أنا ابن مخيم الحسين في العاصمة الأردنية عمان، وأعرف.
أعرف كيف يعيش الناس في مخيمات الشتات. كيف يتواصلون. كيف يعبرون عن مشاعرهم إزاء ما يخص شؤونهم. وإذا كنت أود، في مقالي هذا، أن أتحدث عن قضية المشاعر بين الناس في المخيم الفلسطيني، فيتوجب، بداية، أن أوضح ملاحظتين: الأولى، أن حياة الناس في مخيم الشتات مختلفة تمامًا عن حياتهم في مخيم داخل فلسطين، فبالرغم من أن المخيم واحد، إلا أن التفاصيل مختلفة تمامًا، خاصة ما يتصل بالمشاعر، فبمقدار ما هي هناك واضحة وصريحة، بل معلنة إلى حد السماء، أحد الأصدقاء/ مخيم جباليا (كتب قبل أيام على صفحته: ليت الحرب تتوقف حتى أواصل الرقص مع ابنتي قبل أن تذهب إلى المدرسة)، فإنها هنا مرتبكة، مشاعر الناس هنا مرتبكة، من الصعب أن يعلن أحد عن مشاعره صراحة، الموت أهون عليه من ذلك. وهذا يحتاج إلى تفصيل ربما في مقال آخر.
الملاحظة الثانية، وهذه الملاحظة ربما تكون موجودة في أي مخيم، ومفادها أن الناس تعرف أدق التفاصيل عن بعضهم بعضًا، لا يوجد سر في المخيم، فما يحدث في عتمة الليل يكون على كل لسان صباح اليوم التالي.
احتجت أن أنوه لهاتين الملاحظتين لتبرير بعض الأسرار، والمواقف التي سوف ترد في هذه المقالة، حول الناس، كيف تعيش، وكيف تعبر عن مشاعرها.
يلاحظ المتابع أن الناس لا تعبر عن مشاعرها الحقيقية، حتى لو بدت تلك المشاعر واضحة للعيان، فإنهم يتحفظون في الإعلان عنها. أزمة أبو صالح، على سبيل المثال، طالت كثيرًا قبل أن يموت، ولم يبدُ على أم صالح أنها على وشك أن تترمل، وأنها على وشك أن تفقد سندها، أن تفقد نفسها في الحياة. كانت تبدو قوية، متماسكة، وحين يسألونها عن صحة زوجها، تكتفي بالقول: الله كريم.
لكن أم صالح حزينة، كان قلبها يعتصر ألمًا، وفوق ذلك هي تحبه. تحبه بصمت. تحبه بالفعل. تراه جبلًا، يقدر على كل شيء. يقدر عليها. هو الوحيد الذي يقدر عليها. تغيب عن الوعي عندما كان يختلي بها، ساحر أبو صالح. يقول لها كلامًا لم تسمع مثله في حياتها، ثم يأخذها إلى البعيد، إلى مكان لم تره قبل أبو صالح، مكان تبكي فيه، لكنه بكاء حلو.
في المخيم، ليس سهلًا أن تعبر عن مشاعرك، ليس سهلًا أن تعبر لمن تحب عن حبك له. سوف تبكي إذا فعلت. الدموع وليس الضحك هي الآلية التي يعبر من خلالها أهل المخيم عن فرحهم. أما عندما يحزنون، فإنهم يلتزمون الصمت. صمت ينحت الصخر، صمت يبكي على حاله الحجر.
والمشكلة أن هذه الحال ليست آنية، ليست ظرفًا ويمر، ليست استثناء، بل نمط حياة.
مات أبو صالح ولم يقل لأم صالح، ولا مرة في حياته، أحبك. استخدم كل الأساليب التي تخطر في الذهن، والتي لا تخطر، حتى يثبت لها كم هي عزيزة على قلبه، لكنه لم يقل أحبك. علمًا أن قولها أهون وأبسط من تتجشم عناء محاولة إثبات حبه لها.
غريب أمرهم: يتشاركون في كل شيء، يتبادلون كل شيء، إلا تبادل المشاعر.
منهم من لم ينطق لسانه مع لسان أبيه منذ وقت طويل، رغم أنهما يعيشان في بيت واحد. وحين يسأل عن السبب، يقول: لا أعرف هو يتجاهلني وأنا أتجاهله، كأن كل منهما يخشى أن يفصح للآخر عن مشاعره.
آخر، كان يتردد في العودة إلى البيت، إذا علم أن أحد أفراد الأسرة مريض، خشية أن يقتضي الموقف أن يبدي لهذا الشخص مشاعر الود والتعاطف.
أحدهم خسر خطيبته، بسبب أسلوبه في التعبير عن مشاعره، فإذا أراد أن يشعرها أنها قريبة منه، يجد نفسه قد تعمد تجاهلها. مرة، وهذا كان سبب فسخ الخطبة بينهما، شعر برغبة شديدة لأن يمسك يدها، وقد مد يده فعلًا كي يمسك يدها، لكن يده ارتفعت، من دون قصد منه، وصفعتها.
عندما رقص منصور في عرس أخته غدير، كان رقصه عبارة عن تشنجات جسدية، كان كأنه يتألم ولا يرقص، كأنه يؤذي نفسه بحركات ليست مدروسة، يرتقي بجسده إلى الأعلى كثيرًا، ثم يسقط دفعة واحدة على الأرض.
صفية التي تسكن مع أمها في طرف المخيم كانت تحب جارها، الشاب الوسيم، لكن الشاب كان في مطلع اليفوع، يثيره الجسد، أكثر مما تستوقفه الروح. كانت بينهما نظرات تنم عن إعجاب من قبلها، أما هو فمعجب، معجب بها كلها. كان يغطي على نزعته هذه بود شديد، يصطنعه معها، ليبدو حملًا وديعًا، لا يفترس.
أمها تعرف كثيرًا ما يصادفها في زقاق المخيم، يحب أن يمازحها كلما رآها. مرة قالت له:
ــ ترى، صفية تحبك.
ــ ضحك يومها وقال: كيف عرفت؟
ــ يوم ما عزمناكم عنا على الغدا، صفية كسرت يومها كاستين وصحن، عقلها ما كان في رأسها، قلبها كان معك.
لم يمض وقت حتى كان هذا الشاب يدعو صفية لزيارته في بيته، إذ كان وحده في البيت آنذاك. لم يحتج جهدًا، أو مقدمة، أو طول وقت حتى يقنعها بالحضور، فهو يعرف أنها تحبه.
وقد كان تقديره في محله، إذ وافقت فورًا. مسافة الطريق وكانا وحدهما في غرفة موصدة الباب.
هي تريد أن تسمعه وهو يحكي، وهو ينظر إليها بنهم. كانت مرتبكة، بالكاد الكلام يخرج من فمها. لا تعرف ماذا تقول في مثل هذا الظرف. أول مرة تجلس مع شاب، والغرفة موصدة الباب، وليس أي شاب، إنه الشاب الذي تحبه من بعد، تراه مختلفًا عن كل الشباب، جميلًا، ضحكته تنم عن قلب أبيض، روحه تحلق بعيدًا، أبعد من كل الشباب.
بدت مترددة، كأنها تلوم نفسها كونها طاوعتها على المجيء إلى هنا. نادمة، لكنها لا تملك خيار رفض دعوته.
من دون مقدمات، ومن دون تمهيد، ومن دون استئذان، فعل ما فعل وهو يعد القهوة. كان يقف بعيدًا جانب الغاز، يحرك بالملعقة القهوة التي تنضج بطيئًا على نار هادئة. كان يشعر أنها مرتبكة، يعرف أن هذا اللقاء الأول لها مع شاب، ويعرف أنها تحبه. رأى أن أفضل طريقة لكسر رهبة اللقاء هي الثرثرة، والإمعان في الثرثرة، والحديث بأمور عامة حتى تهدأ، وتهدئ من روعها.
كان قد انتهى من إعداد القهوة، وضع فنجانين على صينية والتفت إليها ليسأل كيف تحبها: بسكر، من غير سكر؟
لا يعرف ما الذي حدث معه في تلك اللحظة، ترك صينية القهوة وانقض عليها. صعقت لحظتها، شعرت أن حياتها في كفة، وأن ينال منها في كفة. قاومته بشدة، ثم خلصت نفسها من بين يديه وهربت.
بقي واقفًا ينظر بذهول إلى الباب الذي أغلقته بقوة خلفها. وكان يسيل من فمه لعاب.
انتهت النظرات المتبادلة بينهما في ما بعد، وفي المرات القليلة التي كانت تلتقي عيناه بعينيها، كان يلحظ في عينيها دمعة. حتى أمها لم تعد تمازحه عندما يلتقيان مصادفة في الطريق، بل كانت ترد على تحيته باقتضاب وتشيح بوجهها. وكل مرة يسأل نفسه:
ــ معقول قالت لها!
بعد أيام، جاءت صفية إلى بيتهم. كانت أمه حينها في البيت. سمعها تحيي أمه وتجلس على الأرض جانبها.
"ما الذي أتى بها، ظننتها لن تطأ عتبة بيتنا بعد الذي فعلته بها. ظننتها ستندم على اللحظة التي ظنت بها أنني شاب يستحق الاحترام.
ظننتها قد اكتشفت أنني بوجهين، أو بالأحرى بوجه واحد، وهو الذي ظهر أمامها حين هجمت عليها.
"معقول ما جرى لم يمس شعرة برأسها، وها هي تأتي إلينا، كما كانت تفعل دائمًا: تجلس مع أمي، تثرثر معها، تعطيها غرضًا من أمها، أو تأخذ غرضًا أوصتها أمها عليه".
ساقه الفضول إلى أن ينظر إليها من شق الباب. كانت فرحة، ملامح وجهها توشك أن ترقص، تتحدث بكثرة، بل لعلها واضعة شيئًا من المكياج على وجهها: خداها أحمران، وعيناها يلمع منهما بريق. لم يرها جميلة في يوم من الأيام، كما بدت حين نظر إليها. وقد وجد نفسه يفتح الباب، ويصبح أمامها. ارتبكت، لم تتمكن من الاسترسال في الحديث مع أمه، ارتبكت أكثر حين وجدته قريبًا جدًا منها.
أطرقت والتزمت الصمت.
ــ كيف حالك صفية؟
بصوت مخنوق، بالكاد يخرج من فمها قالت: أهلًا. واستأنفت الحديث مع أمه.
شعر برغبة لأن يعتذر لها، ليس منصفًا أن يفعل ما فعل ويدير وجهه. هي ليست رخيصة إلى هذا الحد، تستحق أسفًا، اعتذارًا. هذا ما كان يدور في ذهنه، وهو ينتظر، بفارغ الصبر، أن تذهب أمه إلى أي مكان، أن تأتي هي إلى أي مكان، أن يختلي بها لحظة واحدة فقط، يقول لها إنه آسف، لعل هذا يعوضها عن الأذى النفسي الذي سببه لها.
وبالفعل، اتجهت أمه إلى المطبخ. بدت صفية كأنها على وشك أن تذوب في ثيابها.
ــ آسف صفية، لم أكن أقصد.
انهارت صفية مما سمعته، طار الاحمرار عن خديها، خف، بل تلاشى البريق في عينيها. وقفت، لم تنطق بكلمة، شعر أنها توشك أن تنفجر بالبكاء. أذهله منظرها، وقف عاجزًا أمامها، يراقبها بعينيه لا أكثر. خطفت نفسها، فتحت الباب الخارجي، ومضت.
بقي يراقبها، وهي ماشية، تتعثر بقدميها. فكر أن يلحق بها، أن يمسك يدها. أن يقول لها إنه ليس آسفًا. يحملها بين ذراعيه، ويذهب بها إلى أبعد جبل، وهناك على قمة الجبل يحضنها، ويصرخ بأعلى صوته: لست آسفًا، بل أحبك.
بعد وقت ليس طويلًا تزوجها، وحدث الانقلاب المريع في حياته. مضت الأمور، بداية، بيسر، فهو يعرفها، وهي تعرفه. وأفاده كثيرًا أنه وحيد، يسكن مع أمه في بيت مستقل، ولديه مدخرات قليلة خلفها والده. بمعنى، هو عريس "لقطة" لا يفوّت. لكن، ما حدث يوم صباحيته كان مخيفًا. استيقظ وفي عينيه رعب شديد. يستقبل زواره المهنئين بزواجه في غرفة الضيوف والارتباك باديًا عليه. شارد الذهن، ليس مع زواره، ليس مع أحد. شارد الذهن، أو أن ذهنه يأخذه إلى ما هو أبعد.
لم تظهر زوجته صفية ذلك الصباح. لم يرها أحد. سمع الضيوف صوت حركاتها في المطبخ، لم يسمعوا صوتها.
صفية كانت في المطبخ تعد القهوة، وبعض الحلويات للضيوف.
كانت حائرة: هل يجوز أن أكون كما كنت ليلة أمس. أوصتها أمها قبل أن تخرج من بيت أهلها. وضعتها في ماء يغلي في الحمام، وراحت تفركها بليفة خشنة، وتنتف شعرًا عن جسدها، وتوصيها:
ساعديه، لا تقفي أمامه مثل "اللخمة"، مثل الهبلة. سوف يكون في أمس الحاجة إلى مساعدتك. إذا لم تساعديه سوف ينكسر. سوف يتحطم.
ساعديه. تعالي على نفسك وساعديه. هي ليلة واحدة، ليلة العمر، عليك أن لا تكوني أنت. عليك أن تتفوقي على نفسك. تبذلي قصارى جهدك حتى تنجح الليلة. يجب أن تنجح. حياتك معلقة بنجاحها. إذا لم تنجح سوف تعيشين بقية حياتك في جحيم. سوف تندمين على اليوم الذي ولدت فيه.
صفية خائفة. لا تعرف شيئًا مما تلمح له أمها. والأم تحاول أن تنأى بنفسها عن التفاصيل. لا تريد أن تقول تفاصيل. تتحدث بعموميات.
"استرخي معه، حاولي أن تكوني مسترخية تمامًا. داعبيه. لا بأس إذا وضعت يدك على جبينه. حاولي أن تشعريه أنك متفاعلة تمامًا معه. أشعريه أنه رجلك. يجب أن يشعر أنه رجلك، وأنك له، وأنه الوحيد القادر عليك.
ما تقعدي معه مثل الهبلة".
اعطتها قطعة قماش بيضاء.
تساءلت صفية بحركة من رأسها عن قطعة القماش التي في يدها.
ارتبكت الأم. لم تكن تريد أن تدخل بالتفاصيل. لكن كان يتوجب عليها أن تجيب. وأجابت:
الدم. قد يسأل أحد عن الدم.
هو أيضًا خضع لدروس ونصائح عشية ليلته، التزم بما سمع بحذافيره. لكن صفية لم تساعده. بقيت واجمة. خائفة. جسدها يرفض أن يطاوعها ويرتخي. حاول بكل ما أوتي من قوة. لكن صفية لم تساعده.
لقد حدث أحد المعارف الثقة بما جرى معه، فنصحه أن يترك البيت الذي يسكن فيه في المخيم، ويرحل بعيدًا.
قال له: مستحيل أن تطاوعك البنت وبيت أمها إلى جوار بيتك، وصوتها قد تسمعه أمها. ناهيك عن إمكانية أن يراها الجيران وهي بقميص النوم. يجب أن تسكن بعيدًا عن هنا، وسوف تكون أمورك بخير.
لا يحتاج المتابع إلا أن يكون لماحًا، ليلاحظ أن ثمة أزمة لدى سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في ما يخص التعبير عن مشاعرهم، ناجمة عن حساسية زائدة تجعلهم على مشارف الإجهاش في البكاء، كلما هزت أشواقهم الدفينة مشاعر نبيلة.
ربما لأن الفرح بالنسبة لهم أشبه بالماء الساخن إذا انسكب على الروح الضامرة، تكون النتيجة انكسارًا.
ربما لأن خسارة وطن تولد في داخلك هزيمة، من الصعب جدًا أن تتجاوزها وتنتصر لنفسك.
لا يحتاج المراقب إلى طول تفكير ليلاحظ كيف تستباح خصوصيات الناس، وكيف يتحول الإنسان إلى سلعة، إلى مادة: وضعتها في ماء ساخن وراحت تنتف شعرًا عن جسدها! كأنها دجاجة يتم تجهيزها تمهيدًا للذبح. يفقد الإنسان إنسانيته في المخيم، ويتحول إلى كائن لديه استعداد أن يفترس من أجل أن يعيش.
أختم بالإشارة إلى ما بدأت به مقالي، كيف أتيحت لي معرفة أسرار بهذه الدقة. وأكرر: لا سر في المخيم. ما يحدث تحت جناح الظلام يكون في صباح اليوم التالي على كل لسان.
عن الحياة في مخيم للاجئين الفلسطينيين
أحمد طمليه
14 أبريل 2025
مقالات اخرى للكاتب
سينما
24 أبريل 2025
سير
14 أبريل 2025
استعادات
4 أبريل 2025
استعادات
24 مارس 2025