الوشم الأمازيغي على معصمها، لم يكن مجرد نقش، كان ومضة. برقًا قصيرًا خاطفًا أضاء ظلمة في داخله.
لم يكن يعرف اسمها بعد. لا يدري إن كانت ستلتفت نحوه، وإن كان للوشم أن يفصح عمّا أخفاه.
أمين، الثلاثيني الوسيم الذي تتهافت عليه بنات الحي وبنات الأعمام والأخوال. لكنه رصين، لا يشبه شباب اليوم إذ تثيرهم استدارات الإناث. علاقاته العاطفية لا يعرف أحد عنها شيئًا. دَرَسَ بتفانٍ حتى صار طبيبًا بيطريًا. لا ينجذب لكل من عبرت أمامه، وللأحاديث الرخيصة. ربما يبحث عن جمالٍ دفين، بوابته غير مكشوفة للعامة.
واقفان ينتظران دورهما داخل مؤسسة بنكية. فستانٌ يغطي ركبتيها، أبيض كريمي، وسوارٌ فضيٌّ رقيق يداعب وشمها. أحرفٌ على جلدٍ ناعمٍ جعلت لسانه ينطق:
- معذرة، هل لي أن أعرف معنى الكلمة على معصمك؟
ابتسمت ابتسامةً خفيفة، وقالت:
- تودّا... اسمٌ أمازيغي يعني المحبة.
رد بابتسامة، وكان على وشك أن يقول شيئًا لولا تدخل مدير البنك مرحبًا به بحرارة، ومعتذرًا لأنه فطن للتوّ بوجوده.
دخل أمين مكتب المدير. خرج فلم يجد الفتاة. غادرت من دون أن يخبرها أنه أحبّ المحبة على معصمها. غادر هو الآخر، وفي صدره ارتعاشةٌ من اسمها، وشيءٌ يشبه وعدًا لم يُقطَع بعد.
ألن يلتقيا مجددًا؟
ألن يعبث بهما القدر كما يعبث الخريف بأوراق الشجر؟ تمنى أن تنسى بطاقتها وتعود بعد دقيقة، أن يصطدما عند زاوية الشارع، أن تسقط أوراقه ويمدّ يده فيجد معصمها من جديد...
ثم يسمح الزمن بشيءٍ من العذابات المستحبّة، أو بالكثير... لا يهم. الآن صار الكلّ يعرف أن طريق الحب محفوفةٌ بالشوكولاتة والشوك.
تذوب روحك في قِدرٍ كبير من الكاكاو وزبدته، ثم تتجمّد كمدًا وحزنًا كلّما كان ذوبانك لذيذًا...
سيناريوهاتٌ عديدة كتبها خيال أمين، لعلّ إحداها تتحقق. قصصٌ نُسِجَت أمام مدخل البنك... المكان حيث يتألّق المال، ليلهث وراءه كلّ البشر، مؤجّلين دفء المشاعر، متلحّفين بثوب الميكافيلية.
لكن أمين سكنه طيف الفتاة الغائبة. وقف مطولًا، ثم رفع حاجبيه ومشى. ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. فليكن ما يتمناه "المصمِّم" إذن.
رنّ الهاتف مقاطعًا مشيه. توقّف ليرى هوية المتصل. إنها كاتبة طبيب الأسنان، تذكره باقتراب موعده.
ظلّ متسمّرًا ينظر إلى الشاشة، فسرقت انتباهه موسيقى صادرة عن فناني الشارع.
لم يُجِب على الاتصال، أعاد الهاتف إلى جيب الجاكيت، ثم غيّر مساره، وكأنّ للموسيقى خيوطًا، بل حبالًا متينة تجرّه.
القطعة التي سحبته، تسحب كل الضائعين، حتى أولئك الذين لا يفهمون معاني كلماتها، يحبّونها "هوتيل كاليفورنيا" في قلب الرباط، ربطت على قلبه الأغنية. ظنّ أنها ستشغله عن التفكير في الفتاة.
جلس على المقعد الخشبي، وأخذ يهزّ برأسه هزًا خفيفًا كمن ينتشي برائحة الكوليتاس، صوت الأجراس، الشمبانيا الوردية، المرايا، والتيه الروحي الذي ترمز إليه القطعة الخالدة.
وكلما ردد المغني "such a lovely face":
تقف تودّا أمامه مبتسمةً بوجهها الجميل.
قلبه كان فندقًا لفتاتين اثنتين:
الأولى تزوّجت، والثانية كذلك...
أما الثالثة، فقد تبخّرت...
لكن يبدو أنها ستطيل الإقامة.
لم يعلم أمين، وهو يغادر الساحة التي صدحت فيها "هوتيل كاليفورنيا"، أن بعض الوشوم لا تُرسم بالحبر، بل بالقدر. مضى بخطى هادئة، وفي روحه لا تزال تهتزّ بقايا نغمة. وفي قلبه ظلّ اسمٍ لا يُمحى... تودّا.
ربما يراها ثانية، وربما سيهديها إياه العمر عند منعرج الصدف. إلا أنه، منذ ذاك اليوم، صار يمشي كمن ينتظر تصادفًا جديدًا. مدركًا أن الحب لا يطرق الأبواب العالية، بل ينساب مثل موسيقى قيثارة، أو يحفر نقشًا على معصم الزمن.
بينما كان يستعدّ لعبور الشارع إلى الضفة المقابلة، يدٌ خفيفةٌ استقرّت على كتفه. استدار بدهشة، فرأى عينيها. كانت هي...
توقّف قلبه للحظة، أو كاد. قبل أن تهمس بصوتٍ خافت:
- لا نلتقي مرتين عبثًا... أما الثالثة، فسأعدّها علامة.
ثم مرّت بجانبه بخطواتٍ هادئة، واختفت في الزحام. ظلّ واقفًا مكانه، محدّقًا، لا يدري هل يتبع أثرها، أم يكتفي بهذا القدر من اللقاء. آمِلًا أن تجيء قريبًا كقَدَرٍ لا يخيب.
* كاتبة من المغرب.