احتفالات آخر الصيف هي الأجمل بالنسبة لنا نحن الأطفال، وأقصد بهذه الاحتفالات، الفترة التي يصنع فيها أهالي المخيّم مونتهم. ففي نهاية الصيف، تبدأ البندورة بالتلف، وكذلك المشمش، هاتان المادتان الأساسيتان اللتان يتشكل منهما تموين الشتاء. وحتّى نحصل على هذا التموين، يجب جمع أي قطعة حطب، من باب أو شجرة أو عمود، أو صندوق تالف، المهم أن تكون قطعة الخشب صالحة للاحتراق. يجمع أهل المخيّم هذه القطع الخشبية طوال العام، حتّى يأتي وقت، تكون فيه البندورة والمشمش، لا سيما ذلك المسمى مشمش كلابي، وهو مشمش صغير ببذور مرة، على عكس المشمش البلدي، وهو مشمش كبير ببذور حلوة، والأول أرخص كثيرًا من الثاني. يقوم أهالي المخيّم مجتمعين بهذا الطقس، حيث يتم إخراج القطع الخشبية التي جُمعت طوال العام لصناعة رب البندورة، وتُشعل النار تحت قدر كبير يدعى "اللجن" توضع فيه كميات هائلة من البندورة التي تم عصرها، وتصفية هذا العصير من الشوائب، ووضعه على النار لتحويل السائل إلى معجون. يبقى المعجون يغلي لوقت طويل، وعندما يتماسك، يوضع في أقدار مسطحة اسمها "السدر" وتنشر في الشمس لأيام حتّى تتحول إلى معجون، وبعدها يتم نقلها إلى مرطبانات زجاجية، ويوضع على وجهها بعض الزيت لحفظها، وتترك لتستخدم في الشتاء. وكذلك الحال بالنسبة للمشمش الذي يوضع في اللجن ذاته، بعد الانتهاء من تحضير رب البندورة. وتوضع على النار ذاتها، كميات كبيرة من المشمش منزوع البذرة، مع كميات كبيرة من السكر، الذي يبقى يغلي على نار الحطب، حتّى يتماسك المشمش والسكر، ويتم نشره في سدور أيضًا حتّى يجف. تُغطى بقطع الشاش القماشية لإبعاد الحشرات عن هذه السدور، التي تبقى عدة أيام على سطوح المنازل لإبعادها عن عبث الأطفال. وكانت حصتنا نحن الأطفال من هذا الاحتفال، أننا طوال الوقت نأتي بالبصل والبطاطا، ونلقيها في الجمر القابع تحت القدور، ونلتقطها، ونأكلها ونحن نتلسوع بحرارتها الهائلة.
لم يكن هذا الكرنفال الذي يعلن عن اقتراب انتهاء الصيف بدون المكملات التي تجري على هامشه، هناك عدة مهن، تأتي خلال هذا الكرنفال، وهي مهن: مبيض الطناجر والمجلخ وسيارة طحن الملابس.
كان النوّر يتوجون الكرنفال، ينشرون المرح في المخيّم، رجالهم، يغرون الأطفال بتركيب أسنان ذهبية بمبالغ زهيدة، وهي عبارة عن قشور ذهبية توضع على سن الطفل منا، الذي تتوسع ابتسامته وتصبح دائمة حتّى يرى الآخرين السن الذهبية التي يتباهى بها، وسرعان ما يصبح كل أولاد المخيّم بأسنان ذهبية، تنفرج أسنانهم عن ابتسامة عريضة، وينفخون صدورهم وكأنهم أبطال أولمبيون، أما أنا فلم أكن أستطيع الاحتفال معهم باستعراض الأسنان الذهبية، لأن أسناني كانت مفشكلة، لم أكن أخجل منها، إلا أنها لم تكن تصلح لاستعراض السن الذهبية. أما نساء النوّر، فكنَّ يضربنَّ الودع، لمعرفة مستقبل سكان المخيّم البائسين، لم يكن للنساء الأكبر سنًا في المخيّم أي اهتمام في معرفة مستقبلهم، لقد كان أمامهنّ يتعثرنّ بوحله، وهنَّ يعشنَّ في دخان المخيّم في الوقت الذي تأتي النوّريات لكشف طالعهنَّ الذي لا يحتاج إلى كشف، فهو مستقبل عار تمامًا من أي خيّال، وروتين المخيّم القاسي سيرافقهنَّ إلى القبور. المسألة مختلفة مع فتيات المخيّم، فهن حريصات على كشف الطالع عن مستقبلهن، ويحتجنّ أكثر إلى الأحلام التي تبثها النوّريات في مستقبل وردي لفتيات المخيّم، واللاتي يبقينّ لأشهر يحلمنَّ بالفارس الذي سيأتي من وراء الشمس ليخرجهنّ من جحيّم المخيّم وطينه إلى جنان فارس الأحلام، الذي ينتظر وينتظر ليكتشف فتاة أحلامه في المخيّم. كانت الفتيات يَحتلن على أمهاتهن لتعطيهنّ بعض المال للكشف عن المستقبل، والأمهات تحاولنَّ ردع بناتهمن عن رمي المال في كلام فارغ. لكنهن سرعان ما يستسلمنَّ لإلحاح بناتهنَّ ويمنحنَّ بعض المال، ويتمنينَّ لهنَّ أن يتحول، ما يقوله ودع النوّرية، إلى حقيقة لبناتهنّ. تذهب الفتيات بالنوّريات اللاتي سيكشفن طالعهنَّ بعيدًا عن أمهاتهنَّ وعن الأطفال الفسادين الذين يقولون ما يسمعون لأمهاتهنَّ. فأشد ما تصبو فتيات المخيّم إلى معرفته، هو أي فارس أحلام سيأتي ويخرجهنّ من هذا المكان البائس؟ ولأن النوّريات يبعن هذا الحلم لكل فتاة في البلد، وليس في المخيّم فحسب، فهن يملكن قصصًا سعيدة جاهزة، يوزعونها على فتيات المخيّم السعيدات بمستقبلهنّ المشرق. كانت النوّريات تنشرن السعادة على الفتيات اللاتي بدوهن ينشرن السعادة في محيطهنّ، خاصة عندنا نحن الأطفال، الذين يتحول تعامل أخواتنا المراهقات والشرسات فجأة، إلى ملائكية ونبالة، لا نعرفها طوال العام، قد لا يطول هذا التعامل الجديد، الذي تقتبسه الفتاة من مستقبلها التي قرأته النوّرية، والذي وزعته على بنات المخيّم بوصفهن أميرات قادمات، وتحاول الفتيات تقليد مستقبلهنّ، فنستفيد نحن الأطفال من لطافة تدوم بعض الوقت، تصل حد القُبل العنيفة والهدايا من أخواتنا وصديقاتهن احتفالًا بالمستقبل الغامض. وأختي كانت مهووسة في معرفة مصيرها، والتي لم تترك أي فنجان قهوة، إلا وجدت من تنظر فيه مستقبلها، لم تكن تكتفي بنوّرية واحدة لتعرف مستقبلها، لتتأكد من أنها ستترك المخيّم الذي تكرهه وإلى الأبد، طبعًا جميع النوّريات باعوها نفس البضاعة، التي باعتها لها النساء اللاتي نظرن في فناجين قهوتها، وسمعت أجمل الاحتمالات لمستقبلها والأكثر تنوعًا، وعندما تزوجت إلى أميركا بعد سنوات طويلة، تذكرت أن واحدة من النوّريات تنبأت لها بهذا المسار. لم يكن ترهيب أهلنا يردعنا نحن الأطفال، لمنع رجال النوّر من زرع أسنان الذهب في أفواهنا، ولا الفتيات من السماح للنوّريات بقراءة مستقبلهن، بالقول أن النوّريات يسرقن الأطفال، ويطلبون منّا ألا نقترب منهم، حتّى لا يفقدونا ولا يعرفون طريقا لاستردادنا، لكن كل ذلك لا يسري في كرنفال التموين السنوي.
كان النوّر يأتون في كل موسم، ويخيمون على أطراف المخيّم، وعندما ينتهي حصادهم من المخيّم، ولا يعود هناك من يدفع لهم المال، يهدمون خيامهم ويرحلون إلى مكان آخر ينشرون فيه الفرح وينظرون في مستقبل أخريات في أماكن أخرى. وفي أحد الأعوام، جاء النوّر، ولم يغادروا، بقيّ مخيّمهم لوقت طويل، ودار العام دروة كاملة ولم يغادروا المكان، خيام إلى جانب مخيّم، لم يكن شيئًا غريبًا، فكلنا نعيش في الهامش الذي لا يرغب أحد في المدينة مشاهدته. مع الإقامة الدائمة، أقام النوّر علاقات حسنة وغير حسنة مع الجوار. واكتشفنا أن النوّر مثل باقي البشر، فيهم الجيد وفيهم السيء، ومنا من وقع في غرام النوّريات الجميلات الجامحات، اللاتي يحطمن كل الحدود، ومنا من أمسك بغرامه، ولم يتركه، وتزوج حبيبته النوّرية، ومنح أولاده عارًا دائمًا، بأنهم أولاد النوّرية، وأصبحت الشتيمة تنطبق على الواقع، ولم تعد مجازًا. والإقامة الدائمة في المكان، والتوقف عن مسيرة الرحيل التي لا تنتهي، احتاجت أن يجد هؤلاء صيغة ما تجعلهم جزءًا من المخيّم، وخاصة أن جزءًا منهم بدأ ينتقل من السكن في الخيام إلى السكن في البيوت الاسمنتية. فكان أن فعلها مختار المنطقة، وجعلهم فلسطينيين، لا أحد يعرف كيف فعل ذلك، كم من المال قبض الرجل على جعل النوّر لاجئين فلسطينيين، لكنهم أصبحوا لاجئين فلسطينيين ومن بلده لوبية التي ينتمي إليها المختار الذي منحهم الجنسية الناقصة. ما لم يحسب النوَّر حسابه بحصولهم على الجنسية الناقصة، هو أنهم سيستدعون للخدمة العسكرية أسوة بإخوتهم اللاجئين الفلسطينيين الذين يخدمون عسكرية في مقابل منحهم حق العمل في البلد البائس، ولأنهم قبلوا بحمل جنسياتهم الناقصة، فهي لم تعطيهم حق العمل، بل منحهم وضعهم الجديد واجب خدمة العلم فقط، وردًا على الخازوق الجديد الذي صحوا عليه، هناك منهم من فرَّ حتّى لا يذهب إلى الخدمة، وهناك من أجبر على إنجازها، وكانت حجتهم أنهم لم يتفقوا على ذلك مع المختار، كان الرد عليهم: القانون لا يحمي المغفلين.
(جزء من نص طويل)