}

حياةٌ مِلؤُها الصَّمتُ

شعر حياةٌ مِلؤُها الصَّمتُ
(حافظ الدروبي)
(1) الصَّمتُ لا يَحتاجُ بابًا

الصَّمتُ يَعيشُ كَجذرٍ خَفيٍّ
تَحتَ جِلْدِ الأيّامِ.
لا يُطالِبُ بِنُطقٍ
ولا يَطرُقُ على خَشبِ الجُمَلِ المُعلَّقة.

يَزرَعُ ظِلَّهُ في الجُدرانِ
ويُعلِّقُ ساعَةً لا تُشِيرُ لِأحد
يَضَعُ كُرسيًّا فارغًا
في كُلِّ رُكنٍ نَظنُّ أَنَّهُ لنا.

الصَّوتُ فيهِ لُغةٌ منقرضة
والأبوابُ نَوافِذُ نَسِيَتِ الجِهات
والمَرايا لا تَعكِسُ وَجهًا
بل تَفتَحُ فَمَها كَمَن يَبتَلِعُ الذاكرةَ ببطء.
 

(2)   طَعامُ الظِّلِّ البارِد

لِلصَّمْتِ مائِدَةٌ بَيْضاءُ مِنَ الجُوعِ
تُقَدَّمُ فيها الأَصْواتُ مَطْهِيَّةً عَلى نارِ النَّدَمِ.
كُلُّ مِلْعَقَةٍ تَغُوصُ فِي الذَّاكِرَةِ
تَرْفَعُ غُصَّةً تُشْبِهُ الضَّوءَ حينَ يَتَرَدَّدُ.

لا أَحَدَ يَأْكُلُ
لَكِنَّ الكُؤُوسَ تَمْتَلِئُ بِماءٍ لا يُرَى
نَحْتَسِيهِ لِنَطْمَئِنَّ أَنَّ الفَراغَ لا يَسْمَعُ.
 
عَلى الجِدارِ
ساعَةٌ مُغَطّاةٌ بِقُفّازٍ قَديمٍ،
وَحْدَهُ الظِّلُّ يُتابِعُ الوَقْتَ بِعَيْنٍ واحِدَةٍ.


(3)   ما لا يَحدثُ يَعيشُ أطوَل

مَنْ قالَ إِنَّ الغِيابَ لا يَتنفَّسُ؟
إِنَّهُ يَضعُ وِسادَتَهُ بِجانِبِنا
يَسرِقُ أَحْلامَنا بِصَفْحةِ رِيحٍ
لا تَعرِفُ النَّومَ.

 

الصَّمْتُ لا يَتْرُكُ أَثَرًا
لَكِنَّهُ يَسْتَوطِنُ الصُّوَرَ المُعلَّقَة
يَجلِسُ في الأَصْدافِ الَّتي لا تُعيدُ الصَّدى
ويَنْتَظِرُنا في طَرفِ الكَلامِ.

 

لا شَيْءَ يَحدُثُ...
ومَعَ ذلكَ، كُلُّ شَيءٍ يَتَآكَلُ.
العَيْنُ تَرْمُشُ دونَ مَعنى
والقَلبُ يُتْقِنُ فَنَّ العَيشِ
تَحتَ طَفَقاتٍ لا تُسَمّى.

 

فِي نِهايَةِ المَمْشَى
لَيْسَ هُناكَ بابٌ
بَل مَرايا تُعِيدُنا
إلى الوَقْتِ الَّذي لَمْ يَبدأْ.


(4)   مَنْ يُدرِّبُ الغِيابَ على التَّكلُّم؟

فِي آخِرِ المَمْلَكَةِ
حَيْثُ يَكْبُرُ العُشبُ دونَ أَنْ يَرَاهُ أَحَد
يَجْلِسُ الصَّمْتُ عَلى عَرْشٍ مِن تَأْويلٍ
وَيُلقِي خُطَبَهُ لِكُرْسِيٍّ خالٍ.

الكَلامُ لا يُوجَدُ هُنا
بَل تَسْقُطُ الجُملُ مِن أَفواهِ الغُرْفَةِ كَأوْراقٍ ذابِلَة
ويَبْقَى الهَمْسُ يَتَجَوَّلُ كَكَلْبٍ ضالٍّ
يَبْحَثُ عَنْ نُباحٍ مَنسِيّ.

مَنْ يُدَرِّبُ الغِيابَ عَلى التَّكلُّم؟
مَنْ يُعَلِّمُ الصَّدى أَنْ يَكُونَ بَحْرًا

لا مُجَرَّدَ خُطًى تَعودُ إلى وَرائها؟
فِي كُلِّ لَحْنٍ مَكسور
وَفي كُلِّ وَرَقَةٍ لَمْ تَسْقُط
يَكْمُنُ نَصٌّ لَمْ يُكْتَبْ.


(5)   تَكْويناتٌ أَقلُّ من وَهم

في القاعِ
لا تُوجَدُ كائِناتٌ...
بَل أَثَرُ نَفْسٍ نَسِيَت أَن تَتَجسَّد
وَضَوءٌ يَبْتَلِعُ نَفْسَهُ كَي لا يُخيفَ الظِّلّ.

اللَّمْسُ لا يُولَدُ
بَل يَتَكَاثَفُ مِن شُرُودٍ قَديمٍ
نَسِيَ فيهِ الجِسْمُ كَيْفَ يُشارِكُ وُجُودَهُ.

العَالَمُ نُقْطَةٌ نَائِمَة
تَنْزَلِقُ مِرارًا بَيْنَ أَصَابِعِ الوعي
ولا تَسْقُطُ.
لا تَسْقُطُ لأَنَّهُ لا أَحَدَ يَنْظُرُ.

في هَذا الصَّمْتِ المُنْقَطِعِ عَن زَمَنِه
الأَشْياءُ لا تَبْلُغُ
بَل تَبْقَى كاحْتِمالٍ يُخيفُ المَعْنَى
ويَنْسِفُ ضَرورَةَ الوُجُود.


(6)   مَدىً بلا سَمْعٍ

ما يَسمعُهُ الجِدارُ
ليسَ ما نَقُول
بل ما نَجْهَلُ أَنَّنا نُفَكِّرُ فيهِ حينَ لا نكون.

الصَّدى في هذا الفراغِ
لا يَعودُ
بَل يَتَشَكَّلُ كَكائِنٍ لا يُصَنَّف
يَحملُ آثارَ العُبورِ
لكنَّهُ لا يَعْرِفُ أينَ كانَ الباب.

كلُّ لَمْحَةٍ نَرْسُمُها على وجْهِ الغَيْرِ
هي نُسْخَةٌ ناقِصَةٌ مِن حَواسِّ لم نَستخدمها
مُجَرَّدُ شَبَحٍ لأُذُنٍ مَقطوعة
تُراقِبُ ما لا يُقال
وتَصِفُ ما لا يَحدُث.

الصَّمْتُ هُنا لا يُقيم
هو فقط يَتَغَذَّى علينا
كغَيْمَةٍ تَلعَقُ هُوِّيَتَنا
وتُعيدُها إلى النَّومِ كَمَطَرٍ خالٍ من الماء.


(7)   نَحْنُ الَّذِينَ نَسُوا الأَصْوات

في زاويةٍ نَسِيَها الوَقْتُ
تَجَلَّطَ الضَّوءُ في عَيْنِ لَيْلٍ لم يُغْمِضْ
وصارَ كُلُّ شيءٍ يُضيءُ داخِلَهُ فقط.

الْمَدى يَلتَفُّ على نَفْسِه
كَمَنْ يُخْفِي طَعْنَتَهُ بِحَقْنَةِ صَفاء
ونَحْنُ نَعْبُرُ فَوْقَ صُوَرٍ لَمْ تُرَسَمْ
نَتَنَفَّسُ أَشْباحًا نَسَجَها المَعْنى
لِتُرَبّي عُطْلَةَ الصَّوْتِ في أَفْواهِنا.

ما عُدْنا نَعِي مَنْ يَسْمَعُنا،
ولا إن كانَ لَنا صَوتٌ يُسْمَعُ
لِذلِكَ نَتَكَلَّمُ كَطُيُورٍ خُرافيَّةٍ
لَهَا أَجْنِحَةٌ لا تَطير
تَخُطُّ هَواءً يُمْكِنُ قِراءَتُهُ فَقَط
إذا كُنَّتَ تُجيدُ الإصْغاءَ بِجِلْدِكَ.


(8)   الأَثَرُ الّذي لا يَتركُ شَيْئًا

نَمْشي على ظِلٍّ لا يَعودُ لَنَا
كأنَّ الوُجُودَ اقتَرَحَنا وَنَسِيَ أن يُكمِلَ الجُملة.

نَتركُ أثَرًا لا يُشْبِهُنا
بل يُشْبِهُنا لو كُنَّا أَشْباحَ إحْساسٍ لَمْ يَحدُث
طَيْفَ أَلَمٍ لَم يَسْتَعِرْ حتى اسمَهُ.

كُلُّ حَواسِّنا مُعَلَّقةٌ على جِدارٍ خالٍ
لا يَملِكُ مِساحةً لِذِكرى
فَنُصْبِحُ كَأصْداءٍ ضَجِرَة
تَرتَدُّ عَن ذاتِها
بِلا قَصْدٍ
ولا نَدَم.

في هذا الصَّمتِ المُقَيَّدِ بالحُضُور
نَشْعُرُ
لكنّ الإحساسَ لا يَنْجَحُ في أن يُفَسِّرَنا
ولا في أن يُدَثِّرَنا باليقين.


(9)   الصَّمْتُ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ

نَحْنُ الَّذِينَ لا يَكْتَسُونَ بكلماتٍ
لأنَّ الجُملَ لا تَحْمِلُنا إلا إلى حيثُ لا نَمكثُ.
كلُّ شيءٍ فينا يَستطيعُ التّحوُّلَ إلى لا شيء،
ويَصيرُ الصَّمتُ حياةً
لا نَعرفُ ما الذي يَقتُلهُ فيها.
نَظنُّ أحيانًا أنَّنا نعيشُ بينَ ضَفَّتَيْنا
لكنَّ الحَقِيقَةَ أنَّنا نَغرقُ في البحرِ الذي لا يتنفَّسُ.
لا فَجْوَةَ بينَنا
فالحياةُ تَمدُّ أستارًا نَظنُّها نوافذَ، ونَمضي
على ما يَجْرِي في داخِلِنا.
نَحْنُ الَّذِينَ لا نَفْهَمُ أَيْنَ كُنَّا
ولا إنْ كانَ لَنا صَوْتٌ يُسْمَع
نَمْشِي على أَرْضٍ يَعلوها صَمْتٌ أَكْثَفُ مِنَّا
نَجِدُ أنفسَنا مجدَّدًا على الحافةِ
لا نَمشي، ولا نَرْجِعُ.
ما زلنا في الظِّلالِ
حيثُ لا فَجْرَ يشُقُّهُ الصَّوتُ.


(10)   الصَّمْتُ الَّذِي يَخْتَزِلُ الزَّمَنَ

هَذَا الّذي نَحْنُهُ الآنَ
يَكُونُ فِي غَيْبَتِهِ مِثلَ السَّاعةِ المَعَطَّلَةِ
لا تَدُورُ، ولا تَستَحْدِثُ شيئًا.
نَفْهَمُ الزَّمَنَ كأَنَّهُ غَيْبَةٌ في الوَقْتِ
تَحْتَفظُ بتفاصيلِنا لِتُغَسِّلَها نَّسائمُ
لا تَصِلُ إلى حوافِّ الحُدُودِ.

نَعيشُ في الزَّمَنِ الَّذِي غَابَ عَنْا
بِتَأَخُّرِنا عن أنفسِنا
فكلُّ لحظةٍ فيها تَصِيرُ غُرْبَةً فينا.
لكنَّها تَمُرُّ،
كالحَبِّ الذي يسقطُ في سَحابٍ مُتَقطِّعٍ
لا يعرفُ مَنْ يَحْتَسِيهِ.

نَحْنُ أَصْحَابُ الأنفاس المعطلة
وَجُزْءٌ مِنَا يَسْتَعِيرُ هَوَاءَنا
تَبَقَّتْ لنا حافةٌ نَحْنُ ضَائِعُونَ فيها
تَمُرُّ الأفكار من خَلْفِنا
دونَ أن نَفْهَمَ إنْ كانَ الوَقْتُ يَمُرُّ
أم أنَّنا نَمْرُّ فِيهِ.

(العراق) 

قصائد اخرى للشاعر

شعر
20 يونيو 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.