}

عاشق الروايات البحرية

حسونة المصباحي 9 مايو 2025
قص عاشق الروايات البحرية
(حاتم المكي)
بعد رحلات شيّقة إلى بلدان ومدن من جميع أنحاء العالم، وصلت إلى تلك القرية المكسيكية البيضاء الواقعة على الساحل الباسيفيكي. نزلت من الحافلة التي تعجّ بمهاجرين مكسيكيين عائدين من كاليفورنيا، وتحديدًا من لوس أنجليس وسان دييغو، وجارًّا حقيبتي سرت باتجاه وسط القرية. طقس دافئ، وشمس مشرقة في سماء تغطيها هنا وهناك قطع من السحب البيضاء. في الميناء الصغير صيادون مُنشغلون بتهيئة شباكهم استعدادًا للإبحار. أمام البيوت شيوخ يُدخّنون صامتين ناظرين إلى المحيط الذي قد يكون التهم سنوات طويلة من عمرهم. ساحة القرية محاطة بأشجار وارفة الظلال. حولها محلات تجارية صغيرة يتوسّطها مطعم من الطراز المعماري الإسباني القديم يحمل اسم "نوسترومو"، نفس اسم بطل رواية لجوزيف كونراد كنت قد قرأتها في سنوات شبابي، أيام كنت مُغرمًا بذلك الكاتب البولوني الذي اختار لغة شكسبير، وبها كتب جلّ رواياته المستوحاة من مغامرات عشاق البحار. المطعم فارغ إلا من رجل أشقر نحيف بلحية خفيفة. على الطاولة التي أمامه كتب وأوراق وجهاز كمبيوتر. وربما لأنه كان منشغلًا بعمله فإنه لم يبد ما يمكن أن يشي بوجودي. حين نهض للذهاب إلى بيت الراحة، بدا أطول مما كنت أتوقّع. وكان شبيهًا بأنطوني بركينس في فيلم "بسيكوز" لهيتشكوك... وسط المطعم، شجرة عيد الميلاد الذي سيُحتفى به في نهاية الأسبوع. بعد حوالي عشر دقائق من الانتظار، برزت أمامي سيدة سمراء جميلة، ترتدي فستانًا أسود، ولها ملامح غجرية متوحشة. باسمة رحبت بي. ومُجيبة على أسئلتي قالت بأن المطعم هو في نفس الوقت فندق. سعدت بذلك لأنني لم أكن أرغب في جرّ حقيبتي الثقيلة مرة أخرى بحثًا عن مقام...

- كم من يوم ستقيم؟ سألتني تلك السيدة.
- لا أدري... أجبتها...

الغرفة الواقعة في الطابق الأول فسيحة ونظيفة بشرفة تطلّ على البحر. على الجانب الأيسر من الفراش طاولة صغيرة عليها أباجور وشمعة كبيرة زرقاء ونسختان من الإنجيل، واحدة باللغة الإسبانية والأخرى باللغة الإنكليزية. بعد أن رتّبت ثيابي في الخزانة الخشبية الزرقاء، ووضعت كتبي وجهاز الكمبيوتر على الطاولة الكبيرة، نزلت إلى المطعم. الرجل النحيف لا يزال مُنكبًّا على عمله. أكلت سمكًا مشويًا مع سَلطة، ثم صعدت إلى الغرفة لأغرق في النوم حتى نهاية الظهيرة...
في الساعة الثامنة ليلًا نزلت إلى المطعم. الرجل النحيف الطويل لم يكن هناك. أربعة زبائن، رجلان وامرأتان، أظن أنهم سيّاح أميركيون، كانوا يستعدون للخروج بعد أن دفعوا فاتورة الأكل والشراب. كنت جائعًا. طلبت ضلع خروف في الفرن، مع خضار، ونصف زجاجة نبيذ أحمر. بعد أن انتهيت من الأكل، جلست أمامي تلك السيدة، وباسمة قالت:

- اسمي ماري لوباز... وأنا من مكسيكو- سيتي... لكني أعيش في هذه القرية منذ عشر سنوات، أي منذ أن فتح هذا المطعم أبوابه...
- وهل أنت صاحبة هذا المطعم؟
- لا... صاحب المطعم هو المستر رونالد ماكسويل... وهو من اسكتلندا...
- وأين هو؟
- مصاب بزكام... لكنه تعافى اليوم وغدًا صباحًا سيكون هنا... أما أنا فسأسافر إلى مكسيكو-سيتي لزيارة أهلي ولن أعود إلاّ في أول السنة الجديدة...

سهرنا حتى منتصف الليل... قالت لي بأنها انقطعت عن الدراسة الجامعية في قسم علم الاجتماع لمساعدة عائلتها الفقيرة على تحمّل أعباء الحياة. على مدى خمس سنوات، عملت في مطاعم وحانات ونوادٍ ليلية. والمستر رونالد ماكسويل الذي تعرفت عليه في حفل عيد ميلاد صديقة لها تدرس الأدب الإنكليزي في أكسفورد، هو الذي جاء بها إلى هذه القرية الهادئة لينقذها من جحيم مكسيكو- سيتي التي تعيش على وقع الجريمة المنظمة ليلًا نهارًا. سألتها عن الرجل النحيف فأخبرتني أنه بريطاني من لندن... جاء إلى تلك القرية الهادئة لينهي كتابًا عن سيرة كاتب غريب الأطوار يُدعى مالكوم لاوري...
- هل تعرفه؟
- نعم.
- وهل قرأت روايته الشهيرة "تحت البركان"؟
- نعم.
- وما رأيك؟
- رواية رائعة... بل قد تكون من أروع الروايات في القرن العشرين....
- هذا رأي السيد رونالد أيضًا... وهو قارئ جيد لم أعرف له مثيلًا... أما أنا فلم أقرأها لكني شاهدت الفيلم المستوحى منها... وقد أعجبني كثيرًا... وفي النهاية عندما قتل القنصل مثل كلب سائب، بكيتُ بحرقة كما لو أنني فقدت قريبًا عزيزًا عليّ...

عادت بي الذاكرة إلى سنوات بعيدة... باريس تستعد للاحتفال بعيد الميلاد... الشوارع والساحات والأشجار مغطاة بالثلوج... اقتنيت "تحت البركان" من مكتبة صغيرة في "الحي اللاتيني"، وعدت إلى الفندق الذي بلا نجوم، الواقع بالقرب من ساحة "الباستيل"، والذي تديره عجوز مُدمنة على قراءة الروايات البوليسية، الأميركية منها بالخصوص، ولها حنين جارف إلى الزمن الملكي قبل الثورة. معي جبن وفواكه وزجاجة "بوردو أحمر". اندسست في الفراش، وغرقتُ في القراءة... وها أني أنسى باريس والبرد والثلوج وعجوز الفندق الثرثارة لأعيش عوالم غريبة وعجيبة تنتهي بهذه الفقرة المرعبة: "فجأة أطلق صرخة عالية شبيهة بالعواء. وصرخته بدت وكأنها ترتدّ من شجرة إلى أخرى في رجْع الصدى. عندئذ رأى أنهم يتقدمون منه شيئًا فشيئًا ويُجمّعون رؤوسهم التي انحنت عليه بشفقة. أحدهم ألقى خلفه بجثة كلب في الوهد"... هذه العوالم العجيبة الغريبة الشبيهة بنزول جنوني إلى أعماق الجحيم، ابتكرها خيال عبقريّ جامح شهدت حياة صاحبه تقلبات واضطرابات ومغامرات وأسفارًا في البر والبحر. وفي السابع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 1957، عثر عليه ميّتًا في البيت الذي استقرّ فيه برفقة زوجته مارغري في منطقة "سوسكس" البريطانية. وكان آنذاك في السابعة والأربعين من عمره. قبل رحيله بأشهر قليلة، أخذت له صورة وهو جالس على ضفاف بحيرة، وفيها يبدو مُتعبًا، منطفئ النظرات، مُعتلّ الصحة بشكل مثير للشفقة. ولعله رحل عن الدنيا من دون أن يعلم أن روايته "تحت البركان" سوف تحقق له شهرة عالمية لم يكن يسعى إليها أبدًا. في طفولته، مُستمعًا إلى قصص والده الذي تجول كثيرًا في الأميركيتين، وفي منطقة الشرق الأوسط، عشق مالكوم لاوري السفر مبكرًا، وبه ظل شغوفًا حتى النهاية... حالما أنهى دراسته الثانوية، ركب الباخرة ليعيش على مدى سنة كاملة مغامرات لا تقلّ إثارة عن مغامرات أبطال جوزيف كونراد الذي سيظل حتى النهاية أحد كتّابه المفضلين. عند عودته من تلك الرحلة التي أخذته إلى بور سعيد، وإلى هونغ كونغ وشانغهاي ومانيلا، تدخّل والده لدى أساتذة مرموقين ليمكنه من الانتساب إلى جامعة "كامبريدج". وفي فترة الدراسة الجامعية، عثر مالكوم لاوري على رواية بعنوان "الرحلة الزرقاء" لكاتب أميركي يدعى كونراد أيْكن. بطلها كاتب درامي يقوم برحلة بحرية من نيويورك إلى إنكلترا بحثًا عن حبيبته التي هاجرت إلى لندن. وبسخرية هو يصف ما يحدث على ظهر الباخرة من أحاديث ونقاشات تافهة غالب الأحيان. كما أنه يقع في حب بعض النساء الجميلات اللاتي كنّ معه على ظهر الباخرة. بعد أن قرأ هذه الرواية، كتب مالكوم لاوري إلى صاحبها يقول: "أعلم أنك شخص مهم في أميركا، وأن حولك حشدًا كبيرًا من الناس. لكن بالنسبة لي أنا، مُنعزلًا داخل دائرة عائلية مملة، لا أحد من أفرادها يعرف عنك شيئًا، أمضي أوقاتي الفكرية السامية في وحدة مُطلقة، ويبدو الأمر كما لو أنني اكتشفتك من قبل، وأحب أن أحتفظ بهذه الفكرة في ذهني الساذج، مانحًا لنفسي عددًا من أكاليل الغار مكافأة لي على هذه الحقيقة". وفي ما بعد، ستحرّضُه رواية "الرحلة الزرقاء" التي ذكرته بمغامرات رحلته البحرية الأولى على الشروع في كتابة "تحت البركان"...

في نفس الفترة الجامعية، سافر مالكوم لاوري إلى بون لتعلم اللغة الألمانية، مُظهرًا في الآن نفسه اهتمامًا كبيرًا بموجة السينما التعبيرية. ومرة أخرى استهواه البحر، فركب الباخرة ليصل إلى مدينة بوسطن في يوم مولده العشرين. وفي هذه المدينة، التقى بكونراد أيْكن... معه خاض نقاشات طويلة حول فنّ الكتابة، والأدب بصفة عامة. أمّا الكاتب الآخر الذي اهتم به في نفس هذه الفترة فهو نورداهل غريغ صاحب رواية "العبور المتواصل" التي تدور أحداثها في عرض البحر أيضًا. بطلها شاب يافع ينطلق ليعيش المغامرة بعيدًا عن الأجواء العائلية الخانقة. وفي أحد الموانئ، يدخل محلًا للبغاء لتفتضّ بكارته. وعندما يكتشف أنه مصاب بالسفلس، يختار الانتحار. ولعل إعجابه بهذه الرواية، هو الذي دفع مالكوم لاوري لزيارة النرويج أثناء رحلة العودة من بوسطن ليلتقي بكاتبها... ويقول أصدقاؤه أنه كان إثر تخرجه من الجامعة وهو في الرابعة والعشرين من عمره، حالمًا ومثاليًا مثل "هوغ"، إحدى الشخصيات الرئيسية في "تحت البركان". ومثله كان مُدمنًا على الكحول. وكان مُستغرقًا في قراءة "أوليسيس" لجيمس جويس لما تعرف خلال رحلة إلى مدينة غرناطة على جان غابريال التي ستكون زوجته الأولى. وكانت هذه الفتاة الأميركية الجميلة في الثانية والعشرين من عمرها آنذاك. وهي تنحدر من أصول ألمانية- بريطانية من ناحية الأم، وهولندية من ناحية الأب. غير أن الزواج سرعان ما شهد اضطرابات وخصومات عنيفة تذكر بفيلم "من يخاف فرجينيا وولف"... من إسبانيا، انتقل مالكوم لاوري برفقة زوجته إلى باريس. بعد إقامة سمحت له بالتعرف على الأجواء الأدبية والفنية فيها، انتقل إلى نيويورك مُعيدًا قراءة "موبي ديك" لملفيل لتثير إعجابه مرة أخرى. كما قرأ قصص إدغار ألن بو، ومثله ازداد إدمانًا على الكحول، وأصبح يُشاهد يوميًا وهو يكاد يكون فاقدًا للوعي. ثم لم يلبث الزوجان أن تركا نيويورك ليقوما برحلة طويلة عبر الولايات المتحدة الأميركية زارا خلالها مدنًا كثيرة مثل شيكاغو، وسان فرانسيسكو، ولوس أنجليس. ومن هذه المدينة، انطلقا إلى مدينة "أكابيلكو" المكسيكية التي ستصبح في ما بعد مسرحًا لأحداث "تحت البركان". في ما بعد كتب مالكوم لاوري يقول: "فعلًا أرى من جديد وصولي لأول مرة إلى المكسيك، ثم إلى كابيلكو. كان ذلك عام 1936 في يوم "عيد الأموات". فراشات جاءت لاستقبال الباخرة. ثم حملنا المركب إلى اليابسة إذ أنه كان من الصعب على الباخرة أن تُرسي. ما أن لامست قدماي الأرض حتى بادرت بشرب كأسي الأولى".
بعد عودة زوجته جان إلى الولايات المتحدة، وجد مالكوم لاوري نفسه في السجن مُتّهمًا بالتجسس غير أن صديقًا قديمًا قدّم الإثباتات اللازمة لإسقاط التهمة المذكورة. عند خروجه من السجن، انكبّ مالكوم لاوري على تأليف "تحت البركان" التي تدور أحداثها في المكسيك. بطلها قنصل بريطاني يدعى غيوفراي، مدمن على الكحول. ومنذ البداية نُعاين أن هذا القنصل يمضي إلى نهايته المأساوية بسرعة جنونية...
في السنوات الأخيرة من حياته، استقر مالكوم لاوري برفقة زوجته الثانية مارغري بوتر في مدينة فانكوفر الكندية. وكانت الإقامة في بيت خشبيّ تهزه العواصف الهوجاء في الليل كما في النهار مُهددة بتدميره. مع ذلك كان مالكوم لاوري يشعر بنوع من الارتياح والسعادة. ولعله تخيّل نفسه شبيهًا بروبنسون كروزو الذي نجح في أن يضمن لنفسه البقاء على قيد الحياة وسط طبيعة قاسية ومتوحشة. وكان يُعجبه أن يختلط بالبحّارة، وبأصحاب المهن اليدويّة الذين يساعدونه على إصلاح ما تفسده العواصف العاتية. بعد صدور "تحت البركان"، عاد مالكوم إلى أوروبا برفقة زوجته. ورغم النجاح الكبير الذي حققته الرواية، فإنه لم يبد أي اهتمام بذلك. ما كان يعنيه هو الشراب من الصباح حتى الليل. وكان يُشاهد في باريس، وفي المدن الأخرى وهو يكاد يكون عاجزًا عن الوقوف على قدميه...

*****

صباح اليوم التالي، التقيت بالمستر رونالد ماكسويل الذي كان في حوالي الخمسين من عمره بقامة فارعة تُذكّر بمحاربي الفايكينغ القدماء، وشعر أشقر غزير، وعينين واسعتين غامقتي الزرقة، ووجه عريض مُشرق بالصحة والعافية وحب الحياة، وشارب على شكل فراشة. وكان يرتدي قميصًا أبيض بمربعات زرقاء وبنطلون جينز أزرق، وينتعل حذاءً رياضيًا أبيض... رحب بي بحرارة، ودعاني إلى تناول الفطور على مائدته... نقانق مشوية، وبيض مقلي، وسمك السلمون، وجبن فرنسي، وفواكه، وزجاجة شمبانيا "على شرف عشاق السفر في البر والبحر"... لم يكن الرجل الطويل النحيف موجودًا... سألته عنه فقال لي: "آ... توماس... اليوم فضّل البقاء في غرفته لأن ثلاثين سائحًا أميركيًا سوف يتناولون طعام الغداء هنا في المطعم... وهو يخشى أن يمنعه صخبهم من العمل... والحقيقة أني أنتظر بفارغ الصبر قراءة كتابه عن سيرة مالكوم لاوري... وأظن أنه سيكون كتابًا جيدًا لأن توماس حرص قبل الشروع في العمل على زيارة كل المدن التي أقام فيها، أو مرّ بها... كما أنه استجوب عددًا كبيرًا من الذين عرفوه عن بعد أو عن كثب... بالإضافة إلى كل هذا، جمع وقرأ وراجع وثائق كثيرة تتعلق بسيرة مالكوم لاوري وأعماله"... بعد لحظات من الصمت، أضاف المستر رونالد قائلًا: "لا أخفي عليك أني شغوف بقراءة كتب السيرة خصوصًا... وما كتبه ستيفان زفايغ مثلًا عن رحلات ماجلان كان رائعًا... وأما الكتابان اللذان خصصهما لسيرة ماري أنطوانيت وجوزيف فوشيه فقد كشفا لي الوجه الدموي القبيح للثورة الفرنسية... والمجازر الفظيعة التي ارتكبها جوزيف فوشيه وكلّ قادة الثورة خصوصًا في "سنوات الإرهاب" تدلّ على أن هؤلاء كانوا مُجردين من كل حسّ إنساني بحيث لا خلاف بينهم وبين عتاة المجرمين والقتلة... لذلك أنا أعتبر الثورة الفرنسية من أسوأ الثورات التي عرفها التاريخ البشري... وهي التي مهّدت لكل الثورات الدموية التي حدثت في القرن العشرين والتي كانت فاشلة كلها بحسب ظني... أتدري لماذا؟ لأن أيّ ثورة كما يقول جوزيف كونراد تُقصي أفضل الشخصيات لتقعَ في أيدي المتعصبين ضيقي الأفق... وبذلك تصبح وسيلة للانتقام والعنف في أشنع مظاهره… أما الشخصيات النبيلة والذكية المخلصة للمبادئ الإنسانية فتكون من ضحاياها"...
التهم المستر رونالد قطعة من سمك السلمون، ثم ضرب كأسه بكأسي وواصل حديثه قائلًا: "السيرة الأخرى التي أعجبتني كثيرًا هي تلك التي خصصها ريتشارد إيلمان لجيمس جويس... قرأتها في دبلن دفعة واحدة، ثم خرجت لأطوف في العديد من الأماكن والحانات والنوادي والمطاعم التي كان يرتادها جيمس جويس الذي ليس كاتبي المفضل، لكنه ظاهرة أدبية كبيرة... وقد أعجبت بمجموعته القصصية، وبروايته "صورة الفنان في شبابه"... أما "أوليسيس" فقد قرأت منها بعض الفصول، ثم تركتها غير آسف لأني لا أحب التعقيد والغموض باسم الحداثة والتجديد"...
في الساعة الحادية عشرة، تركت المستر رونالد يُرتّبُ المطعم استعدادًا لاستقبال السياح الأميركيين، وخرجت لأقوم بجولة طويلة على الشاطئ... وأنا أقترب من الميناء الصغير، مررت بحانة قذرة تعجّ بسكارى يتبادلون الطرائف ويضحكون عاليًا. أمام باب الحانة كهل جالس على الأرض يهذي بكلام غامض بعد أن أثقلت "التيكيلا" لسانه فما عاد قادرًا لا على الكلام ولا على الحركة... ابتعدت عن الميناء، وسرت على الشاطئ الفارغ النظيف... الطقس دافئ، والبحر هادئ، وطيور النورس الجنوبي تحلق سعيدة بذلك اليوم البديع... قفز إلى ذهني ما كتبه شاتوبريان عن الطيور البحرية. فمنها مثلًا من تكون عالمة بكلّ ما يطرأ على البحر من حوادث مثل المدّ والجزر، والهدوء والعاصفة. ومنها من تُحذّرُ الصيادين من ارتفاع الأمواج، ومنها من ترافق البحّارة في رحلاتهم في عمق البحر مُتابعة مسار سفنهم لتنبئهم بالعواصف القادمة. لذلك يُضْفون عليها شيئًا من القداسة. جلست على صخرة ورحت أتأمّل المحيط وهو يلمع ببريق فضيّ تحت الشمس الساطعة... غمرتني السعادة شاعرًا أني في مأمن من المخاطر التي أصبحت تهدد الطبيعة والإنسان، مُشوّهة جمال الكون، ومُفسدة الحياة على وجه الأرض... تذكرت قصيدة عن البحر لبورخيس يقول في مطلعها: "قبل أن ينسج الحلمُ أو الرعبُ الكثير من الأساطير ونشأة الكون/ وقبل أن يُموّل الزمنُ أيامه/ كان البحر هنا موجودًا وحاضرًا/ لكن ما هو البحر؟/ هو بالتأكيد وجود عنيف وقديم يقضمُ أعمدة الأرض/ التي هي بحر واحد أو بحار عدة/ هل هو الهاوية أم الضوء؟/ الصدفة أم الشمأل؟"...
عائدًا إلى الفندق، قفز إلى ذهني الكاتب المكسيكي خوان رولفو... مُتنقّلًا بين المدن الأندلسية، قرأت روايته اليتيمة "بيدرو باراما"، وقصصه... لا وجود للبحر لا في الرواية ولا في القصص، بل سهول جرداء مُلتهبة، وهضاب وجبال صلعاء، وأشجار يابسة، وأعشاب ونباتات محترقة، ومزارعون فقراء يواجهون القحط والجوع والظلم والموت، وأموات ينهضون من قبورهم، وأحياء يعيشون كأنهم أموات... وكنت في قرطبة لما قرأت في صحيفة إسبانية أن ندوة كبيرة دُعي إليها كبار كتّاب أميركا اللاتينية مُنعقدة في مدريد. ركبت القطار آملًا أن ألتقي بخوان رولفو... وصلت في اللحظة التي اختُتمت فيها الندوة. أمام القصر القديم الذي احتضنها، وقف الكتّاب المدعوون لأخذ صورة تذكارية مع فيليبو غونزاليس، رئيس الحكومة الإسبانية آنذاك... لم يكن خوان رولفو بينهم... بحثت عنه... وفي لحظة ما رأيت رجلًا قصيرًا ببدلة رمادية، وقميص أبيض، وربطة عنق زرقاء يقف حزينًا في أعلى المدارج، مُستندًا إلى الحائط... اقتربت منه... إنه خوان رولفو من دون شك... كان يرجف، وجبينه مغطى بحبات عرق... صافحته وقلت له بأني معجب شديد الإعجاب بكل ما كتب... بصوت خافت ردّ عليّ قائلًا: "وضعي الصحي لا يسمح لي لا بالحديث عن نفسي ولا عن الأدب ولا عن أيّ شيء آخر"... بعد لحظات جاء أحدهم وقاده إلى السيارة السوداء وهو يرجف مرتبك الخطوات...

*****

في الليل، بعد أن فرغ المطعم، سهرت مع المستر رونالد حتى الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي... وكما لو أني صديقه الوفي القديم، استعرض بطريقة شيّقة وساحرة تفاصيل مثيرة عن حياته الماضية...
جده من الأب كان مغامرًا كبيرًا بشخصية قوية وجذابة... شابًا فقيرًا غادر مسقط رأسه مدينة غلاسكو، وعاد إليها بعد ربع قرن بثروة هائلة جمعها من البلدان الآسيوية، خصوصًا الهند التي أقام فيها 15 عامًا. في القصر القديم الذي يُذكّر بقصور القرون الوسطى، والذي اقتناه ليكون مقرًا لعائلته، خصّص الجد قاعة فسيحة لمكتبة تحتوي على آلاف الكتب في مختلف أنواع المعرفة. فعل ذلك وفاءً لكاتبيه المفضلين، روديارد كيبلينغ وإدوارد مورغان فوستر، صاحب الرواية الشهيرة "الطريق إلى الهند". وهو فتح عينيه على الدنيا بعد مرور عشرة أعوام على وفاة جده... سنوات طفولته تبدو له الآن مضيئة، مُفعمة بالسعادة. وكم كانت بديعة تلك السهرات قرب الموقد في ليالي الشتاء الباردة. خلالها تُستعرض حكايات عن مغامرات الجد في البلدان البعيدة، ويقرأ والده قصائد للورد بايرون وكيتس وكولريدج، أو فقرات من كتاب صدر للتو. قبل النوم، تروي الأم لابنها الصغير قصصًا خارقة أبطالها طيور وحيوانات. في النهار، تكون أسعد أوقات الطفل تلك التي يكون فيها جالسًا في الصالون المزينة جدرانه بصور الجد، وبلوحات بديعة، بينما والدته مُستغرقة في القراءة. في الصيف، تنتقل العائلة إلى البيت الجميل الذي اقتناه الجد على شاطئ "لارجس" على المحيط، وفيه تقضي أسبوعين أو ثلاثة... عندما تعود العائلة إلى القصر القديم، يحبّ الطفل رونالد أن يتوحّد بنفسه خصوصًا عند أفول النهار ليعيش حلم السفر في البحر مكتشفًا تلك البلدان البعيدة التي شهدت مغامرات جدّه. في ما بعد، عندما قرأ "البحث عن الزمن المفقود" شعر أنه عاش طفولة سعيدة شبيهة بطفولة مارسيل بروست...

عشق الطفل للقراءة بدأ بحكايات أندرسون في طبعة أنيقة، هديّة من والدته عند بلوغه سنّ السابعة. مرات عديدة أعاد قراءة تلك الحكايات خصوصًا قصة "بائعة أعواد الكبريت"، و"ملكة الثلج"، و"فرخ البط القبيح"، و"الحورية الصغيرة"، و"عقلة الإصبع"... في عيد ميلاده التاسع، أهداه والده "حكايات روسية للأطفال" لليون تولستوي... في هذه الحكايات تحضر الأشجار والطيور والحيوانات كشخصيات رئيسية... تلك القصص كانت تفصله عن العالم الحقيقي فيكون طائر الكركي، ومالك الحزين وشجرة تنّوب، ويكون طبقة من الجليد على أغصان الأشجار العارية، ويكون الذئب يعوي في الظلمات، ويكون القمر مضيئًا كوخ الفقير في ليل الشتاء... وهو يتذكر أن القصة التي لم يكن يتعب من إعادة قراءتها هي قصة "ديك الخلنج" الذي فكر في بناء بيت يحميه من برد الشتاء وعواصفه لكنه تراجع في النهاية عن ذلك مفضّلًا أن يتمرغ وينام في الثلج، وأن يحطّ على غصن لكي يُشاهد الحقول البيضاء تحت سماء مُلبدة بالغيوم. كما قرأ أيضًا قصصًا كثيرة عن "الفايكينغ"، وعن الإسكيمو حيث الأرض عارية فلا غابات فيها ولا ذهب. ورغم عرائها الموحش فإنها تبدو جميلة وجذابة... وكانت تفتنه أساطير الشعوب خصوصًا أسطورة "أماتيروزو أوماكامي" آلهة الشمس عند قدماء اليابانيين. غاضبة من سلوك أحد والديها، اختفت هذه الآلهة في مغارة مُظلمة، رافضة الخروج إلى النور. وظلت على تلك الحال إلى أن وضعت آلهة أخرى تدعى "أوزومي" مرآة لجلب نور الشمس، ثم أدّت رقصة خليعة أمام المغارة وهي عارية تمامًا. ولما سمعت "أماتيروزو" ضحك الآلهة من الذكور والإناث أمام ذلك المشهد الخليع، خرجت لتستطلع الأمر. عندئذ عاد النور إلى العالم...
في سن الثانية عشرة، اكتشف مارك توين وقرأ "مغامرات توم سوير"، ثم "مغامرات هكلبيري فين" الذي يهرب من قيود العائلة المتحضرة، ومن والده السكير ليكتشف معنى الحرية ومتعة الحياة على نهر "المسيسبي" مع صديقه جيم العبد الأسود الفارّ هو أيضًا من عائلة أذاقته أشنع أشكال الظلم والذل. في هذه الفترة حفظ عن ظهر قلب العديد من القصائد مثل هذه: "أنا الريح التي تهبّ على البحر/ أنا موجة البحر/ أنا الإنسان المتوحش على الشاطئ الصخري". ومثل هذه أيضًا: "اليوم أرتبط بقوة السماء/ بنور الشمس/ ببياض الثلج/ ببأس النار/ بلمعان البرق/بسرعة الريح/ بعمق البحر/ بثبات الأرض/ بصلابة الصخر".
غير أن التحول الكبير في حياته وفي قراءاته حدث مع "ألف ليلة وليلة" الكتاب الذي اقتناه جدّه في طبعات مختلفة، والذي كان يُعيد قراءته مرة كل سنة بحسب والده. استغرقت قراءة الأربعة مجلدات من هذا الكتاب أشهرًا طويلة... في مساء يوم صيفيّ رائق، جلس في شرفة البيت المطل على شاطئ "لارجس"، متأمّلًا البحر الهادئ الذي انعكست عليه ألوان الغروب فبات شبيهًا ببساط سحريّ، وراح يَستعيد أجمل حكايات "ألف ليلة وليلة"... في لحظة ما، اقتربت منه والدته وسألته:
- الآن وقد انتهيت من قراءة "ألف ليلة وليلة"، ماذا تريد أن تكون؟"...
باسمًا سألها هو:
- وأنت ماذا أردت أن تكوني بعد أن قرأت هذا الكتاب الرائع؟
باسمة أيضًا، أجابته قائلة:
-شهرزاد بطبيعة الحال...
- أما أنا فأريد أن أكون السندباد البحري ومثله أتوق إلى خوض مغامرات عجيبة وغريبة...

نعم كان يريد أن يكون السندباد البحري، ومثله يجد نفسه مُهدّدًا بالغرق بعد أن تحركت السمكة الضخمة التي حسبها المسافرون معه جزيرة فنزلوا من المركب للاستراحة على أرضها. ومثله ينجو من أولئك القوم الذين يذبحون كلّ غريب يعثرون عليه في بلادهم، ثم يشوونه ويقدّمونه طبقًا شهيًا لملكهم، ومن القردة الذين يفتكون بالمسافرين الذين ترسو مراكبهم في جزيرتهم. ومثله يشدّ جسده بحبل إلى طائر هائل الحجم فينقله من جزيرة إلى أخرى... لكن حالما يسلمُ من الموت أو من خطر جسيم، يُمتحنُ بمحنة أشد وأشنع من سابقاتها... مع ذلك يواصل أسفاره وبه شعور أنه يصنع مصيره بنفسه لكي يكون لحياته معنى وغاية، وأنه لا متعة أفضل من السفر في البحار... ولا يختلف السندباد عن أوديسيوس في "أوديسة" هوميروس... بعد غياب طويل، عائدًا إلى وطنه حيث تنتظره زوجته "بينلوبي" التي تحتال كل يوم للتخلص من المتدافعين كل يوم لطلب يدها، هو يعيش محنًا، ويُواجه أهوالًا ومخاطر كثيرة لكنه ينجو من الموت في كل مرة... حين يعود إلى وطنه، لا يتعرف عليه سوى الكلب...
عشقه لحكايات السندباد وللـ"أوديسة" فتحا شهيته لقراءة الروايات التي لها علاقة مباشرة بالبحر... البداية كانت مع "جزيرة الكنز" لروبرت لويس ستفنسون، ثم مع "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو، و"حول العالم في ثمانين يومًا" لجول فيرن، وعشرات من الروايات التي تروي مغامرات بحرية خارقة... في سنوات الجامعة، ساهمت رواية "ذئب البحار" لجاك لندن، و"موبي ديك" لهرمان ملفيل، و"الشيخ والبحر" لهمنغواي في نضجه الفكري والفلسفي. ففي الأولى، انجذب إلى هامفري وايدن، الناقد الأدبي المثالي الذي علمته التجارب المريرة التي ابتلي بها خلال رحلته في المحيط "كيف يمشي على قدميه". وكانت تلك الرحلة شاقة وعسيرة إذ أن قائد السفينة، وولف لارسن، رجل عنيف ودموي يستهويه إذلال الآخرين، وترهيبهم بمختلف الطرق والوسائل، مستندًا في كل ما يفعل إلى مادية شرسة وعدوانية تدوس على كل القيم الإنسانية النبيلة... في الثانية، ازداد إدراكًا وقناعة بأن العمل الأدبي الرفيع هو أولًا وأخيرًا ثمرة تجارب صاحبه... ومنذ البداية ينبهنا ملفيل على لسان الراوي إسماعيل إلى أن الأسفار البحرية هي التي تساعدنا على أن نرى بوضوح الصورة الحقيقية للعالم. كما أنها تخلصنا من الاكتئاب ومن الجمود اللذين نُبتلى بهما على اليابسة... وقبل أن يكتب "موبي ديك"، قام ملفيل برحلات بحرية كثيرة عمّقت نظرته للحياة وللبشر، وسمحت له بالنفاذ إلى أسرار البحار والمحيطات التي تبدو على السطح مجرد امتداد أزرق كما لو أنه بلا نهاية. فوقه تحلق طيور بيضاء تجسد البراءة الملائكية. لكن في أعماقه الحيتان الكبيرة وأسماك القرش التي تمثل العنف والشر والجريمة. وتنعكس معرفة ملفيل بالبحار والمحيطات في اللغة ذاتها. فهي لغة تشبه الأمواج في تدافعها الجارف، وفي ارتفاعها وهبوطها أثناء المد والجزر... لغة تختطف القارئ وتغرقه وتأخذه إلى تلك الأعماق المخيفة والمرعبة... منذ بداية الرحلة، أدار القبطان آهاب ظهره لليابسة ولم يعد يهتم بما يحدث فيها، مُسددًا نظره نحو البحر، مُستغرقًا في التفكير فلا يتكلم، ولا يأبه بأيّ أحد ممن حوله لأن ما يعنيه هو القضاء على ذلك الحوت الأبيض الذي قطع ساقه خلال رحلة بحرية سابقة. ورغم أن مطاردة الحوت الأبيض الضارية استغرقت وقتًا طويلًا فإن القبطان المسكون برغبة الانتقام المحمومة، لم يشعر بأيّ كلل أو ملل بل كان يزداد إصرارًا وقوة في كل مرة ينجو فيها الحوت الأبيض من المطاردة...
في النهاية استخلص هو أن الحوت الأبيض لم يكن يرمز فقط للشر والعنف، بل كان يرمز أيضًا للحظ العاثر الذي لازم ملفيل من البداية إلى النهاية. فقد عاش التشرد والخصاصة في طفولته وفي شبابه، وأجبر على القيام بأعمال مهينة ليكون في مأمن من الجوع، وكابد تجارب مريرة أثناء رحلاته البحرية الكثيرة، وخلالها أشرف على الموت أكثر من مرة. وفي النهاية غادر الحياة الدنيا دون أن يحظى بالاعتراف والتقدير اللذين تستحقهما موهبته الأدبية العالية. أما روايته "موبي ديك" فلم تكتشف عظمتها إلا بعد مرور عقود طويلة على وفاته...
وبالنسبة له تُحيلُ "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي إلى "سفر الجامعة". فالعجوز سانتياغو الذي كان يعود بزورقه الفارغ على مدى 84 يومًا، والذي يتمكن في النهاية من صيد سمكة كبيرة غير أن سمك القرش يهاجمه فلا يتبقى من تلك السمكة سوى هيكلها، هو رمز للإنسان الذي لا يجني في النهاية من كدّه ومن عمله ومن بطولاته في مواجهة مصاعب الحياة، ووحشيّة الطبيعة سوى الخسران والخيبة المرة، ولا يستفيد أبدًا من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس...
في سنوات الجامعة، اكتشف جوزيف كونراد... بمتعة وشغف قرأ رواياته التي تتّسع فيها البحار والمحيطات اتساعًا هائلًا فلكأن العالم من ماء فقط... وقوة الكلمة المكتوبة في هذه الروايات جعلته "يشعر، ويسمع، ويرى"... وخلافًا لكتّاب آخرين من زمنه، لم يختر كونراد فضاءً محددًا ومرسومًا بدقة مثلما فعل مارسيل بروست وجيمس جويس وتوماس هاردي، بل جعل من محيطات العالم وبحاره وجزره وأنهاره مسرحًا لأحداث رواياته... وفي سنوات طفولته ومراهقته، لم تكن لكونراد أية صلة بالبحر إلاّ من خلال بعض الروايات البحرية التي شغف بقراءتها مبكرًا... لكن في سن السابعة عشرة، ترك وطنه ليفتح صفحة جديدة في حياته في مدينة مرسيليا الفرنسية التي وصفها البعض بأنها "فم مفتوح على المحيط"... فيها اختلط منذ البداية بالبحارة "الخشنين والطيبين" كما وصفهم، وتحت رعايتهم، بدأت معرفته بعالم البحر، وبأسراره... على مدى عشرين عامًا حملته السفن الفرنسية ثم البريطانية بعد أن غادر مرسيليا، إلى آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وإلى الجزر في المحيط الهادي، وفي المحيط الأطلسي ليتعرف على أحوال العالم في نهايات القرن التاسع عشر، أي في الزمن الذي بسطت فيه القوى الإمبريالية الأوروبية هيمنتها على أفريقيا وآسيا... خلال هذه الفترة، اهتم كونراد بمراقبة طبائع وأفعال من رافقوه في تلك الرحلات، أو من تعرّف عليهم، أو سمع قصصهم الغريبة في الموانئ أو في البلدان التي مرّ بها، مركزًا اهتمامه على القيمة المثالية للأمور والأحداث والناس. وعندما شرع في الكتابة، كانت جلّ قصصه ورواياته مثل "شباب"، و"لورد جيم"، و"نوسترومو" و"قلب الظلام"، و"إعصار"، و"الزنجي ونارسيسوس" وغيرها مستوحاة من تجاربه ومن رحلاته البحرية... والبحر في روايات كونراد رمز للهروب من اليابسة الخاملة والجامدة للظفر بالحرية في معناها الحقيقي، واستكشاف أغوار الذات... وهو أيضًا نداء لخوض المغامرة لفكّ ألغاز المجهول... والبحر مؤتمن أسرار الشخصيات في روايات كونراد، إليه تبوح بأفكارها وأحلامها وكوابيسها وهواجسها ومخاوفها ورغباتها. ولم يقتصر كونراد في رواياته على سرد ما عاشه من مغامرات ومن أحداث مأساوية، بل دان المظالم الاستعمارية، وجشع الرأسماليين البيض، وعنصريتهم، وأنانيتهم، فاضحًا الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها لجمع المزيد من الثروات... وهذا ما فعله في "قلب الظلام"، وفي "نوسترومو"... وبذلك كان أول روائي أوروبي يتصدى بالكلمة الحرة لمظالم القوى الاستعمارية ومخططاتها الإجرامية...

*****

بعد تخرّجه من كلية الحقوق، عمل مساعدًا لمحامٍ مشهور في غلاسكو لمدة أربع سنوات... وتلك السنوات كانت الأسوأ في حياته... سنوات موسومة بالرتابة والضجر والخمول والانتظار القاتل للخروج من النفق... مساء يوم أحد، ذهب إلى المقبرة التي تقع على هضبة صغيرة لزيارة قبر والده الذي توفي قبل ثلاثة أشهر... وضع باقة الزهور على القبر ثم جلس عليه ليلقي نظرة على المدينة فبدت له في ضوء الخريف الشاحب سوداء موحشة كما لو أنها امتداد للمقبرة. ولما رنّت نواقيس الكنائس كان رنينها شبيهًا بنواح الفقدان، أو بنداء الاستغاثة. صعقه المشهد فعاد إلى البيت مترنّحًا من هوْل ما رأى وما سمع. بعد أيام قليلة، استقال من عمله... ولأن نصيبه من الإرث يجعله في مأمن من كل المتاعب والمنغّصات المادية، فإنه قرر أن يحقق الحلم الذي لازمه منذ الطفولة: السفر. وهكذا غادر غلاسكو ليشرع في القيام برحلات بحرية أخذته إلى جميع أنحاء العالم، مُقتفيًا آثار الرحّالة والمُكتشفين الكبار مثل كريستوفر كولومبس، وماجلان، وفاسكو دا غاما، وأبطال كلّ الروايات البحرية التي لا ينقطع أبدًا عن إعادة قراءتها... عند بلوغه سن الأربعين، قرر الإقامة الدائمة في هذه القرية المكسيكية بعيدًا عن صخب المدن الكبيرة وجنونها الاستهلاكي والتكنولوجي، وعن أوروبا التي شاخت وهرمت فما عادت قادرة على حماية نفسها من الأزمات والكوارث التي تهدّدها... وفي اختياره هذا، هو اقتدى بأنطونان أرتو الذي فرّ من نوبات الاكتئاب التي كان يُكابدها، ومن عُصاب الحضارة وأمراضها واستلابها ليعيش بين هنود "تاراهومارا" في المكسيك حيث الحياة لا تزال بدائية مثلما كانت حالها في الأزمنة القديمة، وحيث الناس لا يتكلمون إلاّ عن ما هو أساسي وجوهري في حياتهم وسط الطبيعة المتوحشة...

*****

الليل صامت كأنه غارق في نوم عميق... وجه المستر رونالد جمرة ملتهبة... على جبينه تلمع حبات عرق، وعيناه الزرقاوان تُشعّان ببريق عزيمة وحماس المغامرين الكبار... ملأ صدره بالهواء البحريّ المتدفق من النافذة ثم شبك ذراعيه خلف رأسه وقال: "في سنوات شبابي، قرأت رواية بعنوان: "نهر الأراضي العليا" للكاتب الاسكتلندي نايل غون... بطلها رجل يخوض مغامرة بحثًا عن منبع نهر معتقدًا أن العثور عليه سوف يساعده على إيجاد معنى لحياته... وأظن أن الروايات والأسفار البحرية أتاحت لي فرصة التحرر من الكثير من القيود، ونزعت عني الطموح في أن أكون ذاك "الإنسان الحديث" الذي أصابته الحضارة بأمراض خطيرة فبات يعيش الحيرة والسؤال بحثًا عن خلاص يفلت منه دائمًا مثل السراب... الإنسان البدائي الذي سحقته الحضارة الغربية باسم العلم والتقدم، وشوهت ثقافته، وهويته هو مثالي الأعلى في هذا العالم الذي يزداد قسوة وجنونًا وعنفًا يومًا بعد يوم... لذلك أحب أن أنام أحيانًا على رمل الشاطئ تحت نجوم الليل، وأن أتيه وحيدًا في البرية مرددًا مثل رامبو: "أمضي، قبضتاي في جيوبي، ومعطفي يصبح مثاليًا أيضًا"، وأن أستمع إلى حكايات المهددين بالانقراض في زمن العولمة المتوحشة التي أفسدت كل شيء: الناس، والهواء، والحياة"...
الساعة تشيرُ إلى الثالثة صباحًا... نهض السيد رونالد... بإشارة من يده اليمنى حيّاني ثم مضى لينام... أما أنا فغادرت الفندق لأستقبل الفجر على شاطئ البحر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.