هي ذي دار الكتب الوطنية في اللاذقية عام 1961، والتي ستصبح المركز الثقافي. وهذا ازدحام في البهو يعترض سبيلي إلى المكتبة في الطابق الثاني، وهذا إعلان عن الكاتبة الشابة غادة السمان التي ستقرأ من قصصها، فأندس في الزحام.
عمّا قليل سيترجّع النداء في صدري ممتعًا وموجعًا ومنقوعًا بوعود غامضة: يا رب! القصص ليست للقراءة في المكتبة أو في السرير فقط. القصص أيضًا لتقرأها صبية فاتنة: شفتاها اللتان تنبضان، عيناها المتقدتان، صوتها المندّى بالغواية، وهذه الأصابع التي لا تقلب الصفحات فقط، بل تكتبها، كتبتها، ستكتبها.
على الرغم من العمر الطويل والأسفار التي ما أكثر ما قرّبت بيني وبين غادة السمان، إلا أننا لم نلتق لأبوح لها بهذا الذي أكنّه عنها منذ 65 سنة. مرة واحدة وصلتني منها سطور مرفقة بعدد من أسبوعية "المحرر" التي كانت ممنوعة في سورية، وكان في العدد حوار أجراه معي هادي دانيال في تونس. أحسست يومئذٍ أن غادة قريبة مني جدًا، وعمّا قليل سنلتقي. هل سنلتقي؟
بعد أكثر من 20 سنة سأكون قد أقمت في اللاذقية بعد فراق طويل. وسأتردد على مكتبة المركز الثقافي التي كان يتولاها الصديق المرحوم عبد الكريم البني. وقد أعانني مخزون المكتبة من الصحف والمجلات القديمة في أكثر من مشروع روائي أو نقدي. لكن الحسرة التي لن تتبدد هي على ما صادفت في ذلك المخزون من مخطوطة "وقائع مجلس مدينة اللاذقية". والمخطوطة تعود إلى سنوات إبراهيم باشا في اللاذقية في القرن 19، وفيه بالعربية المخلوطة بالعثمانية ما يؤثث لرواية وينفث في روحي منها. وقد أعارني المخطوطة صديقي قيّوم المكتبة، ونقلت منها أوراقًا، ثم أعدتها له. وبعد سنة أو 3 - من يذكر - عزمت على الكتابة، واحتجت إلى المخطوطة التي كانت قد انتقلت إلى دمشق بطلب من الوزارة لمحتويات المكتبة من المخطوطات. طرت إلى مكتب حنا مينه مقابل مكتب الوزيرة نجاح العطار، ثم طرت إلى مكتبها، وإذا بالمخطوطة قد طارت إلى المجهول، وندمت ندامة الكُسعي لما/ غدت مني مطلقًة نوار، ندمت على أني لم (ألطش) المخطوطة، ولكنت إذن حفظتها من الضياع.
في سنواتي الجامعية الدمشقية، ومن بعدها كلما حللت بدمشق، وبخاصة أثناء إقامتي فيها (1974-1975)، ستكون مكتبة النوري التي تأسست عام 1932 شراعًا لمنشورات دور النشر اللبنانية بخاصة. ومن مكتبة ميسلون إلى مكتبة نوبل إلى مكتبة دار الفكر إلى... توالت المكتبات التي كونتني وجيلي، إلى أن أغلقت سنوات الزلزلة ما أغلقت، حتى مكتبات الرصيف لم تنجُ.
من مصادفاتي التي لا تنسى في مكتبات دمشق أن المثقف الاستثنائي الصديق الراحل أديب غنم (والد المخرج أسامة غنم) قد أنعم عليّ عام 1978 عندما كنت أُعدّ العدّة لكتابي "النقد الأدبي في سوريا" بمجلدات مجلة "النقاد"، إذ استعارها باسمه من مكتبة وزارة الإعلام، وكان معاونًا للوزير لأكثر من 20 سنة. وقد حملتُ تلك المجلدات إلى بيتي في حلب، ووجدت فيها أيّما كنز للحياة الثقافية السورية والعربية منذ تأسيسها عام 1949. وبعد شهور أعدت الكنز/ الأمانة إلى أهلها، حتى إذا كلفتني وزارة الثقافة بكتاب عن الناقد السوري الكبير المجهول الراحل منير سليمان (لا تجمعنا قرابة)، وكان أديب غنم قد غاب عن عالمنا، لجأت إلى الصديق عمر كيلاني الذي كان مدير المكتب الصحافي في وزارة الإعلام، ليصلني بكنز مجلة "النقاد"، وفيها كنت قد عرفت من هو منير سليمان، وما من مرجع عنه غير "النقاد". أما المفاجأة فكانت أن مكتبة وزارة الإعلام قد أُتلفت لما احتشد فيها من الفئران والرطوبة خلال ما لا يحصى من سنوات الإهمال والنسيان.
هكذا، وكما كان مع مخطوطة "وقائع مدينة اللاذقية" ندمت ندامة الكُسعي لما/ غدت مني مطلقًة نوار، ندمت على أني لم ألطش كنز "النقاد"، ولكنت إذن حفظته من التلف والإتلاف.
أما المصادفة الثانية، وهي من عجائب الحياة السورية، فكانت حين استدعيت للتحقيق في أحد أكثر فروع الأمن والمخابرات إرعابًا: فرع فلسطين في شهر كانون الثاني/ يناير 1991، عقب البيان الذي أصدره 40 مثقفًا سوريًا ضد حرب الخليج وكنت من الموقعين عليه. ففي مكتب رئيس الفرع، العميد عصمت هلال، وهو حيث دخلت أولًا، فوجئت بمكتبة ضخمة ومدججة في صدر المكتب. ولست أدري كيف واتتني الشجاعة فاستأذنت، وأسرعت بدون أن أنتظر الإذن، وتفرجت، وسلمت على كتب حسين مروة ومهدي عامل وحنا مينه ونزار قباني وسيد قطب و... ومن بعد علمت أن الكتب - وأخواتها في فروع الأمن الأخرى - هي من مصادرات بيوت المعتقلين.
في سنواتي الحلبية (1972-1978) كنت أقتني الصحف والمجلات من مكتبة فياض. وكنت أسعى في بعض المساءات بين مكتبة وأخرى مع جورج طرابيشي الذي كان مدرسًا في ثانويات حلب قبل أن ينتقل إلى دار الطليعة في بيروت. أما العلامة الفارقة لمكتبات حلب فقد كانت بالنسبة لي: دار الكتب الوطنية، وهي المكتبة العامة التي أنشئت عام 1945 كفرع للمجمع العلمي العربي في دمشق، وفيها مسرح وقاعة للمطالعة وأخرى للمحاضرات وثالثة لطلبة الدراسات العليا. في رحاب هذه المكتبة كنت أتشمم عطر طه حسين وبنت الشاطئ ومحمد مندور والأخطل الصغير وعباس محمود العقاد ودرية شفيق وسامي الكيالي، صاحب مجلة "الحديث" التي عاشت من 1927 حتى 1959، ونقولا زيادة وعمر أبو ريشة الذي أدار المكتبة زمنًا.
في باب الفرج، مقابل الساعة الشهيرة، تتعملق دار الكتب الوطنية، مكتنزة أكثر من 100 ألف كتاب. وإذا كنت قد بدأت أتردد عليها منذ بداية إقامتي في حلب، فقد بتّ ألازمها منذ أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية في دمشق، وكان أحد زملاء الخدمة (عادل قناعة) في الشهور التي قضيناها في مدرسة المشاة في المسلمية قرب حلب، موظفًا في دار الكتب الوطنية، وقد تفضّل ففتح لي مخابئ كنوزها أثناء إعدادي العدة لكتاب "النقد الأدبي في سوريا" الذي صدر من بعد في بيروت عن دار الفارابي عام 1980. وأنّى لي أن أنسى الساعات التي كنت أقضيها كل يوم بعد انتهائي من عملي في سقيفة يفتحها لي الصديق عادل ويخفيني فيها، فذلك من الممنوعات. وفي السقيفة أغرق في أكوام الدوريات التي تعود إلى النصف الأول من القرن 20 (أصداء - العالمان – المقتطف – الرسالة - الإذاعة السورية - الحديث - العروس - التمدن الإسلامي ...). وحين أخرج من السقيفة بعد 5 أو 6 ساعات يكون وجهي وثيابي قد تلوّنا بالعفن الذي يؤكد أن عشرات السنين قد مضت على نسيان تلك الكنوز.
سأظل أغزل أحلام يقظة من مكتبة فمكتبة: هذه مكتبة على رصيف مقهى الروضة، وهذه على سور الجامعة، وهذه على البلاط تحت جسر الرئيس، وكل ذلك في دمشق أمس أو اليوم، وهذه مكتبة الإسكندرية، وهذا بطليموس الأول حيًا يرزق، وهذه دار الحكمة، وهذا الخليفة المأمون حيًا يرزق، وهذه مكتبة جابر عصفور وقد أفرد فيها للرواية غرفة، وحمّلني مسؤولية النصيب الصغير فيها للرواية السورية، وهذه مكتبة إدوار الخراط التي حاصرتنا فيها الكتب معًا، والراديو لا يغادر موجة موسيقى وأغاني الشعوب، وهذه مكتبة عزت القمحاوي نسهر فيها وتحفظ عن زوجته سرّ زجاجتنا، وبين كتبها التي تكاد تهوي يكون منامي، وهذه مكتبتي الصغيرة في منزلي في اللاذقية بجانب السرير، وهذه مكتبة البودي التي سأحصي ما قرأت منها، أقصد ما لم أقرأ ما دام العمر لن يكفي هذا الكائن الذي كوّنته المكتبات حيًا و... وميتًا.