تتضمن مقالتي هذه، ثلاثة نصوص، الأول مقدمتي لمجموعة (رصيف) التي يسوغ لي إعادة نشرها أن فراس لم يضمنها الطبعة الثانية من المجموعة، أي أنها ما عادت موجودة. والثاني نص كتبته، ولم يتح لي نشره، ردًا على تقرير اتحاد الكتاب برفض مجموعة فراس سليمان، التقرير الذي، للأسف، أضعته لا أدري كيف. وأحسب أني بهذا أقدم شهادة ما عن طبيعة نشر الشعر في تلك المرحلة التي تمثل المنعطف الأهم للشعر السوري الجديد، والثالث القصيدة الخاصة بفراس في أنطولوجيتي (منذر مصري وشركاه) دار الغاوون 2010. التي أعدها خاتمة جامعة لكل الموضوع.
1- أحزان سورية مشبوهة:
مشاركتي الأولى مع فراس، لم تكن شعرية، بل كانت لوحة غلاف باكورته (المدينة التي أسكنها بعيدة)، إصدار خاص 1989. وبسبب ما وجدته نبوئيًّا في العنوان وفي القصائد على حد سواء، اخترت رسمًا لي، أتصنع به حركة يد بوذية! ما رأى فيه أحدهم، بعد هذا بعقدين من السنين، دليلًا على نرجسيتي القاتلة. أما مشاركتي الثانية، بناء على طلبه أيضًا، فكانت مقدمتي لمجموعته الشعرية الثانية (أحزان مشبوهة)، وقد اشترطت وزارة الثقافة تغيير عنوانها! فالوزارة لا تحبذ هذه العناوين السوداوية! الأمر الذي نقله لي الأستاذ أنطون مقدسي شخصيًّا بأنه إضافة لكل الأسباب التي منعت الوزيرة من أجلها مجموعتي الشعرية (داكن)، فإنها لا تحب عنوانها! إلّا أني، بعد نشر الكتاب بعنوان بديل (رصيف)، وجدت أنهم كانوا محقين تمامًا في هذا، فأنا نفسي رحت أربط (أحزان مشبوهة) بالأحزان الرسمية التي عمت البلاد لسنين عديدة إثر موت باسل الأسد!
2- ثمة حلم يخرج من كتاب:
منذ أيام، كنت أقف، أنا وصديق لي(*)، أمام خريطة كبيرة للعالم معلقة على الحائط. ألوف من أسماء المدن والبلدات انتشرت في كل بقعة وزاوية. عند الشاطئ الشمالي الشرقي البعيد للاتحاد السوفياتي هناك مدينة، ربما مدينة صغيرة، اسمها (تاباك): "ترى هل يوجد شاعر في هذه البلدة؟". "بالتأكيد" أجابني.
حيث يجتمع البشر، يصعد الدخان، ويولد الشعر. لا تعرف كيف يولد الشعراء، ارم بذرة الشاعر، فوق صخرة، تنبت. في الرمل تنبت، في الهواء... ولكن هل هم أشجار باسقة؟ أو حتى زهور منسقة في الحدائق؟ لا، ليسوا. هم أقرب للأعشاب البرية التي يسمها البعض، ضارة! لا لشيء سوى لأنها تحيا وتعاند لأجل بقائها. تنمو وتنتشر، دون نظام ظاهر، كأسماء تلك المدن، على جوانب الطرقات، وتحت الجسور، في الأراضي البور تورق وتزهر، وأيضًا في مواجهة حب كحبنا، بجانب الزهور تخرج الأشواك.
عندما بدأت بقراءة قصائدك، كان أول ما شعرت، أول إحساس تولد بي، هو، أنك شبيهي، عشبة برية أخرى. لذا وأنا أكمل قراءة المجموعة، كنت أبعد ما أكون عن الناقد، عن جهاز في مخبر للكشف عن الشاعرية، كنت أقرأ لأفهم وأشعر لا لأحكم. كنت أقرأ تشابهي معك واختلافي عنك، تشابه البشر العجيب واختلافهم العجيب في ذات الوقت! من العنوان، والاستشهاد بمايكوفسكي : "لن نستأجر أحدًا ليغني عصرنا"، علمت بأني أقرأ لشاعر حقيقي، شعرًا سأحبه وأبتهج به. وهكذا توالت القصائد عما يهمك ويهمني ويهم الآخرين، عما تشعر به وأشعر به، عما يمر بك ويمر بي. قصائد عما تراه العين، وتسمعه الأذن، وتلمسه اليد. أو ربما عما تخال العين أنها تراه، والأذن أنها تسمعه، واليد أنها تلمسه وتمسك به. عما يحدث أو يمكن أن يحدث، وربما ما لا يمكن أن يحدث سوى في الشعر. أذكر قصيدتك:
"أنا والمرأة الحسناء
على سرير واحد
لم ألمسها
المرأة بكت
فجأة... خرج طفل من الوسادة
أطلق علي الرصاص"...
ثم كيف أنسى أن تلك المرأة لم تكن حبيبتك، ولم تكن أنثى عابرة، بل كانت... القصيدة!... أنت قلت: "القصيدة شوكة. القصيدة انفجار الأصابع. القصيدة كفلة عارية تركض وراء جديلتها. القصيدة سكين. القصيدة جسد تسد به ثقوب النهار والليل. وهكذا عندما تضيق عليك ترتكب الأحزان، وعلى حواشي روحك، تنبت أظافرها". وإذا قلت لك: هذا أيضًا لن أنساه. فسوف يظن البعض أني كغيري من كتاب المقدمات، أسوق ما أجده جميلًا من هنا وهناك في المجموعة، ولكن ما عساهم يقولون، وأنا، خلال الأيام الماضية، كلما زارني صديق، أجلسه أمامي وأقرأ له:
"حفرت قبرًا
وقلت: ما أجمل الحياة"...
ثم أحملق في وجهه أنتظر وقعها عليه.
في قصائدك يا فراس، وهذا ما أردت قوله منذ البداية، رغم كل الانكسارات والأحزان ثمة حلم بانتصار. ورغم أن خيارنا كان دائمًا الجانب المعاكس للمنتصرين، إلّا أنه انتصار يشير إلي ويطلب مني أن أعلنه... انتصار الشعر، الشعر الحقيقي، شعر الحياة. ففي قصائدك يا فراس الدليل بأن شعر الخطابات والادعاءات والفصاحة والافتعال قد مضى، وإن لا أستطيع القول إنه مضى إلى غير رجعة، فإني أقول، بأنه بات لا أكثر من بقايا أطلال.
وإذا خطر لي الآن أن أردد: "أمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" فربما أشعر أني بدوري مدع وقاس، ولكني لست. لأنه كما أنت تقول:
"تريد أن ترى امرأة تقترف جريمة
طفلًا يشنق عصفورًا
شاعرًا يلوك قلبًا
مهلًا..
أعرف أنك لست قادرًا على الإيذاء
أنك تحلم بحياة أفضل"...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 17/5/1989
هناك قصتان أحب أن أذكرهما لكم، تعقيبًا على هذه المقدمة. الأولى، إن الصديق (*) الذي أشرت له في السطر الأول، كان أحد زملائي في العمل، وكان شاعرًا أيضًا، إلّا أني حدست من خلال أحد التحقيقات معي تلك الأيام بأنه يكتب تقارير أمنية عني. فصارحته بهذا. ولدهشتي، لم ينكر. ولكنه أعقب: "عليك أن تعلم أني أؤذي ابني ولا أؤذيك"! وكان صادقًا.
أما القصة الثانية، فهي أقل دراماتيكية من الأولى، أن صديقي محمد كامل الخطيب بعد موافقة وزارة الثقافة على المجموعة، قال لي ممازحًا: "والله صرت تكتب مقدمات يا منذر!". كانت أول مقدمة أكتبها، تبعتها مقدمات كثيرة. في الوقت الذي لم يكتب عادل محمود تقديمًا واحدًا، لاستحالة ذلك بالنسبة له، كما قال لي.
3- ردي على تقرير اتحاد الكتاب:
فراس سليمان محمد شاب طرطوسي، يزيد عمره عن العشرين بضع سنوات. تقدم بمجموعته الشعرية (أحزان مشبوهة) إلى دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، التي أحالتها، حسب الاختصاص، إلى لجنة القراءة في اتحاد الكتاب العرب. وجاءت النتيجة، بالرفض! لا رفض أن تطبعه وزارة الدفاع، ولا وزارة التربية، أو حتى وزارة الثقافة، بل رفض أن يطبع المجموعة صاحبها على نفقته الخاصة. لماذا؟ ليس لأسباب سياسية طبعًا، أو أخلاقية معاذ اللـه. بل لما وجد فيه من ابتذال للأدب وفساد وتخريب للشعر. الأمر الذي برأيه يجب أن يتجند جميع المحاربين الصناديد، والقادة الأدبيين ذوي المناصب الرسمية، الغيورين على اللغة والشعر، للتصدي له والوقوف بحزم ضده! وقد أشار الرقيب الذي لم يجد مقصه نافعًا كفاية في قص الأوراق والأفكار، ويريد لو يقص به الرقاب، ويا لها من رقبة نحيلة رقبتك يا فراس، إلى عجيبة أخرى ظهرت له في المخطوطة، ألا وهي مقدمة كتبها (مخلوق آخر) على حد تعبيره، يقول فيه ما أوقع الروع في نفسه: "بأن هذا هو الشعر، وما عداه زبد سيذهب جفاء". ولعلمكم أن هذا المخلوق هو أنا، الذي يسرني أن أخرج برفقة فراس من خانة الشعراء، بعرف السيد الرقيب، ومن خانة البشر، لأقدم لكم هذه القصيدة التي استللت أسطرها من قصائد فراس وجمعتها في نص مشترك، والتي أرجو أن تكون دليلًا كافيًا على حقيقة ما يقوله ميخائيل نعيمة: "جيل يشقّ طريقه. وجيل يسدّ الطريق". هذا أولًا. وثانيًا، على أن قصيدة النثر بمفاهيمها المختلفة واشكالها المختلفة، هي القصيدة التي تستقطب المواهب الحقيقية الجديدة، التي تدخل غابة الشعر، غابة وعل رياض الصالح الحسين، التي تزداد أشجارها عددًا، وثمارها نضجًا وتنوعًا، وحدودها بعدًا واتساعًا، على حساب صحراء قاحلة تدفع برمالها لتصحر كل شيء. وكما يقول فراس: "في آسيا... صحارى تشمر عن ساقيها وتنزل إلى البحر" يقبع في جوفها عدد لا بأس به من كهنة ذوي قلنسوات سوداء مدببة تغطي كامل رؤوسهم، ومن دون فتحات عند الأعين، يقيمون طقوسهم، ويقدمون أضحيتهم في ظلمة أطلال معابد قديمة لآلهة ميتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 12/1/1990
تعقيبي الوحيد، أنه بعد كل ما أورده رقيب اتحاد الكتاب، تم صدور الكتاب عن وزارة الثقافة، الجهة الرسمية الأولى والأهم لطباعة وإصدار الكتب في سورية.
4-مجرد حلم بحياة أفضل:
(فراس سليمان - منذر مصري)
***
هناك أشياء لا تحدث
سوى في القصائد
كأن يخرج طفل
من تحت وسادة المرأة الباكية
ويطلق عليك النار.
/
أو أن تبتاع تلك القيثارة الصدئة
بأوتارها المقطوعة
أو تلك الّتي بلا أوتار
لأنّك
أصلًا
لا تعرف كيفيّة العزف.
/
أو أن تحفر قبرًا
وتقول: "ما أجمل الحياة!"
/
ما تريده هو
أن تقترف المرأة
جريمةً
أن يشنق الطفل
عصفورًا
أن يلوك الشاعر
قلبًا
...
مهلًا مهلًا
أعلم أنّك لست قادرًا على الإيذاء
أنت تحلم
بحياة أفضل..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية – سورية