}

التنظير للتأخر

خالد الحروب خالد الحروب 9 أغسطس 2015
آراء التنظير للتأخر
نهر كور، أذربيجان (Getty)
في قلب جدل الحداثة وما حولها ثارت معركة لم تهدأ حول مفهوم "التقدم" (progress). بحسب الحداثة الكلاسيكية تسير المجتمعات من أشكال تقليدية في بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، إلى أشكال حديثة ووفق مسار خطي. في البنية التقليدية وما قبل الحديثة تقوم العلاقات على الولاءات الغريزية، ويتكلس الاقتصاد على نحو بدائي وغالبا زراعي، وتظل السياسة استبدادية غير تشاركية، وتكون للأديان والغيبيات السيطرة الثقافية على الفضاء العام. كلما تقدمت المجتمعات وفق المسار الخيطي، بحسب نظرية الحداثة، تتخفف من كل تلك الأثقال، حيث تتحول ولاءات الأفراد فيها إلى الأوطان والدول، وتخفت الإثنيات والطوائف، ويصير الاقتصاد إنتاجيا وصناعيا، والسياسة تقترب من المشاركة الديمقراطية، كما تنحسر وطأة الأديان والغيبيات على الفضاء العام. خلال هذه السيرورة طويلة المدى يُعاد تعريف الفرد من: "من أنت" (بمعنى إلى أي قبيلة أو طائفة أو دين تنتمي)، إلى "ماذا تعمل" (بمعنى ما هي مهنتك أو إنتاجك أو إضافتك الحقيقية للمجتمع، بغض النظر عن أصلك).

هناك تفاصيل أخرى كثيرة مرتبطة بهذا الجدل لا تحتملها وقفة سريعة كهذه. لكن ما يتوجب التأمل فيه هو النقد الشرس الذي تعرضت له فكرة الحداثة وما تستبطنه وتعلنه من حتميات تاريخية تفترض انتقال المجتمعات والبلدان من مرحلة متأخرة معينة إلى أخرى متقدمة، وبشكل خطي، على مدرج التقدم. كل المجتمعات تسير على هذا المدرج ولو بسرعات متفاوتة، ومآلها النهائي هو الحداثة والتحديث الليبرالي تحديدا لأنه ليس هناك أي مستقبل عملي وحقيقي آخر للبشر، كما نظر فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الشيوعية.

جزء من النقد الشرس لفكرة "التقدم" يقوم على ضرورة احترام "الخصوصيات الثقافية" للمجتمعات، وعدم الخضوع للمنطق الحداثي الذي يفرض عليها تبني قيم "غربية" وغريبة عنها، بالإضافة إلى الإقرار بأن ما يناسب مجتمعا ما وينجح فيه ليس بالضرورة مناسبا للمجتمعات الأخرى وحتمية نجاحه فيها.

في الشكل العام، يبدو هذا النقد موضوعيا وصائبا، لكن في التطبيقات العملية وآليات استغلاله كما شهدها العالم خلال القرن الماضي على الأقل، نقرأ قصة ثانية تماماً. أطروحة "الخصوصية الثقافية" برّاقة ومغرية لكنها توفر مسوغا فعالا لتفادي الانخراط في عمليات الانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي. وهي أطروحة تفترض أن الحداثة سوف تقوم بمسح كل الخصوصيات الثقافية وتسوية الأرض الاجتماعية عولميا، وإزالة كل المميزات بين الشعوب. هذه الفرضية المُتوهمة هي عمليا ما يمنح فكرة "الخصوصية الثقافية" قوتها الإضافية، رغم أنها فرضية هشة ولا علاقة لها بالواقع. لا إزالة الفروقات الثقافية بين الشعوب والجماعات مطلوبة ولا هي ممكنة أصلا.

لننظر إلى الفرق بين الثقافتين الفرنسية والأميركية مثلا، وكلتاهما تقع في قلب الحداثة الغربية. لكن التنظير للخصوصية الثقافية يأتي في الغالب من تلك الدوائر التي تدافع عن "الوضع القائم" وما يمنحه من مكتسبات لنخب محددة. فمثلا ثمة قراءات تقول إن الديمقراطية لا تناسب المجتمعات العربية أو غير الغربية لأنها تتناقض مع خصوصياتها الثقافية، أو فكرة الدولة المدنية العلمانية القائمة على فصل السلطات لا تناسب هذا المجتمع أو ذاك، لأنها غربية ولا تتواءم مع المجتمعات غير الغربية. أو أن فكرة حقوق الإنسان على مكوناتها المختلفة، التي تدافع عن حريات الأفراد وتساوي بينهم، لا تناسب المجتمعات غير الغربية. فمثلا، وبحسب بعض التنظيرات المستندة إلى فكرة الخصوصية الثقافية فإن ختان الإناث ممارسة خاصة ببعض المجتمعات المعينة ويجب التوقف عن نقدها من منظور غربي يراها متوحشة ومضرة بالنساء.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
13 سبتمبر 2015
آراء
9 أغسطس 2015
آراء
12 يوليه 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.