}

قراءةٌ في القراءة

سلمى جمّو سلمى جمّو 5 فبراير 2025
يوميات قراءةٌ في القراءة
"مشهد من حلم"، بول ناش (1889-1946)


القراءة مؤنّثة، أو لتسمح لي قواعدي اللغوية المتعنّتة أحيانًا كثيرة بممارسة غيٍّ صغير وتسميتها بالأنثى. ولأنها أنثى فمعاملتها معاملة القوارير واجب. والترحال على خارطتها وكشف معالم حدودها الملغّمة بالمجازات والأفكار المخفيّة، بشكل شعوري تارة من قبل كاتبها ولا شعوري تارة أخرى، واجب. أو الإبحار فيها بعيدًا عن استعمال أدوات الغوص الحديدية المصطنعة بلا روح، والاستعانة بهواء الحدس، لكي تمتلئ الرئتان بها في الرحلة الصوفية تلك.

هي أنثى، المساس بها، دون تطهير العقل من سوابق الأفكار المعلّبة، يجعلك تقع فريسة عدم فهم جغرافيتها وفلسفتها، التي تحتّم عليك أن تأتيها خاليًا سوى من الرغبة بالتلذّذ بها، والتمتّع بما تهِبها لك تلك الأنثى من فيضها الفيّاض، الذي لا يعرف البخل، طالما أنت لها مخلص.

القراءة ظاهرة كانت في الماضي عامة، ومشاعٌ، الجميع بإمكانه الوصول إليها ومزاولتها متى شاء، وكيف ما شاء. هي حالة، وحاجة، وضرورة كانت كالتنفّس والأكل والعلاقات الحميمية. كانت ولا زالت وستظلّ ما كان الإنسان حيًّا على ظهر هذه البقعة التي تُسمى بالأرض.

ليست القراءة تلك الحروف والكلمات والجُمل المتراصّة التي هي حصيلة خبرات الإنسان، والمعاش الذي تعرّض له في حياته، ليست تلك الأوراق ومجموعها المؤلّف في الوحدة التي تسمّى بالكتاب. القراءة كحاجة بشرية وحتى حاجة عضوية قام ويقوم بها الإنسان والحيوانات على حدّ سواء، كلّ حسب الوعي الذي يمتلكه وفي نطاق قضاء حاجاته البيولوجية.

فالإنسان القديم كان يقرأ السماء والغيوم وحركتهما؛ ليفهم منهما حالة الطقس، كما أنه كان يتواصل مع الآخرين من بني جنسه، من خلال الإشارات وقراءة ما يحاول الطرف الثاني قوله، ليستطيع الوصول إلى لغة تواصل تقضي حاجتيهما العضوية والروحية النفسية. كما أنه كان يحاول قراءة لغة الحيوانات الجسدية كي يستطيع التواصل معها، وتهجينها وصيدها حسب الحاجة والرغبة في بعض الأحيان – الرغبة في مدّ هيمنته على مَن هم أدنى مرتبة منه – هنا تكون القراءة وسيلة لإشباع رغبات نفسية، والحصول على المتع واللذّة الروحية.

لتتطوّر القراءة مع تطوّر الإنسان، وتصبح عملية مرتبطة باللغة، والتفكير، والتفاعل بين البشر بدون الآخرين من الجمادات. ويكون فعل القراءة مرتبطًا بالضرورة بالقارئ، فلا أهمية للمكتوب من دون وجود المتلقّي، ولا معنى للمتلقّي من دون وجود مادة مكتوبة. لكن وإن كان الأول – المادّة المكتوبة – يؤدّي إلى خلق الثاني – القارئ – فإن الثاني – القارئ – هو العنصر المفصلي والوحيد في إضفاء القيمة للأول – المادّة المكتوبة – وبالتالي جعله أبديًا أو يقوم برميه في سلّة النسيان. وهذا التفاعل الثنائي يؤدّي إلى خلق ظاهرة تُسمى "القراءة".

القراءة هي تلك المحادثات، التي تُستخدم فيها اللغة كعنصر أساسي للتواصل مع الآخر، هي ذلك الحوار الذي تجري فيه عملية نقل للاوعي الكاتب ووعيه وهواجسه ومخاوفه، وعصيانه، إلى المتلقّي، الذي يقوم بعملية تقمّص وتماه مع النصّ/ الكاتب، ويطوّر ردّات فعل فكرية وعملية، حسب ما فهم من النصّ المقروء، أو حسب ما يريد أن يفهمه.

وبالحديث عن ردّات الفعل المتعاقبة بعد فعل القراءة يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: "ما هي القراءة؟". إن للقراءة أنواعًا عديدة، منها القراءة المركّزة على الكاتب، أيّ قراءة الكاتب من خلال النصّ الذي أنتجه، والغوص في عالمه الداخلي من خلال اللغة، التي استخدمها، والتي تكون بطبيعة الحال مختلفة عن لغة كاتب آخر، وذلك نتيجة للمُعاش الخاصّ، الذي عاشه، والذي يختلف عن الكتّاب الآخرين، وهو النوع الذي يستهدف الفردية المتواجدة في النصّ، وتكون أكثر خصوصية.

ثم هناك القراءة، التي تستهدف النصّ ذاته بعيدًا ومنسلخًا عن الكاتب، حيث يكون هدف القارئ البحث في العبارات والأسطر عن الحكمة، والرسالة، والفكرة الكامنة في النصّ والعمل على تقمّصها أو رفضها، حسب رغبة القارئ، وهذا النوع من القراءات يكون ذا طابع دعَوي، توعوي، واجتماعي، كما أن للقراءة جنسيتها أيضًا، وهي نوع آخر للقراءة، فالقارئ حسب جنسيته يُعطي بُعدًا وتحليلًا، ويُضيف معنى يعكس جنسيته هو نفسه، فالقارئ الأنثى يُحتمل أنه يقرأ النصّ بروح، وفكر، ووعي أنثوي، لذا يُعطي حكمه النهائي، ويُحمّل النصّ معنى منسجمًا مع هويته الجنسانية. كما أن الأمر ينطبق على القارئ الذكر أيضًا، فهو أيضًا يقرأ النصّ من منظار ذكوري، ويطلق أحكامه على النصّ، عاكسًا وعيه الذكوري.

القراءة كفعل فكري، والقارئ كفاعل نهِم جائع إلى المعرفة، وسبر غور المجهول المحيط به، كان سببًا في خلق الكثير من النتاجات الأدبية، وكانت جاذبية كلّ نصّ أدبي والإقبال عليه مرتبطين بالإبهام والغموض المسيطرين على النصّ، ذلك أن النص "حمّال الأوجه" هو الأكثر تعرّضًا للقراءة لفهمه وإظهار ما خفي منه، وهنا يؤدّي بالقارئ المطاف إلى الآليات، التي بالإمكان استخدامها لفكّ الشيفرات المتواجدة في لغة النصّ المعروضة عليه. 

إن القراءة "التحليلية"، التي قد يعتمد عليها القارئ تؤدّي به إلى فكّ التراكيب إلى كلمات والبحث عن الخيوط الخفية، التي تربط بين هذه الكلمات، كي تؤدّي إلى خلق هذه التراكيب دون غيرها، والبحث عن السبب الذي تم اختيار هذه التراكيب على أساسها بدون تراكيب أخرى. فعلى سبيل المثال، إن جملة "المطر يجتاح عوالمي"، تتألّف من كلمات (مطر – يجتاح – عوالمي). النظر إلى هذه المفردات بشكل مفكّك يخبرنا أنها عبارة عن كلمات رائجة، نكاد نستخدمها في حياتنا اليومية بشكل اعتيادي ـ كلّا على حِدةـ، لكن لماذا اختار الكاتب هذه المفردات وجمعها في هذه العبارة ولم يستخدم مثلًا عبارة "الغيث يتسلّل إلى روحي"؟ بغضّ النظر عن أن الجملة الأولى تحتوي على كمّ من مشاعر جيّاشة وهائجة وربما غاضبة، والجملة الثانية أكثر استكانة وهدوءًا، بغضّ النظر عن المعنى الكامن خلف اختيار الكاتب عبارة ما دون غيرها، فإن عملية القراءة والبحث بين سطورها وخلفها تؤدّي إلى خلق نوع من القراءة يمكن تسميتها بـ "القراءة البطيئة"، وهي تسمية تمّت استعارتها من إيغلتون، وهي نوع كان له الفضل في تحليل النصوص الأدبية والغوص في أعماقها.

لكن هذا النوع من القراءة قد شارف على الهلاك، بحسب تعبير إيغلتون؛ بسبب العصر الذي نعيشه وما يفرضه علينا من متطلّبات، والتزامات، وطرق عيش معيّنة من المحال أو الصعوبة أن نتحرّر منها أو ألا نذعن لها. إن عصر الاستهلاكية وما تبعه من سرعة ومن تركيز على الكمية بدون التركيز على النوعية والكيفية، أدّى إلى خلق مفهوم جديد للقراءة هي "القراءة الاستهلاكية"، التي تعتمد على قراءة المادّة المعروضة بشكل سطحي، وتُحبّذ طبعًا أن تكون قصيرة ومختصرة. هذا الوعي الجديد لمفهوم القراءة قد فرض على الكاتب أيضًا أن يجاري التيار ويقوم بخلق موادّ أدبية (سهلة، بسيطة، سطحية، قصيرة). إن هذه الفقاعة التي يحاول الكاتب أن يلج إليها كي يصل بها عاليًا إلى سماء الشهرة، ستنفجر فيه يومًا، ويقع على سطح الخيبة القاسي خاملًا.

لكن بعيدًا عن كلّ هذه التعقيدات، وإضافة المعاني الهلامية، ولصق الجملة الرنّانة بظهر مفهوم القراءة، بعيدًا عن كل هذا، ماذا لو كانت القراءة فعلًا لأجل القراءة ذاتها؟ ماذا لو تمّت قراءة النصوص الأدبية بعيدًا عن كلّ النظريات النقدية وتياراتها؟

إن قراءة النصّ الأدبي باعتباره تفريغًا لشحنات عاطفية فكرية، كانت تعجّ في عالم الكاتب الداخلي، والاقتراب منها كونها مادّة لم ولا ولن يفهمها القارئ مهما تسلّح بالنظريات الأدبية ومعدّاتها، بإمكانها تحرير مفهوم القراءة من كلّ الأغلال المنطقية والرياضية، وجعلها عارية سوى من اللذّة الكامنة فيها، والتي نستلذ بها أثناء فعل القراءة إلى الدرجة التي تدفع بنا إلى الصراخ من المتعة التي نعيشها أثناء فعل الكتابة.

هل بالإمكان القول بأنه لا ضير من كوننا في بعض الأحيان قرّاء غير حذرين وحذقين، ولا نوّد بالأساس أن نكون كذلك، وجلّ ما نودّه من القراءة هو عيش حالة النشوة أثناء القراءة، أو التي تعقب الانتهاء من قراءة الأثر الأدبي بصمت وسكون، بعيدًا عن ضوضاء الفلسفات؟ ربما لا داعي للإمساك بعنق النصّ، ومحاولة قولبته في قالب نحن صنعناه وفق قناعاتنا وعقائدنا ووجهات نظرنا إلى الحياة. ثم إن حقيقة أن النصّ الأدبي المعروض هو فقط نصّ أدبي معروض، بدون قراءته من خلال قراءة كاتبه، أو قراءته من خلاله هو ذاته، ستحرّرنا من ذنب الافتراء على النصّ والكاتب، وتمنحنا ثواب السعادة والرضى بعد ممارسة طقس القراءة، القراءة كظاهرة طقسوية.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
5 فبراير 2025
يوميات
6 أكتوبر 2024
شعر
17 أكتوبر 2023
شعر
19 يناير 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.