}

ليلى مقدسي: تقرأ وتكتب وتعيش مع المتصوِّفة

فيصل خرتش 16 أبريل 2025
سير ليلى مقدسي: تقرأ وتكتب وتعيش مع المتصوِّفة
ليلى مقدسي
التقيت ليلى مقدسي أمام المكتبة الروحية، كانت تسير بهمَّة عالية. وبعد السلام والتحيات، أعطتني رقم هاتفها، وطلبت مني أن أزورها، وما هي إلا عدَّة أيام إلا وكنت في حضرتها، في صومعتها. إنها أنثى تتمتع بروحها القادرة على العطاء دائمًا، تسكن في قلب البلد، روح شابة ما تزال قادرة على العطاء، بيتها أنموذج لراحة النفس، فيه كلُّ شيء مما تحبه النفس. وفي البيت مكتبة ضخمة جمعت أنفس الكتب. قامت بضيافتي، وخلال ذلك رحت أتأمل الكتب التي جمعتها بشق الأنفس، وجعلتها تحكي، من ولادتها بـ"صافيتا"، ورحيل والدها إلى "الرقة" وكان يعمل في الدرك، ثم إلى حلب، ثم إلى "باريس" لزيارة أخيها الذي كان يعمل في إذاعة مونت كارلو، ثم إلى "تولوز" حيث تقيم ابنتها، التي درست هناك وتعمل فيها.

تداعت وهي تحكي، فحدَّثتني عن هذه الطفولة بفرح، وتذكرَّت تلك الأيام عندما كان أهلها يفضلون الصبي على البنت، فقد كانت وحيدة على أربعة صبيان. كانت مدللة والأب يعاملها بحبِّ والأمُّ تعاملها برحمة، إلى أن جاء الصبي الذي هو فايز، وأصبح يأخذ من حبِّ الأب والأم كلَّ شيء.

جاء الجدُّ ورآها مقيمة في المرض، وعندما عرف أنهم يؤثرون الصبي على البنت، قرَّر أن يأخذها معه إلى "القنية"، وهي قريبة من جسر الشغور، وكان هذا الجدٌّ من أصحاب الأملاك والنفوذ، يجتمع عنده الوجهاء والمسؤولون كلَّ يوم بما يشبه المضافة، وكانت تجلس في حضنه وهو يتابع جلساته، كانت تستمتع بهذه الحوارات وتبدي اهتمامًا ملحوظًا بها، وبقيت عنده سبع سنين، إلى أن انتقل الأب من الرَّقة إلى حلب فجلبها إليها، وكانت قد بلغت من العمر أنها ستتقدم إلى فحص الكفاءة/ البروفيه، ونجحت فيها. وفي هذه الفترة، عملت عند إحدى الراهبات معلِّمة للصف الأول، بسبب الضغط المادي على الأسرة، وعندما رأت الراهبة أنها تصلح للتعليم في الصفوف المتقدِّمة أوكلت إليها ذلك، ولم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها بعد، في تلك الأثناء فقدت عينها نتيجة خطأ طبي، وهي تعمل بعين واحدة، وتضع نظارة فلم يظهر ذلك عليها.

تعرَّفت على زوجها، فقد كان يزورهم في البيت آنذاك، لأنه كان صديق أخيها، وصار يتودَّد إليها، أعجب بها وأرسل لها ما يقارب من 250 رسالة، ما زالت تحتفظ بهنَّ، والمشكلة أنَّه من غير دينها، وأفهمته ذلك، لكنَّه صار يلح أكثر على الزواج منها، قالت له: "الناس لا تفهم ذلك، سوف ينهالون عليَّ باللوم وحتى التقريع"، لكنَّه أصرَّ، وفي النهاية تزوَّجا وأنجبا ابنة واحدة كانت متفوقة في دراستها، وأرسلت في بعثة إلى فرنسا وبقيت هناك.

عاشا بشكل جميل لولا تدخل أنثى بينهما. 

بعد ذلك بقيت معه فترة ثمَّ تخاصمت معه وطلبت الطلاق، أخذت كلَّ شيء منه وغادرت، فجلس ملومًا محسورًا، ثمَّ تدخل أقرباؤه وتمَّت الصلحة مع ليلى، وعاد إلى البيت يحمل أوزاره بكلِّ أسى. بعد فترة فارق الحياة، وهي تجلس وحيدة بعد موت الزوج، تعيش على القراءة والكتابة وتقرأ للمتصوفة، فقد كتبت نحو 54 عملًا وتراوحت أعمالها بين الشعر والدراسات والرواية، وقد قام أحد الكتاب بعمل دراسة عنها، تقول عن صوفية اللحظة:

قال لي: الحجاب رؤيا الروح/ الظلمة تاج النور/ الدعاء نشوة الوصول/ الرحمة أسمى مراتب المحبة.

ومن قصيدة أخرى:

مقامك هذا المدُّ بالوجد الإنساني/ أنت الشمول/ أنت زهر النور/ استعنت بقلبك/ من فيضك/ من عطفك/ وعاء روحي يغتني، وكلُّ شيء يزول.

وحول اهتمامها بالمتصوِّفة قالت: "إذا كنا نفهم التصوف على أنَّه سياحة روحية وتأمل علوي في ملكوت الله، عند ذلك يمكن أن نقول: إنَّ التصوف ظاهرة دينية ظهرت وشاعت لدى أصحاب الديانات عمومًا والسماوية منها خصوصًا، التصوف هو السعي والتركيز على الجوانب المعنوية في الذات والكون بغية الوصول إلى الحالة العليا للإنسان، واتصاله بأسمى ما في الوجود وأبهاه".

وعن ابن عربي الذي رافقته السيدة ليلى زمنًا ولا تزال، فهو يتفق مع الدين المسيحي في أنَّه يسعى إلى بلوغ الكمال، من خلال تنظيم الحياة ومحاسبة النفس. أمَّا في مقام المحبة فيتحدَّث عن حضور إلهي يمنحه الله لأصفيائه:

"لقد بلغ بي قوة الخيال أن كان كلَّ حبي يجسد لي محبوبي من خارج عيني فلا أقدر أن أنظر إليه، وكلما قُدمت لي مائدة الطعام، قال لي محبوبي: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع عن الطعام ولا أجد جوعًا بل أقوم وأنا شبعان".

وأمَّا حبُّ الله، فهناك ثلاث درجات لهذا الحبُّ:

الأولى: الهوى، لأنَّه في النفس من الإيمان بكلمة الله.

الثانية: الحبُّ، وهو ميل بالرضى والإخلاص وإيثار الله على كلِّ شيء، والثالثة: العشق، وهو إفراط المحبة الذي يأسر النفس ويستولي عليها.

والحبَّ نوعان:

الحبٌّ الطبيعي الذي لا ينشد غير الحبِّ.

والحبُّ الروحاني الذي لا ينشد غير خير المحبوب.

فالله في حبِّه يجمع بين الحب الطبيعي الذي يسعى إلى خيره الخالص، وبين الحب الوحي الذي يسعى إلى خير المحبوب.

والحبُّ من صفات الله فهو أزلي مثله، وقبل أن توجد المخلوقات كلُّها يحبها، ولأنَّه يحبها فقد خلقها، وبعد أن أوجدها فإنه يحبها إلى الأبد.

وابن عربي يرى أنَّ التصوَّف جاء ليكمل الدين المسيحي:

لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورة    فمرعى لغزلان ودير لرهبان

أدين بدين الحب أنى توجَّهت      ركائبه فالحب ديني وإيماني...

وتعيش ليلى مع النفَّري وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي والحلاج، هكذا هي في غربتها مع نفسها، لا تجد أحدًا سوى روحها فتناجيها برحيق المتصوفة علّها تجد الذي تحبه فيهم.

              

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
8 يوليه 2025
يوميات
25 مايو 2025
يوميات
2 مايو 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.