}

نخبركم شيئًا قليلًا عن حرب 67

فيصل خرتش 17 يونيو 2025
يوميات نخبركم شيئًا قليلًا عن حرب 67
دخول القوات الإسرائيلية إلى غزة يوم 6 حزيران/يونيو 1967



حدثان أثّرا في نفسي بشكلٍ جيد: الأول كان موت أمي، والثاني هو هزيمة حزيران/ يونيو عام 67. وعن موت أمي لن أحدثكم كثيرًا، فقد ماتت الأم التي كانت كلَّ شيء بالنسبة إليّ، وانتهى الأمر. أمَّا حرب 67 فقد أثّرت بي وإلى الآن. فقد كان كلُّ شيء هادئًا في ذلك الصباح، الشمس أشرقت، والعصافير غرَّدت، وأبي كان يستمع إلى الراديو الفيلبس الكبير، وأنا أجهز نفسي للدخول إلى امتحان شهادة الصف التاسع (الكفاءة). أفطرت ممّا جادت به أمي، وغيَّرت ثيابي، غسلت وجهي ومشّطت شعري، وأصبحت جاهزًا للامتحان. إنَّه اليوم الثاني، لقد أجرينا البارحة امتحانًا وعملتُ فيه بشكلٍ جيد، واليوم سيكون كذلك، فقد حضرتُ مواده على أتم وجه.

انطلقتُ إلى المدرسة السورية، وكانت دعوات أمي وأبي ترافقني كلَّ الطريق، وحين وصلتُ المدرسة رأيتُ الناس مجتمعين على الباب، فوقفتُ معهم، وانتظرنا قليلًا، ثمَّ بدأنا الدخول. وضعتُ كتبي خارجًا، وجلستُ في مكاني المخصَّص لي، والذي جلستُ فيه يوم البارحة. أخرجتُ القلم وجلستُ أنتظر ورقة الامتحان لأخطَّ اسمي عليها، وسأخطّ اسمي على ورقة الأسئلة كما قال المدير يوم البارحة. مضى زمنٌ ولم نكن نسمع فيه سوى حركة المراقبين بيننا، دقيقة ودقيقتان وخمس دقائق، ولم يحدث شيء. ثمَّ جاء أحدهم وهمس في أذن المدير بعض الكلمات، عند ذلك هزَّ برأسه ثلاثًا، وقال بصوتٍ مرتفع: لقد أُلغي الامتحان، بإمكانكم أن تذهبوا إلى بيوتكم، لقد اشتعلت الحرب بيننا وبين إسرائيل.

ونحن ذُهلنا: كيف يمكن أن يكون ذلك؟ اندفعنا في الممر خارجين إلى الشارع، ووصلناه بعد قليل، وتجمَّعنا عنده، وصارت همهمة، وكنَّا جميعًا مؤيدين للحرب: يكفيها إسرائيل، الآن سوف يأخذ العرب حقَّهم منها وسيدفعون ثمن ما فعلوه بالفلسطينيين. الله أكبر، بدأ الطلاب يكبّرون، وفجأة ارتفع واحد فوق أكتاف آخر وبدأ الهتاف، وكنَّا نردِّد وراءه، انطلقنا مردِّدين وسرنا إلى الأمام. كان الصباح داميًا، ولم يكن أحد في الشوارع إلا القليل، وهؤلاء كانوا ينظرون إلينا بعين الرحمة، ونحن نردِّد بسقوط إسرائيل وتعيش دولتنا. وصلنا إلى إحدى الساحات وصرخنا قليلًا حتى انفضّت جموعنا.

ذهبتُ إلى البيت لأخبر أبي الذي يهتمُّ بالسياسة، فتحتُ الباب لأراه في أرض الدار، والراديو الكبير أمامه على الكرسي، إنَّه يستمع إلى أخبار إذاعة لندن، جالسًا تحت شجرة المشمش المزروعة في زاوية أرض الدار. قلتُ له: لقد ألغَوا الامتحان. قال: بسبب الحرب، أليس كذلك؟ قلت: نعم.

اغتسلتُ ولبستُ ثيابًا نظيفة، ثمَّ خرجتُ إلى الشارع وتوجَّهتُ إلى مركز المدينة، وخلال مشواري كنتُ أشاهد الناس يلتمّون حول المذياع الكبير، ينصتون إلى الأخبار، ثمَّ ينفجرون بـ"الله أكبر"، ويحيُّون دولتنا، ويسقطون دولة إسرائيل، الكيان المصطنع. وكان الراديو يسقط الطائرات بالجملة: لقد أسقطنا خمسًا وتسعين طائرة من طراز ميراج فوق هضبة الجولان، ودمشق شوهدت تهوي محترقة بالقرب من جبل الشيخ وطبريا، وهكذا اندفعتُ وراء الجموع البشرية التي تسقط العدو، وتساهم في انتصار قواتنا المسلحة على إسرائيل. لقد كان بعض الرجال يبكون، وستعود الأرض محرَّرة رغم أنف العدو، ومصر تشارك في هذه الحرب وتسقط الطائرات للعدو، فقد أسقطتْ حتى الآن مائة وثلاثين طائرة.

وعندما وصلتُ إلى مبتغاي، وفي منشية الباصات، رأيتُ الناس يُصلّون على الأرض، والراديو يصيح:
ميراج طيارك هرب مهزوم من نسر العرب
والميغ طارت واعتلت في الجو تتحدى الكدر

تلا ذلك نشيد "الله أكبر" القادم من الشقيقة مصر:
يا هذه الدنيا أطلي واسمعي
جيش الأعادي جاء يبغي مصرعي
أنا باليقين وبالسلاح سأقتدي
قولوا معي: الله أكبر، الله فوق المعتدي

لقد حطَّمنا غطرسة العدوِّ، ومرَّغنا أنفه في التراب، ولن تقوم له أية قومة بعد الآن، وبقيتُ على هذه الحالة مدَّة خمسة أيام، وأنا معبَّأ بنشوة النصر.

وفي اليوم السادس، كنتُ أستمع وحدي إلى الراديو، لأنَّ أبي كان قد ذهب، لا أعرف إلى أين. وضعتُ الإبرة على إذاعة لندن، وصُعقتُ عندما سمعتُ أنَّ غزة صارت في أيدي العدو. وضعتُ الإبرة على إذاعة دمشق التي كانت ما تزال تعلن الانتصارات الساحقة على جنود العدوِّ وأرتاله العسكرية وطائراته الحربية. وضعتُ رجلي في ماءٍ بارد، ثمَّ قفلتُ راجعًا إلى إذاعة لندن، التي كانت تذيع أنَّ الضفة الغربية قد وقعت في أيدي إسرائيل، وكذلك صحراء سيناء. قلت: هذا مستحيل، إنهم يكذبون علينا، ولكن إذاعة لندن لا تكذب، إنَّها تقول الحقيقة. وفي نهاية الخبر، أُعلن عن سقوط قلاع الجولان، فانتابني حزن قاتل.

نزلتُ إلى مركز المدينة، ورأيتُ تجمعًا للطلاب عند قيادة الجيش الشعبي، وقفتُ معهم، ثمَّ انبرى واحد منهم، وجلس على كتف رفيقٍ له، وصار يهتف ويُسقط ويُحيي. صار يقول: سلّحونا سلّحونا، وعلى فلسطين أرسلونا، ونحن نردِّد وراءه. صار يسير ويدور ونحن خلفه، إلى أن خرجوا علينا من الداخل. كان الضابط الأعلى وبجانبه مساعده الأقل رتبة، وبعض المساعدين، وكان الضابط الأعلى بيده مكبِّر صوت، قال لنا: إنَّها مؤامرة تستهدف النظام التقدمي في بلدنا، وإنهم يريدون إسقاط هذا النظام الذي طالما حلمنا به، يريدون إسقاط دولة العمال والفلاحين الكادحين.

أعاد الشخص الذي كان على كتف الآخر مقولته: سلِّحونا سلِّحونا، وعلى فلسطين أرسلونا. وإذ ذاك، وقفت كثيرٌ من السيارات العسكرية الحمراء، ونزل منها أفراد من الشرطة العسكرية، وبيدهم العصي الغليظة. في البداية طوَّقونا، والذي كان على كتف الآخر اختفى بين الجموع الطلابية، وبعد ذلك انهالوا علينا بالعصي الغليظة، وصاروا يضربوننا بدون رحمة. كانت الأرض التي أمام قيادة الجيش الشعبي فارغة، فانتشرنا فيها، وملؤوا سيارة من الطلاب الذين كانوا يرجفون. تناثرت الغبار، والنساء من شرفات المنازل المحيطة بالمكان قمن بالزلاغيط لأنهن اعتقدن أنَّ الحرب قد قامت، وأنها بدايتها. إنهن يضعن غطاء الصلاة على رؤوسهن، ويبدأن بالزلاغيط، وبعضهن صرن يفتحن الخراطيم علينا لأنهن كن يعتقدن أنَّ الطقس حار، ونحن ما زلنا نفرفح بين أيادي الشرطة العسكرية، وهم يسلخوننا بالعصي. بعض الطلاب أخذوا منهم العصي، فشلحوا الحزام (النطاق)، وصاروا يضربوننا به. كنتَ تشاهد بعض الطلاب وهم معبَّؤون بقمصانهم، يسوقونهم إلى السيارة المعدَّة للقبض عليهم.

وأنا وجدتُ فجوة فمررتُ منها، ولم أكن قد أُصبتُ بأذى، سوى أنني تلقيتُ ضربتين، الأولى: عندما رفعتُ يدي لأتَفادى ضربة على رأسي، والثانية على فخذي من الخلف، عندما كنتُ قد وجدتُ الفجوة.

انقضى اليوم ونحن بين كرٍّ وفرٍّ، أمسكوا بعضنا وأخذوهم إلى سجن الشرطة العسكرية، نالوا "فلقة" لخروجهم الاعتباطي، وبعضهم الآخر أصابتهم الشرطة العسكرية ببعض الضربات على أيديهم وأرجلهم، وعلى أماكن أخرى.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
8 يوليه 2025
يوميات
25 مايو 2025
يوميات
2 مايو 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.