لا أذكر أين صادفت كلمة (الأَمْنَنَة - Securitization) أول مرة، لكنني فرحت بها، وشغفت، وأسكنتها سويداء القلب، لأنني رأيتها تعبر، بالبلاغة التي أحبها اشتقاقًا ولطفًا ودقةً، عما عشته كسوري من قبل أن يسودّ لي شارب، حين علمت من والدي الدركي ـ أي الشرطي بلغة النصف الثاني من القرن العشرين فما بعد ـ أنه شارك في اعتقال أستاذي لمادة الرياضيات لبيب عرنوق، لماذا؟ لأنه شيوعي. وكان ذلك في ليل ربيعي من ليالي طرطوس من عام 1959، في سياق الحملة التي أطلقها (المكتب الثاني) ضد الشيوعيين في الإقليم الشمالي (سورية) من دولة الجمهورية العربية المتحدة التي وحدت سورية ومصر من 22/2/1958 إلى 28/9/1961.
من يوم إلى يوم فيما تلا، حتى يوم لا يبدو قريبًا، أي منذ عشرات السنين، وإلى غدٍ ليس لناظرہ قریب، تغلغل الأمن بمختلف أسمائه وأشكاله في سويداء قلب الفرد والجماعة. كان الحديث يجري عن المخابرات، أو عن المكتب الثاني قبل عام 1963. ومنذ ذلك العام الذي استولى فيه حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في سورية، وفي العراق، أخذت كلمة الأمن تبتلع الأسماء القديمة، ابتداءً بأمن الدولة، أو الأمن العسكري، وليس انتهاءً بالأمن الصحي، أو الغذائي، أو الاقتصادي، أو الجنائي، فهل من كلمة تجمع كل الأسماء؟
شغلتني الكلمة المنشودة طويلًا إلى أن صادفتها، على الأرجح، في عرض صحافي لكتاب: هل هو كتاب سليم قسوم "الاتجاهات الجديدة في الدراسات الأمنية"؟ أم في عرض للموسوعة السياسية؟ أم في بحث، أو في خبر يتعلق بمركز البحوث الأمنية في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية؟ أم إن تلك الدرّة (الأَمْنَنَة) من بنات أفكاري ولساني اللغوي؟
كانت هذه الدرّة لي بالمرصاد كلما لهجت مثل غيري بنشدان الأمن والأمان. فالكلمة (الأمن) هنا هي من الأمان والأمان منها، وهذا ما تنشده الإنسانية جمعاء، فكيف بالسوري والسورية في زمن الاستبداد والطغيان، وما أطوله من زمن، وما أبأسه!
لأحدٍ، أو لإحداهنّ، إذًا، أن يستخدم الكلمة/ المصطلح (الأَمْنَنَة) بالمعنى الإيجابي تنسيبًا لها إلى الأمن والأمان. ولأن الروائية الصديقة سوسن جميل حسن فعلتها مرة، اغتظت وكتمت غيظي، وصرفت ساعات بحثًا عن أصل وفصل (الأَمْنَنَة). وغرت من أن يكون أولي ويفر أول من طرح عام 1995 مفهوم الأَمْنَنَة، ليجري خلفه علماء كوبنهاغن، وبخاصة صاحبه باري بوزان. ومما أفادني به البحث أن دراسة الأَمْنَنَة تقتضي دراسة الخطاب السياسي، وتقتضي دراسة النخب السياسية. حسنًا، والأَمْنَنَة تعني في ما تعنيه (اختراع) كل ما يبرر التدابير الاستثنائية، ويؤدي إلى القفز فوق المحددات القانونية والأخلاقية، مثل ماذا؟ مثل محاكم الإرهاب، أو محاكم أمن الدولة، أو الاعتقال عشرين سنة بلا محاكمة، أو التعذيب حتى الموت، أو إعلان الأحكام العرفية لمدة خمسين سنة، إلى آخر ما عاشته سورية.
قيل في الأَمْنَنَة إنها تحويل أي أمر إلى مسألة أمنية، فالقضايا التي (تُؤَمْنَن) ليست بالضرورة أساسية لبقاء الدولة. وقيل كثير في ما بين الأَمْنَنَة والعلاقات الدولية، لكن همّي هو في (سَوْرنة) كل ذلك، أي جعله سوريًا، أو بلغة بعضهم: تبيئته، حتى إذا (تَسوْرن) يجيء دوري كسوري، أو دورك كسورية في (تذويت) الأَمْنَنَة، ما دامت هي الهواء الذي نتنفسه في الأرحام. وأول هذا التذويت هو الخوف السّري المتستّر، المكنون في الدرّ، والذي ينبق حين يتوفر أدنى محرض، أو أي سبب، فإذا بالذي بلغ أربعين، أو ستين، سنة، صرفها ليكون له كتاب، أو عشرة، أو عشرون كتابًا، وقد بات شخصية اجتماعية، وكاتبًا معروفًا، لكنه يتصاغر ويتخافت أمام أي تعبير من تعبيرات الأَمْنَنَة إلى غدٍ ليس لناظره قريب!
لا أذكر متى كانت أول مرة، ولا أظن أن ذلك مهم بعدما تكرر وتكرر. ها أنا ذا في رحلة إلى تونس في 24/7/1985، عندما قلّب في جواز سفري موظف الجوازات في مطار قرطاج/ تونس، متشككًا، ثم أمرني من دون أن يرفع عينيه عن الجواز بأن أقف جانبًا. تنحيت، وهوّنت على نفسي، فأنا قادم من سورية التي تعودنا فيها على مثل هذا الجفاء، أو الازدراء، ممن هو أدنى من موظف الجوازات في المطار، أو في المرفأ، أو على الحدود البرية. وطال انتظاري حتى لم يبق أمام الموظف أحد سواي، لكني لم أجرؤ على الاقتراب منه حتى أشار لي. أليس هذا بدليل قاطع على حُسْن تربيتي الأمنية؟
رماني الموظف وهو يبرز الجواز المغلق بالسؤال: أنت فلسطيني؟ أقسم بالله العظيم أنني وددت أن أقول له: نعم، فقد كنت لا أزال مسكونًا بما فعلت إسرائيل في بيروت عام 1982. لكنني نفيت التهمة بحماسة، هزّ الرجل الجواز في وجهي سائلًا: وهذا؟
ــ جواز سفر سوري، والفلسطيني في سورية يحمل وثيقة سفر، وليس جواز سفر.
تجاهل حذلقتي وفذلكتي، وسأل وهو يخبط بالخاتم على الجواز:
ــ من تعرف من الفلسطينيين في تونس؟
ــ لا أحد.
قلت كاذبًا، وقد استشعرت ما في سؤال الرجل من هذه التي سيعجبني اسمها بعد عشرات السنين ــ أعني: الأَمْنَنَة. وسرت إلى حيث حقيبتي تنتظر وأنا أعدد الأصدقاء الفلسطينيين الذين قذفتهم حرب 1982 إلى تونس، وكنت قد التقيت عددًا منهم قبل ثلاثة أشهر في معرض الكتاب في تونس: يحيى يخلف، وأحمد دحبور، ورشاد أبو شاور، وطلال حماد، وليانة بدر، وتوفيق فياض، و... وهذا الذي طال انتظاره لي: صديقي وجاري منذ أقمت في حلب عام 1972: أبو أيمن محمد قدورة.
في غمرة عناقنا، تلفّتّ مرتابًا، فماذا لو أن ذلك الموظف يراقب هذا العناق بين السوري والفلسطيني؟ وبعد خطوات صافح أبو أيمن الدكتور الفلسطيني، أيضًا، أسعد عبد الرحمن، وقدمني له، وإذا بنا نتعانق، وفي غمرة عناقنا تلفّتّ مرتابًا، ثم رأيتني أكتم ضحكتي وأمنع لساني من أن يمتد ساخرًا من ذلك الموظف.
ذات صيف رمضانيّ، خفقتُ جناحيّ وطرت من مطار هوّاري بومدين في الجزائر إلى مطار شارل ديغول في باريس، متدرعًا حقيبة سامسونايت سوداء دأبت على حملها منذ بدأت التدريس في دار المعلمين بحلب، طلبًا للهيبة.
كنت مشوقًا إلى باريس، التي لم أزرها منذ سنوات. وقد دفعني الشوق إلى أن أكون من أوائل من وصلوا إلى الجوازات. لكن شابًا بالغ الطول والأناقة ـ رأسي لا يوازي كتفه ـ حياني همسًا وطلب مني أن أتبعه. ترددت ثوانٍ، لكن قدميّ جرّتاني خلف الشاب. بعد لأي انعطف من الصالة إلى ممر. أشار الشاب إلى باب غرفة مفتوح. دخلت وإذا بامرأة تتصدر الغرفة خلف مكتب صغير. تبادلا كلمات أغاظتني، فالشاب يشك في حقيبتي، والمرأة السمراء تنقل نظراتها المرتابة بيني وبين الحقيبة، ثم تطلب جوازي، وتسأل عن البلد الذي قدمت منه. انصرف الشاب وقد بدأت أغالب قلقي وغيظي. أمرتني المرأة بأن أضع الحقيبة على المكتب. نفذت، فأمرتني بأن أفتحها. قلت: مفتوحة افتحيها أنت، وفتحتُها. ليس في الحقيبة غير أوراق ودفتر ونسخ من رواية أو أكثر من رواياتي. أمرتني المرأة أن أخرج ما في الحقيبة، وراحت أصابعها تجسها بحذر، ثم بقوة، ثم أشارت، فأعدت الأشياء إلى موضعها، وتلقفت الإشارة الآمرة بالانصراف.
بعد أيام في باريس قصدت مدينة (ليل) لزيارة ابنتي كندة. ولأن (ليل) جارة بروكسل أسرعت إليها. وفي ختام نهار وشطر من ليل ناديت القطار في محطة بروكسل ميدي متخمًا بالبيرة البلجيكية والشوكولا والفطائر بعد أن طوّفت حتى العياء: هذا المانيكن بيس، وهذه الجراند بلاس، وهذا متحف الآلات الموسيقية، وهذا المتحف الملكي، وهذا البارلامينتاريوم، وهذا الأتوميوم، وهذا رذاذ يعطّر الحدائق على مدّ النظر وتعطّره، وهذا طابور طويل وبطيء يجعل القطار أبعد فأبعد، والمحطة في يوم الحشر، لماذا؟ لأن البوليس يدقق في جواز سفر المسافر، وأصابعك تتلمس الجواز مرة داخل جیب السترة، ومرة من الخارج، وخَفْقُ صدرك يلهث مرة ويضطرب مرة، فلماذا وأنت لست في دمشق، ولا اللاذقية، ولا في سورية كلها؟
بعد سنوات، وصلت إلى مطار هيثرو في لندن قادمًا من دمشق بصحبة حسين العودات، وروزا ياسين حسن، وثائر ديب. وقفنا في الطابور الطويل باتجاه الجوازات. على أمتار من وقفتنا ينتصب قفص كبير، ويقف أمامه ثلاثة، أو أربعة، من الشرطة، أو الأمن. تنبهنا إلى أن أحدهم يختار مسافرًا ما من الطابور ويدفعه إلى القفص. لماذا؟ يتقلب الجواب دقائق إلى أن يخرج المسافر مربدًّا. فجأة، أشار لي شرطيّ. تشككت في الإشارة لكن أحدهم نبهني. جررت خطواتي نحو الشرطي والقفص، وإذا بثائر ديب يصيح عاليًا وضاحكًا: نبيل مشبوه. ليس معنا. لا نعرفه ولا يعرفنا. نبيل شبهة. دخلت القفص وإذا بشرطي ينتظر. أغلق القفص وأمرني بخلع ثيابي. خلعتها ما عدا السروال، فأمرني بخلعه، وصرت بين يديه عاريًا، وبدأت أوامره: ارفع ذراعيك، اطو خصرك، أدر ظهرك، أعوذ بالله، ما هذا؟ قال حسين العودات: يأخذون عينات جزافًا من المسافرين. هذه آثار تفجيرات 11 سبتمبر.
لماذا أنا؟ الأمن يحبك. سألت وأجبت وانكتمت. من قبل كان لك ما كان في فرع أمن الدولة في اللاذقية من أجل روايتك "جرماتي"، وكان لك ما كان مع أمن مطار القاهرة من أجل كتب فرحان صالح ودار الحداثة. وها أنت مثار الريبة في مطار قرطاج، وفي مطار شارل ديغول، وفى مطار هيثرو. ها أنت ترتعد في محطة بروكسل ميدي، لكن (الخير لقدّام). الأَمْنَنَة قادمة، فافتح ذراعيك واحن هامتك كما يليق بمن بلغ الثمانين، وقد بات له اثنان وستون كتابًا، ويصل الليل بالنهار من أجل كتاب جديد، لكنه يتصاغر ويتخافت أمام أي تعبير من تعبيرات الأَمْنَنَة.
إذا كان تنسيب الأَمْنَنَة إلى الأمن والأمان باطلًا، فالصحيح هو تنسيبها إلى كلمة من غير جنسها، أقصد كلمة (الطغيان). فالأَمْنَنَة من الطغيان كما هو الوليد من أمه وأبيه. وأنقل هنا من مقدمة كتابي "طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد"، الذي صدر في الدوحة عام 2018، ما أختم به حديث الأَمْنَنَة: "لقد كان الطغيان، ولم يزل، وسيبقى، إلى أن أعبس وأتولّى، هو الهواء الذي تنفسته، وأتنفسه، وسأتنفسه، شأن أي منكم ومنكنّ، في البيت والمدرسة والوظيفة والحزب والتجارة والحب ـ أجل، الحب ـ والكتابة والقراءة والفنون والعقائد والمظاهرة والسجن و... وسائر أجناب الحياة، كما في التاريخ، وكما في المستقبل المنظور، كيلا أقول: المستقبل بإطلاق. ولأن الطغيان هو كذلك، فقد كان دافعي العمومي والشخصي إلى الكتابة".