}

مرة أخرى... مقيمون ما أقامت ميسلون!

منذر مصري 22 يونيو 2025
يوميات مرة أخرى... مقيمون ما أقامت ميسلون!
أول قدوم للفصائل المسلحة إلى ساحة العلبي في اللاذقية

ذكّرني بهذا الذي يومًا قلته، وردّدته أكثر من مرة، صديقان. الأدق، صديق وصديقة. الصديق غادر سورية إثر الأحداث الدامية التي جرت في أوبين وعرامو والبارودة وغيرها من قرى شرق منطقة الحفّة، 4-5/7/2013. وأسفرت عن مئات القتلى والمختطفين من النساء والأطفال. والتي سادت صدمتها النفسية حينذاك عموم أهالي الساحل السوري، ومنهم أهالي مدينة اللاذقية ذاتها، ما أدّى بجزء منهم إلى يأس شديد لم يعرفوه خلال كل أحداث السنوات الثلاث الماضية، الأمر الذي شهدته بنفسي، حين رأيت الرعب في عيون من قابلت منهم، وسمعته من أفواههم. فقد تبين واضحًا، منذ ذلك الوقت، أن الأسد للأبد، بجيشه حماة الديار، لا يستطيع حمايتهم ولا حماية سواهم حين تقع الواقعة وتحدث الزلزلة! وأن آخر همّ لهذا النظام هو الدفاع عنهم! وبأن لا حل أمام من له القدرة منهم سوى مغادرة البلد! وهذا ما فعله صديقي، باع على عجل بيته وعيادته وسيارته ومضى، مصطحبًا عائلته إلى هولندا. الصديقة، إنسان قريب مني، يصدق بي، يتابعني، إن لم أقل يترصدني، بتوقع عالي الدرجة لكل شيء أقوله وأعمله. وقولي هذا الذي يذكرانه ويذكراني به، بنبرة أقرب للتحدي، هو:

"أستطيع العيش تحت حكم النظام لبقية حياتي ولا أستطيع العيش في الرقة أو إدلب تحت حكم داعش وجبهة النصرة؟".
جوابي وقتها كان أقرب للتملص من الجواب، وذلك لأني عادةً أفتقد ما يطلق عليه سرعة البديهة، فلا أعرف ماذا ينبغي علي أن أجيب، ولا كيف ينبغي أن أجيب، إلّا بعد وقت، وبعد تقليبي للسؤال على مختلف وجوهه، عندها، كما آمل الآن، أستطيع تقديم، ليس إجابة واحدة، بل إجابات، بعضها، كما آمل أيضًا، قد يتسم بشيء من الفطنة:

أوّلًا- هم من جاؤوا:

أنا لم أذهب إلى أي مكان، هم من جاؤوا. والحقيقة، جاؤوا ليس بناء على طلبي، ليس أنا من أشار لهم وناداهم، ولا من فتح لهم الباب، وقال لهم: "تفضلوا". أيقظني اتصال صديق في الساعة الخامسة والنصف فجر الأحد 8/12/2015، قائلًا: "تعال إلى ساحة الشيخضاهر، نحن نسقط التمثال". فهرعت إلى هناك، وكما في ألف حلم حلمت به في حياتي ولم أكن أصدقه حتى وأنا نائم، أخذت مكاني بين الناس ورحنا نشد بالحبال المعقودة على رقبة التمثال، حتى تهاوى تحت أقدامنا. وكانت اللاذقية خالية من أي أثر على وجود النظام، إلى أن صادفت بعد يوم ليس له مثيل في حياتي، قضيته متنقلا في كل أنحاء المدينة المحررة بعد نصف قرن من القيود والأصفاد. حتى وصلت إلى ساحة العلبي، ساحة /32/ شهيدًا، وشاهدت سيارتي بيك آب ميدانيتين، يزدحم في صندوقهما الخلفيين مسلحون مغبرون، بلحى وشعور طويلة، ينظرون بذهول إلى الناس حولهم، يهللون لهم ويصورونهم ويمدون أيديهم كي يلمسوهم، والبعض يطلق النار احتفالًا بهم. أحد المسلحين يصيح غاضبًا: "يمنع إطلاق النار. على الجميع تسليم أسلحتهم. كل شيء انتهى".

ثانيًا- باق أنا، كنت وما زلت:

وهذا ما قلته وكتبته، ليس مرة أو مرتين، بل مئات المرات، جاعلًا منه عناوين قصائد ومقالات، اثارت وقتها الكثير من الغبار، مثل (هذا الجحيم وحده وطني) موقع هنا صوتك 3/2/2015، الذي، بالصدفة، أذكرك بالاسم فيه، و(سنبقى... ولو وقعت السماء على رؤوسنا) موقع هنا صوتك 31/10/2015. الذي أقول فيه: " إذا استولت (داعش) على الرقة وتدمر ودير الزور، واحتلت (جبهة النصرة) نصف حلب وإدلب والجسر و(اللاذقية) و... دمشق... سنبقى". كما أنه ما زال مكتوبًا بخط عريض على صفحتي في الفيسبوك، وهو ما سأنقله، (نسخ لصق)، الآن: "ولدت وعشت وسأموت في اللاذقية. قرار لا رجعة عنه... مهما كانت الظروف ومهما كانت العواقب" أما على التويتر: "لا ندم ولا مأثرة. بقيت كبقية الأشياء الباقية".




أما سؤال: "لماذا أنت باق في سورية ولم تغادر؟". "لماذا كلما حدث وأتيح لك السفر إلى بلد ما، تعود؟"، "أمثالك جميعهم غادروا، ماذا تفعل هنا؟" فكان أول ما أواجه به في كل مقابلة أجريها، مهما كان نوعها، وفي كل تحقيق استدعى إليه خلال ربع قرن!
ثم إنني لم أغادر مدينتي، حارتي، بيتي، مرسمي، أيام النظام، وتريدين مني الآن أن أغادر بعد أن سقط النظام وتحقق أحد أعظم أحلامي؟

ثالثًا- بقيت كما بقي الجميع:

مضى ما يزيد عن ستة أشهر على سقوط النظام. ولليوم لم أذهب إلى إدلب، كثيرون سارعوا وقاموا برحلات جماعية، من الصباح للمساء، إلى إدلب، يدفعهم الفضول لأن يشاهدوا بأم أعينهم ما هي هذه إدلب؟ التي جاء منها محرروهم، والتي سمعوا عنها، وصدقوا، بأنها دبي صغيرة! ألمحت لصديقين إدلبيين توثقت معرفتي بهما بعد التحرير، عن رغبتي بالذهاب معهما إلى إدلب وسرمدا وحارم إن أمكن، يخبراني أن بينها مسافات، ويعداني خيرًا، ولكن لليوم لم يحصل! وها أنذا باق في اللاذقية، مثلي مثلك يا صديقتي، ومثل... الجميع، مثل الملايين من السوريين، الذين بقوا حيث هم، في بيوتهم، ولم يغادروا إلى أي مكان آخر، قريب أو بعيد، قبل سقوط النظام وبعد سقوط النظام، سواء أفرحهم هذا السقوط، وهم الغالبية العظمى، أو لم يفرحهم، وربما أحزنهم، وعرضهم لأسوأ ما يمكن أن يتعرض له بشر! وهم ليسوا قلة، ولكن: "إلى أين نذهب!"، يقولون لك، أحق حقوق الجميع أن يحيوا في وطنهم آمنين وكريمين.

رابعًا- وعود العلم الأخضر:

إدلب، إليك ننتمي على جدار مدرسة في اللاذقية (منذر مصري)


ولكن من هم الذين جاؤوا؟ أهم أنفسهم، القاعدة؟ داعش؟ جبهة نصرة؟ الذين كانوا يحكمون بالدين والشريعة الرقة وإدلب تلك الأيام؟ الجواب المعمم: "كانوا". /3/ فصائل رئيسية، أو /19/ فصيلًا، وقد يصل العدد إلى /150/ فصيلًا من كل شكل ولون وطيف، شاركوا تحت قيادة (هيئة تحرير الشام) في عملية سقوط النظام، يعلنون اليوم أنهم في طريقهم لأن يصيروا جيشًا وطنيًا، وأن قادتهم وأمراءهم صاروا رجال دولة لا رجال حرب، رجال عهد جديد لسورية جديدة، ذات رئيس جمهورية، وذات دستور، وذات حكومة، وذات مجلس شعب.
 
في أول لقاء حضرته بين مجموعة من أهالي اللاذقية وممثلي الفصائل الذين تولوا مسؤولية إدارة شؤون المحافظة، قلت: "بما أنكم اخترتم أن ترفعوا علم الثورة السورية، وتقولون إن انتصاركم انتصار للثورة السورية، فإنكم ملزمون بوعود هذه الثورة، ألا وهي: الحرية والعدالة والكرامة للسوريين أجمعين، دون أدنى تمييز".

خامسًا- أنظروا من جاء أيضًا:

لسان حالي: "أروع إنجاز لسقوط النظام، الانتصار الذي لا تشوبه شائبة، هو عودة السوريين لوطنهم". تصاعد العدد المعلن للسوريين أصحاب الإشارات الأمنية على أسمائهم، من /2.5/ مليون، تم تسريبها على مواقع الإنترنت، وتواجد فيها اسمي واسم ابني شكيب واسم أختي واسم عدد لا يحصى من أصدقائي، إلى /5.5/ مليون، ثم صار /8.5/ مليون، كما أشيع بعد سقوط النظام وانكشاف ملفاته. وجوابًا على المشككين بهذا الرقم، وأنا منهم، أقول إذا أضفت على إشارات الاعتقال، ومحكمة إرهاب، والمراجعة أمنية، إشارات المتخلفين عن الخدمة العسكرية، ودعوات الاحتياط، وكذلك حجز الأموال منقولة وغير منقولة، ومنع سفر، لألف سبب وسبب، يصير هذا العدد الخرافي قابلًا للتصديق مثله مثل كل ما لا يصدق أيام النظام. ويقدر لتاريخه أن /1.5/ مليون لاجئ سوري من مخيمات لبنان والأردن وتركيا، قد عادوا إلى ديارهم رغم أن النظام لم يبق لهم ديار! ولكن الذين سأذكر أسماءهم، كدليل، على أن سورية اليوم ليست الرقة وإدلب سنوات 2014- 2015، وحتى 2018، وربما 2023، ليسوا من هؤلاء، بل من الذين يشبهوننا، (التعبير الذي بات يستخدم في محله وغير محله)، ويمثلون لنا رموزًا (تعبير شائع آخر!) ثقافية ووطنية، يمكن للآخرين أن يستشهدوا بأقوالهم ويأخذوا من أفعالهم العبر! فلقد عاد، مع حفظ الألقاب والصفات، فارس الحلو، ترك باريس وعاد لدمشق، وعبد الرحيم قطيفان، ويارا صبري، وبشير البكر، وخولة دنيا وجلال نوفل، وأسامة ربيع من سويسرا، ومصطفى حديد من إسطنبول وهو الآن في جنته دير عطية، كما جاء كزيارة لأسابيع أو لأيام كثيرون، أذكر منهم فاروق مردم بيك، جاء مرتين. الأولى بصحبة صبحي حديدي، وعبد الكريم عفنان، والثانية مع ابنته التي لا تعرف سورية! وأحمد حسو ولاريسا بندار، وأسامة محمد ونعمى عمران، ومحمد منصور، ومحي الدين لاذقاني، وياسين الحاج صالح ابن الرقة، وندى منزلجي، وأختي مرام المصري التي عادت معها رغبتها القديمة بشراء بيت صغير، وصديقاي مصطفى عنتابلي ومحمد حافظ، وعبد القادر منى، وسمير ذكرى، بعد غياب /40/ سنة! ومصطفى حاج بكري... وآخرون بالمئات لا أعرفهم! كل هؤلاء، ما كان يخطر على بالهم لا أن يحيوا في إدلب ولا أن يزوروها.




سادسًا- الرهان اليوم:

ربما أوّل من استخدم مصطلح (أدلبة) كان الباحث السوري د. نجيب عوض، وكان برأيه وبرأي الكثيرين، أن إدلب، موطن الفصائل، لأكثر من عقد من السنين، ومنطلقهم لتحرير سورية كلها، ستكون المثال المحتذى لهم في حكمهم، خاصة وإنها أوصلتهم إلى هذا الانتصار. وبالفعل، رغم صدور تصريحات شبه الرسمية، تقول بما معناه: "سورية ليست إدلب". إلّا أن إدلب، وأهلها، (الأدالبة) الأصيلين، ومعهم السوريون وغير السوريين الذي تجمعوا وعاشوا فيها هذا العقد والنصف من السنين، تحت الحصار وتحت القصف، مسلحين كانوا أو مدنيين، اعتبروا أن سقوط النظام، وكسر الطوق الذي كان يحيط بهم، أشبه بإشارة الانطلاق لأن ينتشروا في المدن السورية، بسياراتهم وبسطاتهم وبضائعهم، وعلى الأخص القريبة منها كاللاذقية، مدينة البحر الأزرق، الذي لم يروه في حياتهم، والتي أظهر أهلها أشد الترحيب بهم. هذا إذا لم نتطرق إلى تسلم (الأدالبة) الكثير من المناصب والمسؤوليات في الدولة، التي بدت وكأنها تؤكد الظنون بعدم رغبة السلطة بالمشاركة، ولو أن هذه الظاهرة، بمرور الوقت، بدأت تراجعها التدريجي ومع تشكل مؤسسات الدولة السورية الجديدة.
لا يا أصدقائي، ليست إدلب من سوف (تؤدلب) سورية، بل العكس، سورية سوف (تسورن) إدلب، كما سوف (تسورن) سواها من المدن العائدة لحضنها، وهذا ما هو طبيعي، وما هو أفضل لسورية وللشعب السوري بأجمعه. وهذا ما يراهن عليه السوريون، كان وما يزال، وهذا ما ربحوه، وما سيبقى لهم ما داموا يعرفون كيف يحافظون عليه.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية - سورية

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.