قُل لي أيها الشاب النبيل حُسين، كيف يقطع الموتُ كل هذه المسافات ويصطاد ضحيتهُ؟ هل ثمة أيادٍ وحشية تطلُ من سماء ما وتوزع هذه الأقدار المروّعة على الضحايا؟ ما الذي يدفع بالموت لأن يكون بهذه الصلافة؟ كم قلبًا نحتاجُ نحن الفلسطينيين لنسكب فيه آلامنا وأحزاننا؟!
منذ سنوات طويلة، حينما كنتُ بعمر الأسئلة، كانت تتراقص في ذهني عشرات الأسئلة منزوعة الجواب، مثلًا: لماذا لا تموت الأقدار البائسة بسكتة قلبية؟ ولماذا هذا التوزيع غير العادل للأقدار المؤلمة؟! ما الضير بأن نحتج على الموت؟ وعندما عبرتُ سنَ الأربعين صرت أهرب من رعب السؤال إلى رعب الصمت وأضحيتُ أخاف أن يموت الناس أمامي لأنهم يقنعونني بأنني سأموت بالفعل، ربما الآن أو بعد ساعة أو بعد عشرين عامًا! وأيقنتُ أن عَقلَنَة الخوف من المجهول مستحيلة، وأنني مهزوم لا محالة في جولة الموت المجهولة، لذلك تصالحتُ مع فكرة أن القدر قد يكون غرابًا أسود يحلقُ بوحشية فوق رؤوسنا ولن ينجوَ أحد منه!
الشاب حُسين وشاحي (46 عامًا) من قرية عانين غرب جنين، كان الشاهد الوحيد على موته، عثر على قدره في بناية شاهقة، في مدينة أم الفحم في الداخل المُحتل، غافلهُ القدر ورمى به من الدور الثالث، جثة محطمة معجونة بالدم، ظلَّ خمسة أيام يواجه موته وحيدًا من على سرير المرض في مستشفى "رمبام" في حيفا، حيث مسقط رأس عائلته التي هُجِّرت عنها قسرًا في عام 1948 وقد تشتت بين قرى وادي عارة وقرى جنين ومخيمها. في مساء الأول من آذار/ مارس الجاري؛ قرع الموت صدره وربح المعركة، وساقهُ إلى عتمة الأبدية.
ظل حُسين أحد عشر عامًا يحملُ جثمان إبنه البكر محمد (5 أعوام) في عتمة غياب مُريع؛ وبدون أن يقوى على شمع ذاكرته بالشمع الأحمر. كان الطفل يلهو في أحد أيام شتاء 2014 على سطح بيت عمه حينما ألقى الموت القبض عليه من تحت باب حديدي هشَّم رأسه وتركه وحيدًا يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن تعثر عليه عائلته. كيف لهذا القلب المثقوب بالأحزان يا أبا مُحمد، أن يتسع لكل هذا الجرح المفتوح بدون أن ينكسر؟
لم تكن تربطني بحُسين أي علاقة استثنائية سوى أن القاسم الوحيد والمشترك بيننا، أننا نعيش في قرية محاصرة بكاميرات وخرسانات شاهقة تطل بلُؤمٍ على بيوتها وتوزع قهرًا مجانيًا على أبنائها. مرة واحدة يتيمة، وقبل أربعة أعوام، التقيتُ به في يوم شديد القيظ عند الجدار العازل المقام على أراضي قريتنا. غلبنا التعب واستظلينا تحت شجرة صنوبر فيما كانت عانين تحت بصرنا. أدار الغائبُ بيده اليسرى خلف ظهره واستل من كيس أسود علبة عصير مُثلجة ورماها بين يدي، "اشرب الجو حار"، فشلتُ أمام إصراره أن أردها، وللأسف، لا تسعفني ذاكرتي أن أسرد ما دار يومئذ بيننا من حديث غير أن الضحك كان حاضرًا وبشدة.
في تموز/ يوليو العام الفائت مدَّ الموت يده بوحشية إلى جار الطفولة وابن عمة حُسين، الشاب أمجد عيسى (42 عامًا)، وقد تحوَّل بفعل حادث سير إلى أشلاء مغسولة بالدم، أثناء رحلة عذابه اليومية لانتزاع لقمة عيشه في الداخل المحتل.
من بعد ظهر يوم التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 سرقت رصاصة أطلقها أحد جنود الاحتلال، حياة الشاب عاصم عيسى (32 عامًا)، أثناء محاولته إجتياز الجدار العازل عاد الشاب في مساء اليوم نفسه شهيدًا محمولًا على أكتاف ألأهالي فووري الثرى في مقبرة القرية.
هل ثمة أيها السادة، مكان ناءٍ في هذا الوطن يمكننا أن ندفن فيه عذاباتنا بدون أن يقاسمنا الاحتلال المكان والفعل؟!
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 إمتدت أيادٍ سوداء آثمة، ومن دون وجه حق، إلى إبن خال حُسين، الشاب أحمد عيد (20 عامًا)، وقد إخترقت عدة رصاصات جسده وحولته الى كتلة لحم منهوش، وحيدًا بين كروم الصنوبر في إحدى قرى الجليل الفلسطيني المُحتل. عاد البريء الباحث عن لقمة عيشه، في اليوم التالي، محمولًا في صندوقه الخشبي إلى مقبرة القرية، وقد ترك عائلته ومحبيه في قبضة الأحزان.
قبل منتصف ليلة العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 أطلت سيارة بيضاء تحمل لوحة تسجيل "إسرائيلية" من الجهة الشرقية للقرية؛ كانت قد قطعت مسافة طويلة من أحد المستشفيات "الإسرائيلية"، قبل أن تنحرف باتجاه قرية تعنك، وتتسلق جبال عانين وصولًا الى بيت الشاب أحمد عيسى ياسين (20 عامًا).
اندفعتُ بفضول طفولي بين الجموع قبل أن يفتح سائق المركبة الباب ويتدخل أربعة رجال لإخراج جثمان الشاب الذي عَثر على قدره بين أكوام الحديد في مصنع للطوب بمدينة أم الفحم.
تحوَّلت ساحة البيت وسط الظلام الدامس إلى حلقة بكاء هستيري، ففي الفواجع يرفض الجميع تصديق فكرة الموت! تسللتُ من الجهة الغربية للبيت ورحت أتلصص بهلع من فتحة صغيرة عند طرف الشباك الحديدي. كان الشاب مسجى على طاولة خشبية ملفوفًا بثوبه الأبيض، وقد قطع صوت نحيب مروِّع من داخل الغرفة صمت المكان! قذف أحدهم كلمة "وحّدوا الله" كجواب عفوي على الفاجعة. لم يكن قد مضى ست سنوات على غياب والد أحمد ياسين الذي وجِد ميتًا بين كروم الزيتون بعد أن تعرض إلى حادث عمل فتت أحشاْءَه، وكالتفاف على ألمه آثر العودة إلى بيته، لكن الموت تمكن منه قبل أن يصل إلى عائلته.
ركضتُ بعد تخرجي من الجامعة، عامين متواصلين، بين جحيم وَرشات البناء والطرق الالتفافية والبيوت المهجورة وأمزجة أرباب العمل، ودون حقوق. كانت أيامي تُذبحُ بصمتٍ أمام عيني بين أكوام الإسمنت والطوب ومن تحت شمس حارقة وبردٍ يتسلل إلى قاع عظامي، وقد عايشت هموم وعذابات مئات العمَّال، وعبثًا كنتُ أحاول أن أستر هلعي من مستقبل غامض ينمو في أحشائي له طعم المرارة، وخلصتُ أنه لا مستقبلَ في مدنٍ ترصد حركاتك وتتربص بفرحك؛ فغادرتُ الوطن إلى بلاد الثلج.
في أحد الأيام انفلتُ بين أصدقائي أرقص بعفوية وصدقٍ كبيرين، بعدما تحصلتُ على فرصة عمل في شركة تغذية في ضواحي العاصمة السويدية استوكهولم. كنتُ مندهشًا جدًّا، من هذا النعيم الإلهي: يفصلني عن مكان عملي مسافة عشر دقائق سيرًا على الأقدام، أشرب كوبًا من القهوة بالحليب مجانًا، أعمل ثماني ساعات يوميًا، وأثناء استراحة الغداء أجتمع وزملائي ونتبادل الأحاديث بحب وطهارة.
تملكني إحساس غامض ممزوج ببكاء أخرس عندما استلمت عبر حساب بنكي، أول راتب شهري ممتاز، وقتئذ أيقنتُ معنى أن تعيش في وطن محتل تنبح فيه ألمًا وأنت تحمل جثتك على ظهرك في طريقك لانتزاع لقمة عيشك من فم المجهول.
كنتُ أتلقفُ بحسرة طوال العام الماضي عبر العائلة والأصدقاء أخبارًا تُمزق القلب، عن حوادث مروَّعة لشبانٍ من أبناء قريتنا والقرى المجاورة قد تساقطت أعضاؤهم بين جرح وكسر، أثناء رحلة العبور إلى "الجحيم" عبر جدران خرسانية عالية وأسلاك شائكة.
تعتريني الدَهشة كلما فتشتُ عن جوابٍ لسؤالٍ مشروع، ماذا قدّمت نقابة عمال فلسطين، لمئة وخمسين ألف عامل يطاردهم شبح الفقر، بعد السابع من أكتوبر وما تبعه من عدوان همجي على أبناء شعبنا، وقد أضحوا في مرمى قدرٍ بائس وبدون حقوق وضمانات تضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة؟ هل تعطي النقابة، مثلًا، ترف وقتها للوقوف على ملابسات موت عامل فلسطيني أثناء عمله؟ بل وقد بلغت الحكومة الفلسطينية من العبث درجة جعلتها تطلب من الشركات الإسرائيلية تحويل رواتب العمال الفلسطينيين وأتعابهم عبر البنوك الفلسطينية لاقتطاع جزء منها! ما هذه النزعة المستهجنة التي تملَّكت المسؤول الفلسطيني وحوّلته إلى كائن دموي ينبتُ لحمه من دماء الضحايا وفقراء شعبه؟! بعد كل هذا، لماذا يرفض صاحب القرار الفلسطيني القبض على حقيقته؟!
لا شك في أن في كل قرية ومدينة فلسطينية العشرات من حسين وأمجد وعاصم والأحمدين، واجهوا أقدارهم على نحوٍ مروّع في هذا الدرب الإنساني المرير.
وداعًا حُسين، حلِّق أيها الغائب تحت الطين البارد، واحمل قنديلكَ وأنر السماء، وافتح عينيك من هناك على الأرض، واترك قلبك بين يديّ إله عادل يملك سر فرحك.
تعازينا القلبية لأصدقائنا في عائلة وشاحي، ونقف معهم بكل حب في هذه المحنة، وقد سطا على قلوبهم الألم بغياب ابنهم شهيد لقمة العيش.
* صحافي فلسطيني مقيم في بروكسل.