العراقيّون يحبّون البقعَ الفاتنة
أكثر عندما تزول،
عندما لا يمكن استعادتها ببراعة،
يستيقظون في اليوم الذي يموتُ فيه
الطاغية
فيجدونه أشدَّ عذوبة،
يجيئون إلى الأعشاش حين تمسي معتمةً،
إلى مدن السعادة البشرية
وهي دخان،
إلى الحياة وهي زاخرة بالموتى،
العراقيون يبكون
فتعيد النواعير دورانها، تنجو الغربان، وتدلُّ
الحجارة على شيء أقلَّ صلابة،
يندفعون بعجلة
نحو أحزانهم
لئلا ينفلت حزن صغير دون أن يأخذ
زوادته الكافية من البكاء،
العراقيون لا يمكن أن تُفصلَ
ماءهم عن عتمتهم،
صُنّاعٌ للمجدِ المرهق وللأسى.
ما إن تمرّ عشر سنوات
جافّة دون أن يُوغل أحد
خنجره بصدر أخيه،
حتى يجد العراقيون سببًا لإعلان ضجّة،
قد تبدو الأسباب تافهة،
إلّا أن السلام الجافّ لا يُسعد
الفتيان الذين يُخبّئون سكاكينهم بسراويلهم
لأيام مثل تلك،
العراقيون، هؤلاء الذين ينبغي أن تُحبّهم
وتحذر منهم،
الذين بدوا حتى الآن
الأكثر جنونًا في ترطيب الأجواء.
يُصاب أيّ عراقيّ
بكارثة تبلغ العظم، فيُقلّل من ذلك
قائلًا إنها بالريش فحسب.
يوهِم رفاقه بأنه طائر جارح،
وإن الكارثة
لم تكن سوى سقوط ريشة
لن تؤثّر على طيرانه...
هذا هو الكلام الذي سنورّثه لأحفادنا
بخجل هائل،
حيث يغدو الجلد والعظم خاويَين ومُخجلَين،
وقد ضحّينا بالريش.
تنتاب المرء
رغبة بالبكاء حين يُسأل عن هويّته،
رغبة بالنحيب،
لأن الليلة التي قُتل فيها الحسين بن علي
لم يطلع صباحها حتى الآن...
إننا مأساويّون،
لأن صباحاتنا غالبًا ما تُثبت لنا بأننا المفقودون
الذين كنا نحسبهم في عداد الموتى.
الصيف بعيني شمس مهولة
يتعقّبُ مصائر العراقيين،
يحفر آثارًا لخطاهم،
يهبهم القدر الكافي
من الآلهة من أجل تأليف صلوات جديدة.
وإذا أراد مؤرّخ غير مذعور
كتابة شيء مُزلزل للعراقيين،
فليكتب تاريخًا للصيف.
لا تعبَ في العراقيين
شيئًا لأنهم حزينون في الأوردة،
لأنهم يُغالون بوصف الجراح،
فهكذا يُعالجونها،
لأنهم يغفلون عن الفرح الضئيل
في حياتهم،
لأن رقصهم غالبًا ما يبدو
إمعانًا بتجسيد ارتعاشةٍ لجريح.
لا تعبَ في العراقيين شيئًا
حين يموتون بطريقة مفرطة،
هكذا يتمّ التفريقُ
بين البشر الملوّحين والدُّمى.
يتلقّى أيّ شخص
ترحيبًا فريدًا ما أن يطأ
أرض بغداد،
فيحسب أن العراقيين لطيفون جميعًا،
وهم كذلك،
أو أنهم ليسوا كذلك،
لكن لا أحد مثل العراقي
وقفَ غير مبالٍ
ومنح نفسه جسدًا أصلب من ظلٍّ على جدار،
إذ أسند العراقيون أنفسهم بأنفسهم مرارًا،
وأحبّوا العالم على مضض.
لماذا يُحبّ أحدٌ
العراق حين لا يكون بلده؟
هذا هو السؤال،
حين يجد المرء نفسه مُغرَمًا
ببلاد السواد دون أن يكون
لاجئًا أو منفيًّا،
ينهي علاقاته بالبلدان الأخرى
ويُقرّر أن يصبح العراق
محطّته الأخيرة.
يتعرّف مجددًا على ما أحبّه،
ويدرس قراره جديًّا،
ثم يستمرّ...
على أية حال،
فإن العراق هو البلد الوحيد الذي لا يستأهل
أن يمسي قدرًا.
كما يُخطئ أحدهم بتقدير
قطعة قماش
لتنتهي إلى رداء قصير
وضيّق،
هكذا نبدو عراقيين،
فنُبذل جهدًا ليكون العراق كافيًا لنا،
ثم ما أن نأخذ الأمر بجديّة
حتى نجده فائضًا عن حاجتنا...
ثمة شيء يدفع أجسادنا لأن تتضاءل
على ألا نفقد الأمل.
* شاعر عراقي.