}

تشارلز بوكوفسكي: ابتذال الشعر، ابتذال السيرة

باسم المرعبي 27 أكتوبر 2017
آراء تشارلز بوكوفسكي: ابتذال الشعر، ابتذال السيرة
تشارلز بوكوفسكي (Getty)

 

إذا كان الفقر والحاجة قد دفعا بكاتب عبقري مثل دوستويفسكي لا يختلف اثنان على مكانته، إلى رهن بنطاله ذات مرة أثناء زيارة له إلى ألمانيا، فإنّه وبسبب من هذا الشظف عاش طوال حياته، تقريباً، وخلال إنجاز أهم أعماله تحت قسوة وجشع ناشره، وهو ما يذكّر بما قاله علي بن موسى الرضا، كما ينقل عنه المأمون، من جملة قولٍ له: "تحامُل الأيام على ذوي الأدوات الكاملة، واستيلاء الحرمان على المقدّم في صنعته". لكأنّ موافقة الأيام والدعة المادية لا يكونان إلا لمَن هم على النقيض مما جاء به القول الآنف، فها هي الكاتبة البريطانية جوان رولينغ "مصنّعة" سلسلة روايات هاري بوتر قد حققت كتبها مبيعات "وحشية" تعدّت الأربعمائة مليون نسخة وبلغت مردوداتها مليارات الدولارات، في الوقت الذي شكا خوان رولفو، من أن الكتابة في المكسيك لا تُطعم الخبز، لينصرف عن الكتابة، بعد كتابين فقط وثالث لم يرَ النور في حياة كاتبه، وهو صاحب رائعة "بيدرو بارامو" التي يصنفها النقاد على أنها حجر الأساس لواقعية أميركا اللاتينية السحرية. من هذين المثالين المتضاربين، دوستويفسكي وخوان رولفو من جهة وجوان رولينغ من جهة أُخرى، يمكن الخلوص إلى القول إن الانتشار الواسع أو الدخل المرتفع الذي يحصده الكاتب من مبيعات كتبه هو، بأي حال، ليس مؤشراً على تمكن إبداعي أو عبقرية خارقة، بل العكس هو الذي يصحّ غالباً، ما يعني بالضرورة، والحديث هنا عن المثال النقيض، أنّ الرواج الضعيف أو الخجول غير متأتٍ من خلل في الإبداع أو الافتقار إلى الموهبة، بل، لعوامل لا صلة لها بهذين الأخيرين، وكما يقول الشاعر والسينمائي الفرنكفوني اللبناني كريستيان غازي، متحدثاً عن الشعراء: "ثمة شعراء مجهولون كبار لدى كل الأمم، تفوق أهميتهم ربما أهمية كل الشعراء المطروحين في الضوء لدى كل الأمم، خصوصاً أن بعضهم كان يهرب من الإعلام استنكاراً، أو لم يُرده مسبقاً، أو كان يرفض أن يبتذل نفسه أمامه". كما جاء في حوار أجراه معه الشاعر أحمد فرحات.


وإذا كان الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي، قد حقق انتشاراً واسعاً حول العالم، ففي السويد وحدها، البلد الصغير بسكانه، قد تُرجم له 19 كتاباً، فإذا أضفنا إلى ذلك بلداناً أُخرى كبرى، تلقفته، مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا وسواها، يمكن عندها قياس مدى نجاحه غير العادي. غير أن كل هذا لا يعني بالضرورة تفوقاً إبداعياً. فإذا عرفنا آليات الرواج في هذه البلدان وغيرها، والتي تعتمد في أحيان كثيرة على عناصر من خارج الإبداع، حتى لو كانت لصيقة بالنص ذاته، وهو ما يقودنا إلى ظاهرة البست سيلر (الكتب الأكثر مبيعاً) وهي عادة ما تكون لكتب تفتقد للرصانة، في أبسط وأقصر تعبير.

 

الكتابة وعبقرية الشر


في ضوء القراءة النقدية المتفحصة يبدو بوكوفسكي واحداً من أولئك الكتاب والشعراء الذين لا يتورعون عن تسطير كل ما يجول في الخاطر من دون أي وازع جمالي أو قيَمي وبموهبة متواضعة أو منعدمة. إن من يقدم على ذلك هو شبيه بما يقدم عليه طاغية تكمن كل موهبته في الشر الذي ينطوي عليه، لينفّذ كلّ أنواع الجرائم حفاظاً على السلطة، والبقاء أطول أمد ممكن فيها، بسبب القدرة على الفتك، لا الذكاء. إنها عبقرية الشر.

قد يبدو المثال متطرفاً، ظاهرياً، إذا ما قايسنا طغام الكتابة بطُغاة السياسة، وللمتنبي الكبير الفضل في استحضار هذه المفردة هنا وتمثلها، صفةً، لصغار الكَتَبة، بصرف النظر عن خصوصية المعنى الذي أراده في قصيدته:

 "وشِبه الشيء منجذبٌ إليه

وأشبهنا بدنيانا الطَّغامُ"


لكن في العمق ثمة ما هو مشترك بين الاثنين، فهؤلاء الذين يتشبثون بإصرار بالقلم ويراكمون جريمة الكتابة المجرّدة من الموهبة ومزاياها المهمة، ـ أي الكتابة ـ عمقاً وإنسانيةً، يغدون بدورهِم مسؤولين عن مفاقمة قبح العالم وتضييق مساحة الأمل. وهو دور يتماهى وما يُشيعه الطغاة من قبح ويأس.


وبوكوفسكي هو صنيعة الماكنة الثقافية ـ الإعلامية الشرهة للنظام الرأسمالي. وقد كان التلقف الأوروبي له سابقاً على الأميركي، في الوقت الذي (استمر تجاهله في أميركا، لا سيما من قبل النقد والمؤسسة الأدبية ـ مقدمة، الحب كلب من الجحيم)، فلم يُنظر بجدية إلى تجربته، في بلده، كما كان يتوق، فصاحب هذه التجربة يندرج تحت تصوّره ذاته والذي أفصح عنه في قصيدة له، مع ملاحظة الصفة التقريرية المحض لجملته هذه التي ليس لها من الشعر إلا شبهته، يقول: هناك "الكثير من الشعراء لكن ليس الكثير من الشعر". هذه التقريرية هي صفة "شعر" بوكوفسكي، الغالبة مثلما تفيدنا بذلك عشرات النماذج له بالعربية وأُخرى بلغة سواها، تشمل معظم كتبه الشعرية، فلم يكن فيها من أثر للشعر! وهي إجمالاً ضعيفة، مصنوعة لا تخرج، في أعمّها، عن نطاق اليوميات والاعترافات بمعناها الضيق، بل المبتذل: المطبخ، الشراب، السرير والشجار مع عشيقاته، مع الاستنجاد بقاموس الشتائم والبذاءة. فضلاً عن سمة السطحي والمكرور في أفكاره وطروحاته. وإذا كان البعض يعتقد أنّ بوكوفسكي قد حقق خرقاً في انحيازه إلى الهامش الذي يتحدّر هو أصلاً منه، وأنه غادر الأساليب المستقرة في الشعر الأميركي، فالحريّ أن يتجه هذا الحكم النقدي إلى المؤسس والت ويتمان، قبل الجميع، فهو الأكثر جدارة وأحقية بتوصيف كهذا. لكن ما أبعد المسافة وأوسعها بين كونية ويتمان و"بيتية" بوكوفسكي، المنطلقة من وقائع سيرته المعتادة، المحدودة الأفق.

"أؤمن أن ورقة العشب ليست أقل من حركة النجوم"، يقول ويتمان في "أوراق العشب". ولديّ أن هذه الجملة الشعرية تعدل كل ما كتبه بوكوفسكي، تحت مسمّى الشعر.

 

شعر الأمر الواقع


في المختارت التي ترجمها سامر أبو هواش، لبوكوفسكي "الحب كلب من الجحيم" (كلمة ـ الجمل) والتي ضمّت أربعاً وستين قصيدة مستلة من خمس مجموعات مع مقدمة، يمكن تشكيل صورة شبه وافية عن طبيعة اشتغاله، وعليه يمكن وصف شعره بأنه من قماشة الشعر الشائع، شعر الأمر الواقع، الذي له حيزه على الدوام، غير أن هذا النوع صار أكثر تفشياً في السنوات الأخيرة وبات يلوّح بوجوده بقوة متأتية من خارج الشعر لا من الشعر ذاته، هذه القوة تتمثل بشكل أساس من حشد قراء متواطئين أو يفتقدون المقدرة على التمييز بين الشعر وما يتشبّه بالشعر. لا ينبغي أن تكون الآراء المتحمسة لمثل هذا، مهما كان مصدرها، حتى لو أتت من أسماء تثير القشعريرة لدى البعض مثل سارتر! الذي قال عن بوكوفسكي إنه (أعظم شعراء أميركا) ـ المقدمة. أو من القوائم التي تتضمن أرقام المبيعات أو عدد الترجمات إلى اللغات الأخرى، حائلاً دون التمعن في قاع هذا الشعر لرؤية إن كان ينمّ عن ماء رقراق صاف، أو مجرد أُجاج. يعتقد بوكوفسكي أنه يقول أشياء عميقة بطريقة بسيطة، كما يصرّح في حوار له نوّهت به المقدمة. غير أن واقع شعره يقول غير ذلك، فلا مكان للعمق، وإذا ما بدا كذلك فقد يكون من نوع التعكير الذي تحدّث عنه نيتشه، لأجل أن تبدو المياه عميقة! وليست البساطة في ذاتها مأخذاً، بل قد تكون امتيازاً، لكن الحديث هنا عن مُشارفة الضحالة، حتى أن مقدّم مختاراته ومترجمها أبو هواش، يستدرك بعد سطر واحد من إبداء موافقته على رأي الشاعر، بالقول "إن البساطة نفسها تتحول أحيانا إلى خفة شديدة خاصة بعد أن تتخذ القصيدة بالنسبة إليه شكل القصة". هذه الخفة هي ما يمكن القول بصددها إنها تحكم شعر بوكوفسكي، إضافة إلى ما تقدّم من مثالب، وقد غدت طريقة للتعامل مع العالم، بل ما هو أفدح من ذلك، إنها رؤية "القاع" إلى هذا العالم. في القصيدة الأولى التي تصدّرت المختارات، المعنونة: "جميعهم، جميعهم، يعرفون"، والتي يتكرر فيها فعل الأمر "اسأل" في بداية كل فقرة، عدا القليل منها، ليبلغ عدد هذه الفقرات 106:

"اسأل رسامي الأرصفة في باريس

اسأل شعاع الشمس على كلب نائم

اسأل الخنازير الثلاثة

اسأل بائع الصحف

اسأل موسيقي "دونيزيتي"

اسأل الحلاق

اسأل مصارع الثيران".

لتستمر هذه الوتيرة عبر ثماني صفحات، بالمعنى ذاته والتكرار شبه الحرفي، بحثاً عن جواب لمعضلة ما. لكن أي جواب وأية معضلة:

"اسأل اسأل اسأل

وسيقولون لك:

إن زوجة تزمجر خارج الباب

أكثر

مما يستطيع أي رجل احتماله".

 

أو النموذج التالي:

 

"كبداية

حين تكف النساء

عن حمل المرايا

إلى كل مكان يذهبن إليه

فعندئذ ربما

يمكنهن أن يحدثنني

عن التحرّر".

 

هذه ليست أسوأ أو أفحش نماذج بوكوفسكي، لكن لا مراء في عاديتها وإخفاقها في الارتقاء إلى أقل درجات الشعر علوّا. إنه النثر متضافراً مع ما هو سطحي وعاميّ من التفكير. هذا النوع من الشعر المنطلق من القاع لا يمكن له أن يرتقي لما فوقه، إنه محكوم سلفاً بالمكوث في هذا القاع، كاتباً ومتلقياً.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.