مبكرًا، لا بل مبكرًا جدًا، أدرك المولود في مدينة الزرقاء الأردنية التي استقر أهله فيها بعد تهجيرهم من قرية عجور شمال غرب مدينة الخليل الفلسطينية، أن السيف، وفقط السيف (بدلالاتهِ كلّها طبعًا، وبمختلفِ ما يؤشّر عليه ويشيرُ إليه من أسلحة ومعداتِ قوة ومرادفاتِ إعداد) وحدَه القادرُ على محوِ أسطارِ البلاغةِ كلِّها، مستذكرًا، هُنا، رد أبو مسلم الخراساني (قائد الثوار العباسيين) على رسالة عبد الحميد الكاتب التي يحاول الكاتب عبرها تأخيرَ سقوطِ آخر الخلفاء الأمويين: "مَحَا السيفُ أسطارَ البلاغةِ وانْتحى/ عليكَ ليوثُ الغـابِ من كلِّ جانبِ". ومبكرًا انحاز أحمد أبو سليم، صاحب "دمٌ غريبٌ" ديوان شعره الأول في عام 2005، إنْ بمواقفهِ وأفعالهِ وحراكاتِهِ وسجالاتِه، أو بأدبهِ شعرًا ونثرًا، أو حتى بعناقهِ عودَ الصبابةِ راغبًا باستنطاقهِ بعضَ نسائمٍ من فلسطين، إلى المقاومة بوصفها خيارًا ليس نهائيًا فقط، لا بل وجذريًا إلى أبعد ما تحمله مفردة (جذري) من وضوحِ موقف، وحدّة اختلاف، ولا رجعةِ خيارات. هذا ما كان عليه موقفه حين اندلعت الثورة السورية وأراد أحد شعوب بلادنا الشامية أن يتخلّص من السجّان الطاغي الدكتاتور (وما أكثر الطغاة في بلادنا)، وهذا ما كان عليه موقفه (بل ومواقفه جميعها) عند كل حادثةٍ وفي كل حين. لا يريد لبوصلتهِ أي فرصة للاعتلالِ أو الضياع، أو الوقوع في فخاخِ التخمين، وكما يستعيذُ أتباعُ يسوع من شرورِ التجربة، ظل أبو سليم يستعيذ من مزالقِ اختبار دروبٍ غير تلك التي تُفضي إلى القدس وفلسطين (مهما اعترى بعضها من تلفيق، أو تعريفٍ غير دقيق). اليقين، وما أصعب اليقين، ما أبعده، تجلّى بوصفهِ مرادَه الأعلى، غايةَ غاياتهِ في الحياة وفي الممات. دمٌ جليلٌ هو اليقين كما رآه صاحبُنا... طفلٌ فدائيٌّ بالوراثةِ... صليلُ معاركٍ لا تنتهي، في تغريبةٍ لا تنتهي، ونضالٍ لا ينتهي، من أجل حقٍّ لا ينتهي بالتّقادم. هكذا وفقَ هذه التجلياتِ جميعِها تصبح حركة فلسطينية من طراز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على سبيل المثال، خيارًا مفضّلًا لدى شاعرٍ يزْبدُ الحروفَ كما لو أنّه يعاينُ طقوسَ النار الأخيرة.
لستُ في واردِ محاكمةِ دربِ الجُلْجلة التي قطعها شاعرُنا وناثرُنا جميعَها متسلحًا برسالةٍ واحدةٍ وحيدةٍ هي شرعيةُ الحق الفلسطينيِّ وجذريةُ النضالِ من أجلِ فلسطين، ومن أجلِ حقِّها وحقِّ أبنائِها في الحريةِ والكرامةِ والتحريرِ والاستقلالِ الوطنيِّ الكاملِ النّاجزِ غيرِ المرْهون لاتفاقياتِ هَوان. ولأنَّ المبدعَ المقاومَ الصادقَ في انحيازهِ لخياراتِهِ... المؤمنَ أن السلاحَ المقاوِمَ الواضحَ الصادحَ الصالحَ هو، بعدَ الله، الطريقُ الوحيدُ للنصرِ وتحْرير الأرضِ والإنسان، يصبحُ كثيرَ الهجوسِ المُقْترباتِ من قراءةِ الطّالع، واستبشارِ الآتي، فإن كثيرًا من قصائدِ أحمد أبو سليم المكتوبة ما بين عامي 2010، و2017، المجموعة في ديوانهِ الشعريّ الأخيرِ الذي جاء بعد سبع روايات وكتابات أخرى كثيرة، ترتقي إلى كونِها استبصارًا يُنبيء بالطّوفان ومعظم ما كان وما يزالُ يكون. من قصائدهِ الاستشرافيةِ قصيدةُ "الخليل" التي كتبها من وحي زيارته عام 2009 (عام اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية) للمدينة التي ظلّت قريته حتى النكبة من قضائها، وفيها: "لو قيّد لي أن أحكم هذا الكون لساعاتٍ... لقسمتُ الأرضَ إلى نصفيْنِ بخيطِ هواءٍ... كي يبرأَ من كيدِ السحرِ الشاهدُ زورًا بين الوسطى والإبهام... هبرٌ سألَ المسكونُ بخوذتِهِ... اليوم الغولةُ ترقصُ لي في مُغرِ الخوفِ على جثةِ آخرِ ولدٍ... وتنامُ على أذْكارِ الموتِ وتلّ عِظام... ضدّانِ على مرمى حجرٍ في بيت النار... ورثتُ أصابعَ من ورقٍ وبلادًا يحملها الغرباءُ على طبقٍ... ماذا انتظرتْ ليلى والفارسُ آبَ بِلا قرنيْنِ من السّفر... وكأنَّ الروحَ كُراتُ زجاجٍ بلّورٍ نثرتْها الكفُّ فرنَّ الخوفُ... هنا في سوقِ خليلِ المنسيينَ طريقٌ أعمى وحريقٌ... يُمناكَ صليبٌ معقوفٌ؛ وجهُ العبريّ بِلا زيفٍ... يُسراكَ قتيلٌ محذوفٌ؛ وجهُ العربيّ كهذي الجُملة معترضٌ دونَ رتوشٍ أو تعريفٍ... قبرٌ حجريٌّ مسقوفٌ بِشِباكِ الليلِ كحزنِ القلبِ يضيقُ ولكن قد يتسعُ لألفِ قتيلٍ... كيفَ لخيطٍ أن يقسمَ أمواجَ البحر إلى نصفيْن؟ وأن يقسم عظم الفكّيْن بِلا إِيلام؟". إلى أن يقول "للعازف حكمةُ جنديٍّ يعزف فيروزًا بالعبريةِ منتشيًا... وأنا في السوق بلا كللٍ ألتقطُ الصورةَ إثرَ الصورةِ مسكونًا بالطحلبِ من أثرِ الطوفانِ على الجدرانِ... كأن أبي ما كان هنا... تسقط من كفي فوق الأرض الحجريةِ آلةُ تصْويري... كلُّ الناس تداعوا خلفيَ مذعورينَ... تحاصرني غاباتُ سلاحٍ... تسألني والشك يفيض من الأعينِ من أين؟ أجيب من المنفى... والأصلُ أنا من هذا السوقِ... هناك على تلكَ البوابةِ مات أبي... تركوني أجمع أشْتاتي... والكونُ ينادي من حولي... بلدٌ محكومٌ بِالكاكِي وبحكمةِ خوفِ المذعورينَ... سيسقطُ يومًا مختنقًا تحت الأقدام... لا بد ستسقطُ إسرائيل... لا بدّ ستسقطُ إسرائيل... لا بدّ ستسقطُ إسرائيل"... فأي أثرٍ بحجمِ الطوفان يمكن أن تتركه قصيدة تعاين ما سوف يكون إن ظل رجال الله في الميدان هم أصحاب الكلمة الفصل؟ أي أثرٍ جليلٍ مثلَ بركاتِ الياسين تجندلُ الميركافا وتاريخ الاستعمار جميعَه؟
في السياق نفسه تواصلًا وتقاطعًا ودلالات، لا تبتعد قصيدة "غزّة" من ديوانه الشعريّ الأخير "ضدّ قلبِك" (2017) عن روح الاستشرافِ نفسِها التي طهّرت قصيدة الخليل وربَتَت على كتفيّ الدمع الذي رافقه في زيارته الموجوعة إلى جزءٍ محتلٍ مقطّعٍ بالحواجزِ من بلاده فلسطين: "لا تغسلوا أمواتَكم بالماء... قد غسل الرصاص ذنوبَهم... لا تشعلوا في ليلهِم نارًا تدفّئ بردَهم فالشمسُ تشرقُ فوق غزّة كل يومٍ مرتيْن... لا تحفروا أصواتَكم فوق الشواهدِ... عاركُم هو عاركُم... والصمتُ أبلغُ في المقابرِ من مقاماتِ الحنين... في الموت طفل لم يجد قبرًا يلمّ عظامَه... رجلٌ يفتّشُ عن ملامحِ وجهِهِ... بعض الثياب تقيّأت جسدًا تعفّر بالترابِ وطفلةٌ نسيَ المؤذّن صوته عندَ الولادةِ في ثَنايا أذنِها... فتقافَزت الله أكبر من بَقايا لحمِها".
فَها هي الأشلاءُ تملأُ شاشاتِ صمتِنا جميعَها... وَها هي ثَنايا التكبير تنغرسُ عميقًا في بقايا اللحم المعقّم من كل خيْبات الهزيمة، المسلّح بمرارةٍ ملأتْ وَتملأُ أمْعاء كلّ الذين يرْقصون فوقَ جِراح الشعب الفلسطيني (في غزّة على وجه التحديد)، إلى أن يصير رقصهم تراكضًا نحو ملاجئ الخوف من اندثارٍ وجوديٍّ لهم لا يُبقي ولا يَذر.
لكنّ كلَّ الاستشرافاتِ في كفّةٍ، واستشرافَهُ رحيلَهُ المُكْتَنِزِ بأورامِ الآهِ في كفّةٍ ثانية: "طَوَيتُ قَلبي مِثلَما أَطوي ثِيابي... داكِنًا كَاللَّيلِ كانَ في يَدي... خَبَّأتُ في حَقيبَتي مَدينَةً صارَتْ بَقايا مِن خُيوطِ العَنكَبوتِ وَسورَةَ المَنفى وَوَجهًا مِنْ حَجَرٍ وَما تَبَقّى مِن حَكايا السِندِبادِ... غَيمَةٌ كانَتْ جِدارًا حَولَ عَكّا... ثَوبَ عُرسٍ بارِدٍ لَمْ يَكتَمِلْ... طائرُ العَنقاءِ يَهذي: كُلُّ شَيءٍ زائلٌ إِلاّ أنا وَحدي هُنا أَبقى عَلى عَرشٍ مِنَ الماءِ وقِنديلي دَليلي كُلَّما أَوغَلتُ بُعدًا في دَمي خَبَّأتُ في حَقيبَتي مَدينَةً قَدْ أُطفِئَتْ أَنوارُها وَعُلِّقَتْ أَجراسُها في جيدِ ذِئبٍ... كُلَّما نادى إِلى الصَّلاةِ فيها جائعٌ قالوا اكسِروهُ قَدْ صَبأْ وَزَيِّنوا بِلَحمِهِ مَوائدَ الذِّئابِ". إلى أن يقول:
"لَمْ أَجِدْ حينَ استَويتُ فَوقَ عَرشي
هُدهُدًا يَمشي إِلى أَرضِ الحِجازِ
حَيثُ أُمّي لَم تَزَلْ تَبكي هُناكَ فَوقَ قَبري
لَمْ أَجِدْ بَينَ الرَّمادِ زَهرَةً تَبكي رَحيلي".
وصولًا إلى قفلة قصيدته "رحيل" الأكثر استشرافًا بموته المؤجّل، أو لعله موته الذي بدأ عام 1948، عام نكبة فلسطين وتحوّل عجّور إلى قرية مدمّرة:
"تَهرُبُ الصَّحراءُ مِنّي
كُلُّ ما خَلَّفتُ خَلفي سائرٌ إِلى زَوالْ
وَالدُّودُ يَأكُلُ العَصا
وَالأَرضُ أَمسَتْ مِن دُخانْ
وَالرّيحُ خَلفي
مِنْ أَمامي صَرصَرٌ
تَكاثَرَتْ عَلى جِراحي كَالذُّبابْ
وَحدي أُنادي مُثقَلًا بِالمَوتِ
وَحدي
مُثقَلًا
أَنا النَّبيُّ لا كَذِبْ
أَنا
النَّبيُّ
لا كَذِبْ
وَحدي أَموتُ ها هُنا
وَحدي
عَلى أَسوارِ عَكّا
مُثقَلًا
بِكُلِّ ما خَلَّفتُ خَلفي
لِ
ل
حَ
ي
ا
ة".
وأحسبُ، على اختلافِ كثيرٍ من خياراتنا يا صديقي الراحل، أن ما خلّفته خلْفكَ للحياة كثيرٌ: قريةٌ تنبضُ بقمحِها وجراحِها وكرومِها وملكاتِ نحلِها وانتسابِها ذاتَ حكمٍ عثمانيٍّ لسنجقِ غزّة... معتزٌّ بِكرٌ وشقيقاتٌ طالعاتٌ من أثوابٍ طرّزتها أمّهاتٌ فلسطينيات...
دواوينُ شعرٍ يقطرُ شموخَ صواريخٍ غاضبات... رواياتٌ من أوّلِ ثائرٍ وحتى عاشقاتِ سلوادٍ وأبْطال سلواد... سهراتٌ عامراتٌ بالأوْتارِ وبالأقمارِ خلّفتَ لنا قبسًا من أحمد أبو سليمٍ متناسلٍ من عتباتِ البيوت... يناورُ في كلِّ مرَّةٍ الموتَ فلا يموتُ ولا ينامُ، بل يواصلُ توثيقَ البطولةِ، وتكريسَ المقاومةِ خيارًا عقائديًّا لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفِهِ... هناك حيث البرزخُ وضّاءٌ بدمِ الشهداءِ الأحْياء... يهتفُ أحمد ها أنا أعودُ حيًّا شفّافًا إلى نخلةٍ في جذعِ صفد... إلى والدٍ وما ولَد... ها أنا أربّي على حوافِ الملكوتِ حدائقَ الخلود... ها أنت تضحكُ من بينِ القبورِ يا أحمد... تهزمُ الموتَ بالموتِ مثلَ كلِّ مسيحٍ فلسطينيّ... مثلَ كل عنقاءٍ طالعةٍ من حَواري البحرِ في يافا... في حيفا... ها أنت الآن زهرةٌ بلا جوازِ سفرٍ بِلا دمٍ بِلا ألمٍ بِلا أعْباء.