نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلًا
وماذا نفعل إذا لم نستطع إليها سبيلًا؟! نكرهُ الموت... نكره الموتَ ونعانده حتى نستطيع إليها سبيلًا. وبين الموت والحياة مسافات واسعة وفضاءات شاسعة. وهل الموت ضدّ الحياة والحياة ضدّ الموت؟ هل نحن متّفقون على معنى الموت والحياة حتى نتّفق على العلاقة الضدّيّة بينهما؟ لماذا لا يكون عكس الحياة "لا حياة" وعكس الموت "لا موت" مثلما تقول العامّة من الناس الذين لم يسمعوا بالبنيويّين في مدارج حياتهم كلّها؟ وهل اللاموت هو حياة، وهل اللاحياة هي موت؟ هل الناس في غزّة، أو ما بقي منهم، أحياء مثلنا بالضبط؟ هل هناك شروط قبليّة صارمة لتعريف الحياة والموت بهذا الحسم وهذا الحزم وهذا الجزم؟ وهل لهما أشراط نعرفها بالتوافق؟ هل القدرة على التنفّس وحدها تفرق بين الموت والحياة؟
حبّ الحياة مرحلة متأخّرة تسبقه حالة "لا حياة". إذا سألت أحدًا من عامّة الناس "كيف حالك؟" وكان على شفا حفرة من اليأس المطبق أجابك "أنا ميّت في الحياة". و"ميّت في الحياة" هو تعبير تداوليّ دقيق عن حالة "لا موت" و"لا حياة". أو هو قد يجيبك أيضًا: "عايش من قلّة الموت". كراهة الموت شرط الحياة، شرطها القبليّ. لا بدّ لأهل غزّة أن يكرهوا الموت بنزف الجرح كي يستطيعوا إلى الحياة سبيلا. وإن استطاعوا إليها سبيلًا أحبّوها. وإن أحبّوها عشقوها لذاتها وليس لأنها من قلّة الموت.
نحن نحيا لأننا نفتح الجرح للنزف الجديد
بجرحها المفتوح تكره الموتَ غزّة. ما أعنفها من مفارقة حمراء. قال حنّا أبو حنّا في قصيدة "وجود": "نحن نحيا لأننا لم نزل نشكو. فيا لوعة اكتشاف الوجود. نتساقى الشكوى، نُسرّي، ولكن نفتح الجرح للنزيف الجديد". أنا أشكو إذًا أنا حيّ. لا تحيا غزّة بدبّاباتٍ لا تملكها أصلًا ولا طائراتٍ لا تعرف كيف تطيّرها ولا مدافعَ لا تعلم كيف تشغّلها. تحيا بقدرتين اثنتين تجعلهما اللغة من معاني الانتصار ودفع الموت: القدرة على تحقيق الغايات والقدرة على تحييد العقبات. انتصرت على الموت غزّة ببقاء أهلها في أرضهم وثباتهم فيها، فوقها أو تحتها، رغم كلّ محاولات الترهيب والترغيب. ودفعت عن نفسها الموتَ غزّة بقوّة أهلها على التوجّع والتفجّع. وهذه حقيقة. والقدرة تُفضي إلى قدرة فانتصرت غزّة على نتنياهو وزمرته الفاشيّة العنصريّة وحيّدت سياساته القمعيّة وعطّلت نواياه الشيطانيّة. انتصرت على الفعل وفاعله. وهذه ليست شعارات. انتصرت على الموت الزؤام في الحقيقة وانتصارها في الحقيقة هو ما ينصرُها في المجاز. ينصرها بوصفها حالة استعاريّة تعني القناعة المبدئيّة بضرورة مقاومة الموت كشرط قبليّ للحياة... وما أبعدني عن تعليب الشعارات الجاهزة!
وهي على لحم بطنها انتصرت غزّة على الجوع. وسوف تنتصر على الجوع بالجوع والدموع، بالدم المهدور والبيت المهجور والأرض المحروقة. انتصرت غزّة على الموت بطحن ما بقي من عدس عتيق ينخر فيه السوس. ببقايا معكرونة عفنة دفعت عن نفسها الموت غزّة. ببقايا معكرونة "مخضرنة"، لا تكاد تسدّ الرمق، أجّلت الموت. انتصرت غزّة على الخراب واليباب. لم تنتصر بحبّ الحياة. الحبّ حملُهُ ثقيلٌ له شروطه. وهو متروك لمن يحيا، متروكٌ لمن ينعم بنعم الحياة. أمّا من كان عزرائيل جاره بابًا على بابٍ فلا يقدر إلا على كراهة الموت. ولا يعرف الفرق بين كراهة الموت وحبّ الحياة إلا أهل غزّة.
المفعول به هو من يورّط الفاعل بفعلته ويُشهدها عليه وإن استتر. من باب المفارقات النازفة أن تبرهن غزّة على وجودها بأشراط المحو وعلامات الموت نفسها الحاضرة في كلّ شبر من رمالها. وكلّ شبر بنذر. نذرت على نفسها غزّة وكتبت أن تنتصر على نوايا شطبها بآثار الشطب نفسها والدمار الحاصل في كلّ شِعب من شعابها. هذه الأشراط والعلامات والآثار نفسها دفقت كلّها إلى الضمير العالميّ فاستقرّت هناك فكانت أصل انتصار الإنسانيّة لها. وبقدر ما كانت تقتحم الوعي الإنسانيّ غزّة كان نتنياهو وزمرته ينكمش ويتضاءل ويشمر حتى صارت مكانته في الوعي الإنسانيّ أصغر من حبّة خردل. انتصرت غزّة عليه وعلى زمرته بقدرتها على فتح الجرح للنزيف الجديد.
انتصرت على الموت غزّة وسوف تنتصر ولو جعلها نتنياهو تعجن رملها وتخبزه. من أيّ عمق يطلع هذا الوعد والتسويف؟ ستنتصر هي ومثيلاتها لأنها سنّة الخالق في الخلق وحكمة التجربة في الأرض وحتميّة التاريخ الممتدّ. ستنتصر على الموت غزّة لأنها انتصرت في كرّات سابقة وأثبتت قدرتها على الانتصار. هي نفسها. والعرب في لغتهم الجميلة يستدلّون على المستقبل بالماضي وبه يستبشرون ويتفاءلون. يدعو العرب بعضهم لبعضهم بالخير بفعلٍ ماضٍ لأنه أثبتُ من غيره. وهو أثبتُ لأنه يبرهن على فكرة حدوثه وقدرته على التحقّق. قالت العرب: "وفّقك الله وسدّد خطاك"، يدعون بفعلٍ ماضٍ وهم يقصدون ما سيكون. أحبّ العرب كان الديمومة. والله تعالى تحدّث بها عن نفسه وقال: "وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا". والتعبير عن ديمومة الفعل والصفة يبدأ من الماضي. وما ثبت في الماضي فقد قدّم برهانه على احتمال حدوثه مستقبلًا... ولا ينعكس.
على هذه الأرض "مَن" يستحقّ الحياة
على هذه الأرض "مَن" يستحقّ الحياةْ... ويكره لأجل عينيها المواتْ! عفوك يا محمود درويش، "مَن" أعقلُ من "ما"، أعقل وأولى. على هذه الأرض "مَن" يستحقّ الحياة، بقوّة الحقّ يستحقّها، لا منّة ولا فضلًا من أحد ولا ارتهانًا بشيء ولا حتى بسيّدة الأرض نفسها! حبّنا للحياة غير منقوص أو مرهون أو مشروط بشيء. حبّنا للحياة فطرة الإنسان. لا يجوز لوطن أن يرتقي فوق أرواحنا. لا يحقّ لوطن أن يأكل أهله. لا يحقّ لفصيل أن يرفع مقام الوطن فوق مقام أهله. علاقة الإنسان بأرضه تراتبيّة بالضرورة. لا تصير الأرض وطنًا، يسكن فيه ويسكن إليه، إلا بقراره هو وتجاربه فيها. لا تتحدّد علاقة شعب بوطنه بقرارٍ ورقيّ من الأمم المتّحدة. هي سيّدة الأرض لأنّنا نحيا فيها ولا نعرف غيرها ولا نريد. هي سيّدة الأرض بقرارنا نحن ومشيئتنا نحن. قداسة "سيّدة الأرض" مِن قداسة مَن خلقه ربّه في أحسن تقويم... ولا ينعكس.
ومن هي سيّدة الأرض؟ غزّة سيّدة الأرض وليست قطعة أرض. غزّة أيقونة. سمت وارتقت من وضعيّة جغرافيّة إلى الوعي الكليّ العربيّ والعالميّ. غزة ليست جغرافيا أو طوبوغرافيا. هي أكبر من ذلك وأعظم. غزّة هي أهلها. غزّة تُحيل بالاستدلال الاستقرائيّ إلى الشعب الفلسطينيّ كلّه في الحلّ والمرتحل. وهي ولا تعني فئة أو حزبًا أو فصيلًا أو تنظيمًا. غزّة ليست من المماليك حتى تكون لفئة أو حزب أو فصيل أو تنظيم. في اللغة يُحيلون إلى الناس بالجغرافيا. فحين تقول "انتصرت غزّة" فأنت تقصد أهلها وناسها كلّهم. ما يعني أنّ الجغرافيا هي استعارة مكنيّة. هي مجاز الناس والأهل، بهم تُشبّه غزّة. وفي البلاغة العربيّة العلاقة بين المشبّه والمشبّه به تراتبيّة تفاضليّة، الثاني أقوى من الأول، عليه تُقاس الأمور. وهي كذلك في كلّ لغات العالم إلا في اللغة السياسيّة الإسرائيليّة فليس لها إلا مرادف واحد. غزّة هي حماس، وحماس هي غزّة. اختزال غزّة في حماس هو فعل سياسيّ عنصريّ خبيث بات عليه نتنياهو وزمرته زمنًا طويلًا.
تذييل
أول مستخلصات هذه الحرب النازفة ودروسها الحمراء هي إعادة ترسيم السلطة الفلسطينيّة وهيكلتها في تنظيم سياسيّ تعدّديّ واحد موحّد لا يستثني فصيلًا ولا تنظيمًا ولا حركة. لن يسمح الشعبُ الفلسطينيّ لأحدٍ أن يصادر مشيئته أو يحتكر معنى الوطن ليجعله فوق أهله. وسيحاسب هذا الشعب كلّ فصائله وتنظيماته حسابًا غيرَ راحم لا يقبل بعده إلا وحدةً تعدّديّة لا تنقصم ولا تنقسم. لن يسمح لحماس أو فتح، أو أيّ حركة أو تنظيم أو فصيل آخر، أن ينفرد بقرارات السلم والحرب لا باسم الفلسطينيّ ولا باسم فلسطين، لا باسم الشعب ولا باسم الوطن. كلّ غِرّ في السياسة يعلم أنّ إسرائيل هي التي سعت إلى تقطيع الجسد الفلسطينيّ الواحد وبتر العضو عن العضو، سعت وما فتئت. هي التي شجّعت وأتاحت وأباحت وعمّقت وكرّست بالمال هذا التشرذم الذي جرّبناه على جلودنا ودفق قلوبنا ونبض أرواحنا ولمّا نزلْ.
افتحي جرحك يا غزّة لمزيد من نزفٍ جديد يطهّره من قيحٍ أو صديد... وعيشي واحييْ يا غزّة!
ما أقلّ حيائي بهذا الطلب!
* ناقد وأستاذ جامعي فلسطيني.