}

الٳلهام الأخير

طارق عباس زبارة 5 يونيو 2025
قص الٳلهام الأخير
لوحة للفنانة تسنيم بدر

 

استيقظ المهندس سمير مبكرًا - كالعادة- في الساعة السادسة صباحًا، نهض من سريره واتجه نحو الحمام ليغتسل ويحلق ذقنه. أيقظ زوجته بضجته، فنظرت إليه مستغربة ثم قالت:

- إلى أين أنت ذاهب؟

- إلى العمل، أجابها مستنكرًا سؤالها.

- أنت متقاعد منذ الأسبوع الماضي. تعال ونم واترك الناس تنام، قالت له بنبرة نعسانة. استدارت، لفَّت اللحاف حول جسمها ثم اختفت تحته في محاولة أن تواصل نومها.

وقف المهندس سمير محتارًا وسط الغرفة.

"أنت متقاعد منذ الأسبوع الماضي". كانت لهذه الجملة رنة سيئة على أذنه. شعر بحزن يزحف إلى قلبه، وكأن طائرًا شريرًا غير مرئي هبط وفرد جناحيه الثقيلين على صدره.

كمْ كان المهندس سمير يكره عمله في السنين الأخيرة. يكره المديرين الآخرين، الذين كان معظمهم يصغرونه بسنين كثيرة. والذين كانوا يشعرونه بأنهم متفوقون عليه. ولا يفوتون الفرصة لتقديم تعليق ساخر أو نكتة على حسابه. يلقبونه بالديناصور، يتهامسون عنه. يتهمونه بأنه لم يعد قادرًا على التأقلم مع العالم الجديد، مع التقنية‏ والكمبيوترات.

ألا يدركون أنه المهندس سمير، نخبة جيله، الذي درس في الخارج وعاد بشهادة وخبرة إلى البلاد. آه كمْ كانت هذه الأيام جميلة، عندما رجع إلى وطنه والناس كلها تكن له الاحترام والتقدير. كان الأول على دفعته، قادرًا على أن يحصل على أي عمل؛ فهو المهندس سمير، المتخصص المرغوب.

لكن يبدو أنه خلال الأعوام الأخيرة لم يعد أحد يهتم به، ولا أحد يطلب خبرته...

كمْ كان يتمنى أن يقول لهم: اذهبوا جميعًا إلى الجحيم، سأجد عملًا آخر، لكنه لم يفعل ولم تكن لديه حتى الجرأة على البحث.

والآن ها هو في البيت... "يا إلهي ماذا يمكنني أن أفعل طوال اليوم؟" فكر في نفسه. كمْ ضجر من مشاهدة التلفاز وكم مل القراءة. في المقهى لم يجد أصدقاءه، بل وجوهًا غريبة عنه، وجوه الجيل الجديد الذي لا ينظر إلى جليسه بل يحدق في هاتفه الجوال.

عرض على زوجته أن يساعدها في أعمال البيت، لكنها رفضت شاكرة. ‏

ها هو يقف كالأبله وسط الغرفة يحدق بزوجته النائمة... "كمْ كبرت مؤخرتها"، فكر في نفسه!.

ذهب بهدوء إلى الحمام مرة أخرى، بدون أن يوقظ زوجته، نظر إلى المرآة، رأى فيها رجلًا كبير السن، عجوزًا!!! "هذا ليس أنا، أنا شاب صغير، وسيم، شعري كثيف ومجعد لست أصلعًا وشعري ليس أبيض..."! قال لنفسه.

اتجه نحو الشرفة وفتح بابها. خرج يراقب الناس والحياة الصاخبة التي تتحرك وتدور دونه. كل هذا الكون يخطو وهو واقف على الشرفة لا يؤخر ولا يقدم شيئًا...

في الأيام الأولى من تقاعده توقع أن يتصل به زملاؤه أو الموظفون الذين كان يترأسهم، أولئك الذين كانوا يلقون عليه المجاملات كل يوم عندما كان مديرهم:

"أهلا بك يا سعادة المدير"، "مرحب أستاذ سمير"، "حاضر مهندس سمير...".

والآن، لا أحد يكترث. حتى مكالمة هاتفية واحدة، تافهة، يقولون فيها كلمتين مثل "كيف الحال؟" أو "كيف الصحة؟" تصعب عليهم. بعد كل هذه السنين من العشرة... حتى فراس، الذي كان كثير المجاملة له حد التملق، لم يعد يبالي به ولم يتصل ولو مرة واحدة ليسأل عنه، ونجيب ذلك الفتى الشاب الذي يحل محله، وتولى رئاسة القسم بتوصية منه لم يتصل. تذكر أن نجيب شكره كثيرًا عندما أخبره أنه استلم رئاسة القسم بناء على توصيته. تذكر أنه قال له آنذاك إنه يعتبره مثل ابن له، هل من المعقول أنه لم يسأل عنه خلال الأسبوع الماضي!

‏قد يكونون مشغولين بحياتهم الصاخبة، وليس لديهم الوقت كي يسألوا عن عجوز متقاعد، لا بد أنهم سيجدون الوقت في المستقبل للسؤال عني، لا بد من ذلك.

عاد من الشرفة إلى الداخل واتجه متكاسلًا نحو الأريكة.

فجأة سمع صوت أجنحة ترفرف خلفه. استدار ورأى طائرًا كثير الألوان يحط بجانبه على الأريكة. "لا بد أنه دخل من باب الشرفة المفتوح" فكر في نفسه!. ثم بدأ يحرك يديه في اتجاهه ليطرده: - كش، كش!

لكن الطائر نظر إليه بدون أن يحرك ساكنًا. فرد جناحيه وبدأ يستعرض جماله. تراجع المهندس سمير وبدأ الخوف يدب في قلبه من هذا الطائر الغريب. لكن سرعان ما توقف الطائر عن الاستعراض وقال:

- ما لك مرتبك هكذا يا سمير؟ نظر المهندس إلى الطائر وكأنه لا يصدق ما سمع. تطلع حوله ليتأكد أن مصدر الصوت لا يأتي من أحد آخر في الغرفة. استطرد الطائر:

- لا تتعب نفسك، أنا المتكلم! زاد توتر المهندس سمير وبدأ يحرك يديه باتجاه الطائر محاولًا هشه إلى الشرفة. لكن الطائر فرد جناحيه مرة أخرى وبدأ يصدر صريرًا عاليًا أفزع سميرًا فتراجع. وهو يسمع الطائر يقول:

- كم أنت جبان يا سمير! لا تقدر إلا على من هو أضعف منك وتتراجع عندما ترى القوة.

نظر المهندس إلى الطائر غير مصدق أنه يتكلم. لكن الطائر واصل كلامه قائلًا:

- اجلس يا جبان هنا بجانبي على الأريكة، أريد التحدث إليك.

تقدم المهندس المرتبك بخطوات حذرة ثم جلس صامتًا بجانب الطائر.

أراد الرجل أن يسأل شيئًا ففتح فمه، لكن الطائر لم يتح له الفرصة، بل بادره قائلًا:

- إنك تريد أن تسألني من أنا ولماذا جئت أليك، أليس كذلك؟ هز المهندس رأسه موافقًا، بدون أن ينبس بكلمة. فقال الطائر:

- أنا طائر الموت، جئت لآخذك معي إلى العالم الآخر. قفز سمير مفزوعًا من الأريكة وتراجع إلى الخلف حتى لامس ظهره الحائط. نظر الطائر إليه وقال:

- أتظن أنك ستهرب من الموت يا جبان!

جمع المتقاعد كل شجاعته، رفع سبابته وقال:

- كف عن نعتي بالجبان، أنا لست جبانًا!!!

- على من تضحك يا سمير؟ ألا تظن أنني أعرفك بما فيه الكفاية؟

خيل لسمير أنه يرى ابتسامة على وجه الطائر الذي واصل قائلًا:

- أنا لم آت لأعكر مزاجك، بل جئت كي آخذ روحك فقط. لكن قبل أن أفعل ذلك أريد أن أفتح عينيك على حقيقة وجودك في هذا الكون، وكي تعرف مكانك الحقيقي فتجد راحة بالك...

- أنا من كبار المهندسين في هذه البلاد وخدمت بلادي بإخلاص كل هذه السنوات، حتى تقاعدتُ والكل يحترمني ويحبني، قال المهندس بنبرة فخر.

- هل أنت متأكد؟ خيل للمهندس أنه يرى ابتسامة خبث في وجهه، فأجاب:

- نعم، ولماذا تشك في ذلك؟

- أين هم إذًا؟!

- من تقصد؟!

- الذين يحبونك ويحترمونك.

شعر المهندس سمير بغصة  في قلبه. "يا له من كائن لعين" فكر في نفسه. "لقد طعنني بمهارة في نقطة ضعفي". لكن سميرًا لم يستسلم فأجاب:

- الناس في هذه الأيام ناكرة للجميل ولا تحب إلا نفسها، لا أحد لديه وقت يقضيه مع الآخر. هذا هو الزمن...

- ألم يدر في مخيلتك أن الناس قد تعبت منك ومن عنادك الذي أصبح لا يطاق في الأعوام الأخيرة؟

- هذا غير صحيح، أنا من درّب الكوادر الجديدة وأعطاهم فرص التقدم في عملهم.

- وبهذه الحجة أهنتهم وأنزلت من قيمتهم أمام الإدارة، ووضعت عقبات في طريقهم كي لا يتقدموا في وظائفهم، بدلًا من أن تساعدهم؟

- الكثير منهم لم يكونوا أكفاء لتلك المناصب...

- بل كانوا أفضل منك ولذلك داهمك الحسد، وكرست كل جهودك لتبقى أنت الأول والأهم، وألا يصل أحد إلى منصب أعلى من منصبك. وعندما تكتشف أن أحدهم مقرب من الإدارة أو له علاقات مع شخصيات هامة، تبدأ تتملقه.

صمت سمير. كانت هذه هي المرة الأولى في حياته التي يخاطبه أحد بهذه الصراحة. زوجته تستمع إلى شكواه الكثيرة من العمل بصبر، تقول له إن عليه التعايش مع الأوضاع الجديدة. ابنته تردد: - اترك العمل وارتاح. لكنها لا تبدو مستمعة إليه. أصدقاؤه يلوكون قصص شبابهم وصباهم وينتقدون الجيل الجديد. لم يتجرأ أحد حتى الآن أن يطعن تلك الفقاعة بدبوسه ويقول له: - يا سمير المشكلة تكمن فيك أنت، لا غير! وها هو أمام هذا الطائر الغريب الذي يقرأ ما يخفي في باطن روحه...

- وماذا تريد مني أن أفعل الآن؟ أنا متقاعد والجميع نسى أمري. الكل يحوم الآن حول المهندس نجيب الذي أمسك زمام الإدارة بعدي. هل هو أفضل مني؟ لا أعتقد. الكل يتملق من فوقه ويتعالى على من تحته. هذه دوامة الحياة.

- لكن أنت كنت القدوة وكانت لديك الفرصة لتغيير الكثير ولم تفعل. بل على العكس: زدت الطين بلة بسلوكك الإداري السيء.

شعر سمير بألم شديد في قلبه، وغمره نعاس ثقيل. أغمض عينيه ورأى المهندس نجيب جالسًا إلى مكتبه وهو يرفع له الإصبع الوسطى مبتسمًا ابتسامة وقحة، ثم حل ظلام كثيف...

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
5 يونيو 2025
قص
22 سبتمبر 2023
يوميات
18 يونيو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.