فنانات يدخلن الفرح لقلوب الناس، أفضل من جماعات كوشنير المتملقين.
لم يكن يوزّع سوى صحيفة "لوموند" في الحي اللاتيني. تصدر حوالي الساعة الثانية والنصف، وعند الرابعة يكون قد باع حوالي خمسمئة نسخة، وهو ما يفوق كل ما تقوم به مكتبات وأكشاك الحي. والفضل في ذلك يعود إلى شطارته وقدرته على نسج علاقات مع الناس. وهكذا أصبح له زبائن ينتظرون وصول الجريدة، وهم يسمعون صوته من بعيد ينادي بصوت عال ببعض العناوين، التي يتلاعب بها كي يشد انتباه الزبائن. "لوموند": جاك شيراك يغادر الإليزيه من الباب الخلفي. يضحك كل من يسمع هذا الخبر المزيف، لأنه يحيل إلى حكاية دارجة في باريس تقول إن شيراك ينتظر زوجته برناديت حتى تنام، ومن ثم يتسلل من باب خلفي في قصر الإليزيه، كي يلتقي عشيقته الممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي. وهو يمارس التسلل لأن فريقًا من المصورين "البابراتزي" يطاردونه، وسبق أن صوروه في وضع حميم مع الممثلة السابقة بريجيت باردو.
حينما أراه مقبلًا من بعيد وهو يردد عناوين طريفة يؤلفها من وحي الأحداث والشائعات الدارجة في باريس، يعيد لي ذكرى فياض، بائع الجرائد في الحسكة، فياض الضلي، أشهر شخص في الحسكة منذ السبعينيات وحتى وفاته عام 2023. كانت مهنته الرسمية موزع صحف متنقل، لكنه في حقيقة الأمر كان أكثر من ذلك بكثير، إذاعة متنقلة، موصل أخبار ورسائل، فبركة وبث إشاعات، محاورة المارة على اختلاف مستوياتهم السياسية والثقافية، حتى يظنه المرء يجمع معلومات لجهة ما، لكنه لم يكن كذلك، بل يشتم الحكومة كلما تناول كأسًا من العرق، ودخل السجن مرات عدة، وتعرض للتعذيب، وطالما عدّ نفسه شخصية معارضة.
مارس فياض هذه الهواية بحب، وأجادها، والأرجح أنه أخلص لها لأنه لم يجد وسيلة إعلامية يعمل بها. لو أنه عثر على إذاعة، أو جريدة، أو فرقة مسرحية تستثمر مواهبه، لأصبح نجمًا. والدليل أنه حين كان يقصد مرابع السهر يتبارى كثيرٌ من علية القوم على كسب دعوته إلى طاولاتهم. هو حكواتي لا يتوقف عن الكلام، وفي كل لحظة لديه حكاية جديدة، يركّبها من وحي الأجواء التي تحيط به، وهي سرعان ما تشيع في المدينة، وصار بعضهم يخلط بين نوادره، وبعض الأحداث الحقيقية التي تحصل.
تفاجأت بصاحبي الأفغاني يعرض أمامي عقدًا وقعه مع إحدى دور النشر الفرنسية تم الاتفاق فيه على كتابة ونشر قصة حياته. وبقي على الدار أن تجد ما يعرف بـ"النيغر" الذي سيتولى الكتابة. وينص العقد على أن هذه العملية ستتم بالتراضي. ويبدو أن الهدف من الإشارة هنا هو إزالة أي التباس من أنهم سوف يلفقون له قصة حياة من أجل عدد كبير من المبيعات، وربما تحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي، وحتى مسلسل تلفزيوني. مازحته وقلت: اقترح عليهم سلمان رشدي، أو الكاتب الأفغاني الذي حصل لاحقًا على جائزة غونكور عتيق رحيمي. أعجبته الفكرة. شاهدت بريقًا خاصًا يلتمع في عينيه. لقد بدأ حلم المال يتحقق، وهذه هي الخطوة الأولى التي سيتوقف فيها عن البيع راجلًا، ويصبح لديه مكتبة لبيع الصحف في الحي اللاتيني.
قلت له: لا تنسَ أن تتحدث في سيرتك عن الملا عمر. ضحك بسخرية. هنا لا أحد يعرف هذا النكرة... لدي ورقة ثمينة. بن لادن، أنا أحد ضحاياه، هربت أنا وعائلتي من هناك حين بدأ معسكرات التدريب ضد الروس. هل قابلته؟ في الواقع لا، لكن سأقول في الرواية أني كنت من بين مرافقيه، ولكني هربت عندما بدأ يفتك بالطاجيك، ويختلف مع القائد مسعود. أنت تعرف هذا الشخص، إنه معروف كثيرًا هنا، واسمه مادة إعلانية للرواية.
يبدو أنك لن تترك عنصرًا مشوقًا إلا وستدخله في قصة حياتك. إذا نجحت في ذلك ستتحول، حتمًا، إلى كاتب يكسب عيشه من الكتابة. ستستثمر فيك دار النشر. ربما يشترون منك اسمك، وينسجون الروايات باسمك. لا أظنك تمانع في كسب المال، وأنت جالس في دكانك لبيع الصحف.
يضحك بصوت عال، وهو يغادر كأنه يستعجل الوصول إلى الهدف.