(أوكتافيو باث)
إن نظرتِ إلى الأفق، يا غريبة، ستجدين المسار يتلاشى، والرؤية تتبعثر كضوء باهت على صفحة ماء. غافلٌ من ظنَّ أنه امتلك الحقيقة، الحقيقة ماءٌ ينحلُّ في الضباب، شجرةٌ عارية لا تبوح بسر الريح. ها أنتِ تلامسين الأغصان بأصابع مرتجفة، عند عزلتك التي اخترتها قرب النهر، في مدينة صغيرة لا تحتفي بالغرباء، مدينة تشبهكِ، حيث يأتيكِ العالم كظلال، كغياب، كإعادة تكوين، مثل ضربات الفرشاة المترددة على قماش اللوحات.
بونتواز... تلك المدينة التي تبعثرت ألوانها في يد مونيه وبيسارو، حيث تذوب السماء في النهر، وحيث الأشجار تمتدُّ بأذرعها في الضباب، نصف حاضرة، نصف غائبة، مثل حلمٍ لا يكتمل. هناك، في الغابة التي تعبرينها كل صباح، في الطرقات التي رسمها الانطباعيون، حيث لا شيء محددًا، كل شيء يتحلل في الضوء، تلحقين السر الذي دغدغ الماء، وتراقبين تهادي الأوراق الخضراء على سطح البحيرة، تتبعين أثر الألوان الهاربة، تلك التي لا تستقر، التي تذوب قبل أن تُمسك. تصنعين مكتبةً فتصنعين انتماء، تشيدين بيتًا ثم تهجرينه، لكن نوافذه تظل مفتوحة في قلبك المنهك. تتشظين إلى ألف امرأة، وحيدة وسعيدة وهانئة، تخترعين أبجدية مع الشجر، وتراقصين ظل أوراقه حين يهمس الفجر. هناك، حيث لا كائن يعكر صفو التيه في عينيك، حيث النهر ينساب كنشيد قديم، وحيث خطاك تلاحق تكسر الأغصان اليابسة، وأنتِ تحاولين إبعاد الليالي عن رأسك. تقولين لنفسك: سيمضي هذا الكابوس سريعًا. ولكن الكابوس عنيدٌ، لا يذهب.
تعرفين يا غريبة، أنك غريبة حيثما حللتِ، أنك توقفتِ عن رؤية الأحلام، ولم يتبقَّ لك سوى الكوابيس. تسألين نفسك: لمَ لم أعد أكتب أحلامي؟ لمَ تخليتُ عن هشاشتي؟ ومن يترك الهشاشة يترك متع الحيوات، كل الحيوات المتخيلة قبل الموت وبعده، ومن يترك الهشاشة يكره الشعر أيضًا!
ماذا حلَّ بكِ يا غريبة؟ متى تتوقفين عن الاستيقاظ مذعورة، هاربة من رأسك الذي يصرُّ بعنادٍ على أن يبقى واقفًا فوق كتفيك؟ كم مرة أغمضتِ عينيك وحلمتِ بذلك الرقراق، الموتُ حين ننام؟ رأسك لن يفيق ثانية حين يسقط.
تذكرين الكابوس؟
نعم، أذكره.
هل تروينه لي، يا غريبة؟
الغرباء يروون للغرباء حكاياتهم وكوابيسهم، ونحن بأمان... نحن غريبتان، واحدة تُنادَى باسمك، وأخرى لا يعرفها أحد.
كم امرأة أنتِ؟
أنا ألف امرأة.
إذن، اروِ لي...
في الكابوس أرى نفسي، أرانا معًا، نمشي ببطء حول الجامع العمري. لا أعرف إن كان الكابوس واقعًا، أم أنني أحلم أنني أحلم، ولكنه الربيع، وعرفتُ أنه الربيع من شيء غامض في الرؤى. في الكابوس تصيرين مثل صوت روائي كليّ عليم، مطلق المعرفة، ومن دون شرح ترين الأشياء كما هي، كما يجب أن تُرى. ورأيتُ نفسي أقول لنفسي: ما الذي أتى بي إلى درعا؟ أنظر إلى حجارة الجامع وإلى مئذنته، يقولون إن عمر بن الخطاب عندما زار حوران أمر ببناء المسجد. أنا وأنتِ ندور حول الجامع والسماء زرقاء صافية، وكنتِ تحاولين الدخول بين الجموع، رأيتُ الكثير من أهل درعا، رأيتُهم يتساقطون كقطرات الندى، فأقول لكِ: توقفي عن هذا الهذر، أغمضي عينيكِ واخرجي من الكابوس، أنتِ أرقّ من هذه الرؤية. تهشّينني كذبابة وتتقدّمين، وتستمرّين بالدوران حول الجامع. ثم تظهر الطائرات.
في أعماقكِ تعرفين أنها طائرات، لكنها كانت أسماك قرش طائرة بلون رمادي وفضي، رغم أنكِ لا ترين الألوان. في أحلام سابقة، يا غريبة، كنتِ ترين الطائرات مثل صورة الحوت الأبيض، تذكرينه؟ كان مسلسلًا كرتونيًا للأطفال وكنتِ مولعة به في صغركِ. لا تردّي الآن! دعيني أروي لكِ كابوسكِ، ثم اذهبي إلى الشلال كعادتكِ عندما تغادرين لتمشي في الغابة مع طلوع الفجر، قرب الشلال ارمي هذه الكلمات وغادري الكابوس، غادريه مرة واحدة وإلى الأبد، سيلتهمه الزبد. هذه تعويذة صنعتُها خصيصًا لكِ، ولكن قبل ذلك دعيني أكمل:
كنا ندور أنا وأنتِ في ساحة الجامع، وسمعنا أصوات أسماك القرش، ونحن ندرك أنها مجرد طائرات. ثم صارت تخرج من زعانفها القذائف وتسقط حولنا، وهناك فجأة رأيتِ الناس يخرجون، وحدّقتِ في وجوههم، لم تكن وجوهًا عادية، كانت تلك وجوهًا تعرفينها من لوحات الرسام الإسباني فرانشيسكو غويا، تعرفين وجوه غويا المذعورة، هو مُفضلكِ، وجوه صغيرة وكبيرة تتراقص أمامكِ وتختفي، تصرخ وتختفي، تصير وجوه غويا وجوه أهل درعا وتصرخين مثلهم، ولا يخرج صوتكِ، ولا تسمعين، رغم أنهم يصرخون وينبطحون على الأرض، وصارت السماء فضية وتلمع بخيوط من نار، وتحاولين الفرار وتتهاوين مع الوجوه مثل كرات في باحة الجامع، ولكنكِ لا تتركينهم.
حتى تكوني بنتًا صالحة عليكِ ابتلاع الخطايا. ابتلاع خطايا البشر فضيلة، تقول أمك، وكنتِ لا تعرفين، كنتِ تبتلعين تلك الخطايا وتبحثين عن أملٍ ما، ومكانٍ ما تختبئين فيه أنتِ والبشر الذين يتهاوون مثلك. وكانت باحة الجامع حفرةً لا نهائية، نظل نسقط فيها ونحن في مكاننا، كانت وجوههم تأتي أحيانًا مثل ضربات ريشة غويا، وأحيانًا ترينهم كظلال بألوانهم، وأحيانًا يمر غراب يداري سوءة أخيه ولا يكف عن البكاء.
ثم أخفيتِ رأسكِ بين يديكِ ونظرتِ، وكان الجامع العمري قد تحوّل إلى إحدى لوحات غويا فعلًا، كان المشهد كله تلك اللوحة، وأنتِ يا غريبة تعرفين أنكِ في ذلك اليوم كنتِ في يوم الأربعاء الدامي، لا منطق للكوابيس. يوم 23 آذار (مارس) 2011، تنظرين في المشهد وفي لوحة غويا؟ ولكن هذه المرة كنتِ أنتِ الرجل في اللوحة، ترينها، وترين نفسك! إنها مرآتك! إنها لوحتك المفضلة، (نوم العقل) ولكنك في اللوحة لا تقرئين الجملة بالإسبانية، تقرئينها بالعربية، لغتكِ الأم: "إذا نام العقل استيقظت الوحوش". وكنتِ تضعين رأسكِ وتخفينه، تمامًا مثلما فعل الرجل داخل اللوحة. أنتِ تلك التي تلتهمها الوحوش، طيور متوحشة، غربان أم بوم؟ وأنتِ تحاولين حماية وجهكِ، ثم تركضين وتلحق بكِ الوحوش، فجأة يحل صمت، يعقبه ريح. وكأنها تهب عليكِ آتيةً من نهر الحكايات، تلك الحكايات التي تطفو بين الجثث، قدرتكِ الهائلة على الوقوع في اليأس كانت تتحدى الموت، ذلك الموت الذي ينهمر فوقك كما ينهمر المطر في المدينة على أفق لا يبدو أنكِ ستقبضين عليه يوما والحزن يهاجمكِ بأقصى سرعة بدون تفسير. جميل هو الحزن الذي يمكن نسيانه، بل جميل هو الحزن الذي لا يُمحى؛ تقولين لغريبتك الثانية، تلك التي لا يعرفها أحد.
توقّف القصف واختفت أسماك القرش، نظرتِ حولكِ، كان البشر ممدّدين، وبعض الصغار يهربون. من أين خرجوا جميعًا؟ لا تعرفين. اعتقدتِ أنكِ صرتِ بأمان، ووقفتِ. لوهلة نظرتِ إلى المئذنة، كانت ما تزال واقفة حين لمحتِ سمكة قرش كبيرة تدور حولها وتضربها بزعانفها، وعدتِ وارتميتِ أرضًا. ولن تسعفكِ حيلتكِ هذه المرة، لأن الوجوه من حولكِ بدأت تتراكض، وركضتِ، وركضتِ. كانت هناك ثانية فقط، وأنتِ تحدّقين في المئذنة عندما انفجرت قذيفة، وبقيتِ واقفة ولم تتزحزحي، واعتقدتِ أنكِ نجوتِ، عندما تناثرت حجارة وزجاج وأسلاك حديد طائرة. لمحتِ السيل الجارف القادم نحوكِ، لم تدركي ما يحدث، ولم تمهلكِ السماء التي صارت صافية واختفت أسماك القرش، لم تفهمي ما هذه الشّلّالات من الضوء المتجهة إليكِ، نثرات مضيئة كانت تتلألأ مثل رسم ذهبي مشع لنقاط متحركة، وكلها تتجه نحوكِ، وصرختِ، وفتحتِ فمكِ، وهناك في تلك الثانية دخل حطام الزجاج إلى فمكِ، كنتِ تصرخين ودخل شلال الزجاج، أنتِ في عقلكِ تعرفين أنه حطام المئذنة، لكن لِمَ كانت المئذنة زجاجية؟ الحطام كان يتجه إليكِ، وبدل أن يصيبكِ تجمع كشلال مياه، دخلت حبيبات الزجاج الصغيرة إلى حنجرتكِ، حاولتِ أن تصرخي، أن تبصقي، لكنها كانت تندفع بقوة، وكانت تقطع حنجرتكِ من الداخل، ولا أحد يسمعكِ، وحاولتِ الحركة، لكن قدميكِ كانتا منغرستان في الأرض، وابتلعتِها، ابتلعتِ الزجاج، شلال الضوء المنتشر فيها دُفن في أعماقكِ، ولم تستطيعي حتى الحركة، وكنتِ تغمضين عينيكِ وأنتِ تشعرين بجوفكِ يتمزق ويتمزق ويتمزق...
ثم استيقظتِ.
شهقة، يد ترتعش فوق الغطاء، هواء بارد من نافذتكِ المفتوحة على صباح بونتواز. الضباب هناك، يزحف مثل دخانٍ انطباعي خفيف ينتشر فوق الأشجار. بونتواز، حيث الغابة، حيث نهر الواز، حيث غموض انتشار النور منح الفن مدرسة، حيث مكتبتكِ الصغيرة التي يعاد تكوينها كلما هربتِ. أنتِ هنا، لستِ هناك.
لكنّكِ تعرفين، يا غريبة، أن الزجاج لا يزال هناك، يمزق ما تبقّى منكِ بصمتٍ لزج، كأن الألم صار هو نَفَسُكِ الجديد.
تعرفين أن النجاة محض صدفة، وأن من يخرج من الكابوس لا يخرج سليمًا، بل بأطراف ناقصة، بروحٍ نُزعت منها البراءة كقماشٍ بلّله المطر ولم يعد يجف.
الغريبة تقول للغريبة: ليس لنا أن نعود، ولا أن نواصل، ولكنّنا نكتب، لأن الكتابة شكلٌ من البكاء دون صوت، شكلٌ من دفن الذاكرة في كلمات لا أحد يقرؤها سوى الغيم.
لا تنسي تعويذة النسيان: ارمي أحشائك المقطعة قرب الشلال واستديري برجلك اليمين، ولكن حذار أن تكسري بقايا أغصان الشجر اليابسة الرفيعة وأنت تطئين أديم الأرض!
(بونتواز. فرنسا، 2021)