}

الحلوة عزيزة

منى يسري 23 مايو 2025
قص الحلوة عزيزة
سوق خان الخليلي في القاهرة (Getty)

كل الأموات يشبهون بعضهم كما المواليد، لا فرق بين ذكر وأنثى، تتلاشى الحدود في النهاية. الفارق الوحيد أن المواليد يأتون بصرخة مدوية يعلنون عن قدومهم، صرخة الوجود الأولى، أما الأموات فيرحلون في صمت تكسوه ابتسامة هادئة، كأنهم غير آسفين على شيء تركوه، لا شيء يعكر صفو تلك اللحظة بالنسبة لهم.
هكذا كانت تفكر بينما تتأمل وجه أمّها الهادئ، وتصفف شعيراتها الرمادية الناعمة، أو بالأحرى ما تبقى منها، وهو منسدل فوق خشبة الغسل؛ أصرّت على أن تسكب ما تبقّى من آخر زجاجة عطر، أحضرتها لأمّها كما كانت تفعل دومًا، حين تذهب إلى السوق القديمة في خان الخليلي، خليط من زيت اللافندر يمزج مع القليل من زيت القرنفل، ينتجان معًا عطرًا قويًّا، لا شيء يشبهها.
هذه رائحة أمّها، عهدتها منذ زواجها من أبيها قبل 50 عامًا، أصرت على أن تسكب ما تبقّى منها، لم ترد أن تذهب أمّها قبل أن تستنفد عطرها لآخر قطرة منه، رغم رفض المُغسلة، معترضة بأنّ هذا على خلاف السنّة، لكنّها أصرّت حتّى لو اضطرت أن تطرد المغسلة وتكمل هي ما تبقى من غسل والدتها، حتّى لو اضطرت أن تحمل أمها وحيدة إلى القبر، ستفعل، لكن لن تدع أمها ترحل عن بيتها بلا عودة، بعطر الموتى، لن تشمّ من فستان أمها الأبيض غير عطرها المعتاد، ستملأ به باحة المنزل، قبل أن تخرج الأم خروجها الأخير.
كانت الحرارة في ذلك اليوم قد بلغت ذروتها في مطلع تموز/ يوليو، 43 درجة مئوية، هكذا يخبرها هاتفها، حمدت الله أن أمّها نائمة في تلك اللحظة، قبل أن تصب لعناتها على الحر الذي لم تعرفه في زمنها، لن تفلت من لسانها دعوة على من اقتلعوا أشجار شارعهم الواسع وتركوه كـ"الست القرعة"، كما كانت تصفه بعد تصفيته من أي مظهر للون الأخضر.
قررت أن تزرع فوق قبر أمها الكثير من الزهور البنفسجية التي كانت تزرعها في حديقة شرفتها الصغيرة، وترش فوقهم من عطر أمها المفضل "الحلوة عزيزة"، هكذا كان يسميه صاحب المتجر الذي كان يصنع لها العطر مخصوصًا لاسمها، ستعود كل فترة لشراء الحلوة عزيزة، وترشه فوق بنفسجيات أمها الزاهرة فوق القبر، لن تحرم أمّها من تلك التفاصيل، حتّى لو أراد الموت ذلك، ستقف بينهما.
امتدت يدها فجأة من أسفل الغطاء لتمسح بالماء جسد أمّها، لتجد ثدييها فارغين تمامًا، حتّى شعرت بتجاويف العظام، كانت عاجزة عن البكاء، لم تجد دمعًا في تلك اللحظة تذرفه، كان كل شيء يبدو باهتًا، تتصرف ببرود تام، كما المغسلة، تقتسم عملها، وتقلب أمها على جانبيها لتنظيف منطقة الظهر، لتلقي نظرة أخيرة على هذا الجسد الذي جاءت منه، وتتلمس هذا الثدي الذي لم يعد مكانه بعد أن تغذّت منه هي وأختها، ليأتي السرطان ملتهمًا إياه حتّى النخاع حرفيًّا، لم يبق منه ولا من أمّها شيئًا، كما فعل في أختها آمال، وخالتها زهرة، وجدتها قبل سنوات.
وقفت الأم هناك، تنتظر موت ابنتها البكر، تشهده كما شهدت موت أختها الصغرى، ثم أمّها التي قتلها نفس السرطان كمدًا على موت أصغر بناتها، كل هؤلاء اختطفهن المرض اللعين، أو المرض الوحش كما كانت تقول أمّها التي أسمته كما أسمته جدتها. أمّا هي فتقف الآن لتشهد موت أمّها وحيدة، بعد رحيل الأب فجأة بسكتة قلبية، ربما قتله كمدًا على فقد ابنته أيضًا، الناس يتكيّفون على كل شيء، إلّا موت أبنائهم وهم شهود عليه.
تذكرت ذلك اليوم، في طريقها إلى المنزل تحلق عاليًا، بعد نتيجة الثانوية العامة، 94%، ستضع ساقًا فوق أخرى وتختار ما شاءت من الكليّات، في طريقها إلى البيت، كانت تتخيل فرحة أمّها بخبر النتيجة، حين وصلت إلى البيت، وجدت أّمّها برفقة آمال، صامتين "كأنّ على رؤوسهم الطير"، تنساب دموعهما في استسلام تام، انضمت إليهما تشاركهما صمتًا فضوليًّا، ليأتيها الخبر، ويبدد كل أثر لفرحة في نفسها.




آمال مصابة بالسرطان، سرطان الثدي بالطبع، كانت دموعهما، تعبيرًا عن مصير آمال المحتوم، ستسلك ذات الطريق الذي سارت فيه جدتها وخالتها، سيقتلها الكيماوي بالبطء كما قتلهما سابقًا، سبقتها زهرة إلى القبر قبل ست سنوات فقط، لن يكون الطب قد أنجز الكثير لينقذها هذه المرّة، حتّى لو أنجز، فلن يكنّ مشمولات بهذا الإنجاز، من هم ليشفوا من السرطان، نساء من طبقة وسطى على شفا الانهيار، في دولة عالم ثالث، لا أحد من هذا العالم يكترث لوجودهن، حتّى يكترث لمرضهنّ، لن يكترث العالم لرحيل آمال ولا زهرة ولا غيرهما، ولا حتّى نساء البلد بأكمله، ولا حتّى رجاله، نحن نستبدل بسهولة.
كان ذلك اليوم مفترق طرق في حياة الأسرة، التي لن تعود أبدًا كما كانت، آمال التي تزوّجت قبل 8 سنوات، قبل أن ترحل زهرة، لم تثمر زيجتها أبناءً بعد. لن يمر الكثير على ذلك اليوم المشؤوم، عامين وثلاثة أشهر بالتمام والكمال، عادت في موعدها من الجامعة، لتجد آمال أغمضت عينيها للأبد، كانت كل العلامات التي سبقت ذلك اليوم، تجعله قريبًا، ماتت آمال، ذهبت هي الأخرى بلا رجعة، دخلت غرفتها لتلقي نظرة وداع بعدما فرغت المُغسلّة من عملها.
كانت آمال في تلك اللحظة تشبه زهرة، وتشبه جدتها كذلك، رغم فارق العمر بين ثلاثتهنّ، الموت يوحد ملامحهن، وابتسامة الحرية تجعل منهنّ طاقات نور لا تقوى على احتمالها، كانت دموع نساء العائلة المنسالة على محياهنّ حسرة على زهرة شبابها التي قطفها السرطان، لكن دموعها تحجرّت، وظلت ابتسامة آمال تطاردها، وذلك الوهج الذي علا محياها كما زهرة والجدّة قد أرق نومها، لكن سيرة المرض الوحش قد علقت برأسها، إذا كانت ضربة في الرأس توجع، فلا بد أنّ ثلاث ضربات يصبن على الأقل بارتجاج في المخ!
لا تعرف متّى بدأ تحديدًا هذا الهوس بالوقاية من السرطان، الذي اجتاح حياتها، هل بدأ بموت زهرة أم بموت آمال، كانت تحاول أن تحدد عمرها الافتراضي كم سيكون، زهرة ماتت في التاسعة والثلاثين، وآمال رحلت في عمر المسيح، هل ستعيش حتّى عمر بينهما؟، ليس المهم أن تعيش بقدر ما يهم ألّا تتألم وتتحلل ببطء كما حدث لهنّ.
إرشادات تملأ الإنترنت، ونصائح كثيرة للوقاية، ممارسة الرياضة اليومية، أكل صحي، الابتعاد عن اللحوم الحمراء، منتجات الألبان، الصيام المتقطّع فعال كما يقال، لن تقدم يومًا على الأكل خارج البيت، ربما حب زهرة للحوم الحمراء هو ما أصابها بالسرطان؟ أم شهيّة آمال للألبان وكسلها عن ممارسة أي رياضة؟، المهم أنّها ستفعل أي شيء حتّى لا تقع في الفخ، لن تدعه يمحوها كما محاهن واحدة تلو الأخرى.
بعد رحيل آمال لن يعود شيء كما كان، لن ترى حتّى ابتسامة تعلو وجه أمّها، صحيح أنّ الحزن قد خيم على حياتهم لفترات بعد رحيل زهرة والجدّة، لكن موت آمال جعل الحزن سكن حتّى الجدران، تحوّلت أمّها لشبح إنسان، عقلها هناك في مكان ما، آمال، أول فرحتها، انطفأت قبل الأوان.
كانت تحاول بجهد استعادة الحياة من جديد في البيت، ما زالت طالبة جامعية، تريد طرد شبح الموت المخيّم على حياتهم، رغم شبح الخوف الساكن أعماقها، يأكلها ببطء، كانت تحاول إقناع أمها بممارسة الرياضة، وتناول الأسماك بدلًا من اللحم، تستدرجها لهذا الدين الجديد، ليستطيعا النجاة من مصير أحبائهم، كانت الأم تحاول مجاراتها، مدركة أنّ ما تفعله محاولة لإسكات خوفها، رغم عدم اكتراثها بكل هذه الترهات، ما الفائدة منها، وما غرض الحياة من الأساس أن تعيش وقطعة منك في القبر، هو الأشد وطأة من الموت، بعد ذلك لن يحدث شيء.
لم تقترفا ذنبًا ليستحقّا السرطان، هما فقط لم تجدا علاجًا صحيحًا ولا جيدًا؛ هكذا قالت الأم تحاول تهدئة رعب ابنتها البالغ ذروته، بينما وجدت الابنة نفسها تصرخ "الكيماوي اللي قتلهم مش المرض، يمكن لو مكناش وافقنا على كل الجلسات دي، كانوا ماتوا من غير ألم، كانوا ماتوا وهما في وعيهم"، كانت تصرخ محاولة إثارة انتباه أمها ولو قليلًا، كانت على يقين بأنّها ليست معها، قلبها هناك؛ معلق في جبانة المماليك، ذلك المكان المقبض الذي دُفنّ فيه معًا.
استفاقت من شلال الذكريات على جرس الباب، الحانوتي جاء لأخذ الجثمان، مرّت ساعة ونصف الساعة منذ حضرت المُغسلة، أحضر المغسل صندوق الموتى، أصرت على وضع قطع إسفنجية فيه قبل أن يضعوا أّمّها، صرخت في وجه الحانوتي: "ملكش دعوة إنت، ضهرها هيوجعها، الخشب ناشف عليها"، تدخلت المغسلة للفصل بينهما، ليدعها تفعل ما تشاء لأمها، أصرت على وضعها بنفسها في الصندوق، بمساعدة المُغسلّة وصديقة أمّها الراحلة، مسحت على جسدها، ورشت رشة أخيرة على رقبة أمّها من عطر "الحلوة عزيزة"، وغطت وجهها، لأنه بعد ذلك لن يحدث شيء.

*كاتبة مصرية.

مقالات اخرى للكاتب

قص
23 مايو 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.