}

نحو مزيد من مأسسة قضايـا المـرأة العربيـة

آراء نحو مزيد من مأسسة قضايـا المـرأة العربيـة
كاريكاتير يوم المرأة / حجاج

1 - يمتلك موضوع علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل حساسيات معقدة ومركبة، ولأنه موضوع صراع قديم داخل المجتمعات البشرية، فقد استعملت آلياته في الصراع كثيراً من أصناف الأسلحة والأقنعة، التي تم ويتم فيها توظيف مختلف صور ذكاء النوع الإنساني، (ذكاء الرجال وذكاء النساء)، بهدف تكريس مواقف ومواقع محددة في التراتب الجنسي والإجتماعي. كما تمت وما تزال تتم فيها كثير من صور التواطؤ والتناور وتبادل المواقع الرمزية، رغم سيادة مواقع بعينها، حيث تتيح المناورات المستعملة في الحروب غير المعلنة بين الطرفين، كثيراً من وسائل التمويه والمراوغة. ولأن استئثار الرجال بالهيمنة عَمَّر طويلاً في التاريخ، بل وصنع كثيراً من الملامح الراسخة في موضوع العلاقة بينهما في أبعادها المختلفة، فقد ترتَّب عن ذلك، كثير من صور الحيف والإقصاء، وكثير من مظاهر العنف الرمزي الظاهر والمبطن.

لم يتمكن البشر من الإدراك الموضوعي والتاريخي لبنية ونظام علاقاتهم الاجتماعية، وضمنها علاقة النساء بالرجال إلا في القرنين الماضيين، حيث لاحت العلامات الأولى المبشرة بإمكانية تركيب نظام إجتماعي، يقر بتكافؤ العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، ويرسم الملامح الكبرى لمشروع في التحرر يقلص من هيمنة الذكور على الإناث. فلا أحد يجادل اليوم في الدور الذي لعبته عوامل تاريخية قوية، من قبيل الثورة العلمية وميلاد المجتمع الصناعي وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي، في تغير كثير من ظواهر وبنيات المجتمع البشري. فقد ركبت العوامل المذكورة في تداخلها، معطيات جديدة سمحت بإمكانية تبلور نمطٍ في العلاقة بين الجنسين أكثر تكافؤاً وأكثر عدالة، تصور يعي نسبية المنتوج الإجتماعي، ونسبية القيم التي تواكبه، وتمنحه الصور التي يتمظهر بها، والقيم الثقافية والأخلاقية التي يلحم بها فجوات البنيان الإجتماعي، من أجل تماسكه والمحافظة عليه.

نستطيع القول في هذا السياق، بأن الصورة النمطية السائدة في عالمنا اليوم عن المرأة، تعد محصلةً موضوعية لتاريخ من التدبير الاجتماعي والسياسي والثقافي المعبر عن أشكال من الصراع الاجتماعي، وأنماطٍ من كيفياتِ تدبيره داخل المجتمع. وأن أي تعديل مفترض في هذه النمطية، يقتضي إعادة النظر في الأسس والمعطيات المتنوعة، التي سمحت بتركيبها وحصولها بالصورة التي اتخذت، وهو الأمر الذي يترتب عنه الإخلالُ بمكاسب حاصلة، مكاسب ليس من مصلحةِ المستفيدين منها، أن يتخلوا عنها، إلا عندما تختل معادلةُ موازينِ القوى داخل المجتمع، وهذه المسألة تستدعي كثيراً من العمل المتواصل من أجل بلوغها، أوالاقتراب من الآفاق التي يمكن أن تفتحها في المجتمع وفي التاريخ.

يترتب عن التشخيص الذي حددنا في الفقرات السابقة، أن معركة تحرير المرأة في المجتمعات العربية، ما تزال تستدعي بذل جهود مضاعفة، للتمكن من تفتيت سقف الأفكار والمواقف التي تحكم وتوجه وجدان وخيال وعقل الأفراد والجماعات، نساء ورجالاً داخل أغلب البلدان العربية.. وفي هذا السياق، نفترض أن التحول الذي طرأ على موضوع مقاربة إشكالات المرأة العربية في العقود الثلاثة من القرن الماضي، ساعد وما فتىء يساعد في عمليات مقاومةٍ جديدةٍ لمختف صُوَّرِ النظر الدوني للمرأة في واقعنا.

2 - يستطيع المتابع لمعارك النساء في العالم العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي وما بعدها، أن يدرك أن استراتيجية جديدة تبلورت في موضوع الجدل القائم حول التحوُّلات، التي لحقت أوضاع النساء العربيات والنساء في العالم أجمع. كما أن التدويل الذي لحق قضايا النساء، بفضل المؤتمرات الدولية والمحلية، الرامية إلى محاصرة الأوضاع المتدنية للنساء في العالم، ساهم في تبلور مجموعة من المفاهيم الجديدة والآليات المنهجية المستمدة من حقول العلوم الإنسانية في موضوع علاقة المرأة بالرجل، وفي بحث أسئلة تجاوز وضعها الراهن. الأمر الذي حقق في مستوى التصورات والخطاب، جملة من المعطيات الجديدة، المعزَّزَة بكثير من التحولات التاريخية والاجتماعية الحاصلة في تاريخنا المعاصر، والتي لا يستطيع أحد إنكارها وإنكار مفعولاتها العديدة في ثقافتنا ومجتمعنا.

يكشف اتساع عمليات المأسسة المتواصلة، أن العمل يتجه لتجاوز النظرة السائدة عن النساء داخل المجتمعات العربية. كما يكشف الإتساع المذكور، أننا بصدد تهيىء جماعات ضغطٍ قويةٍ للتأثير في القرارات السياسية والأنساق القانونية، من قبيل ما حصل وما فتىء يحصل في الغرب عند مواجهته لإشكالاته السياسية والاقتصادية، بل وإشكالاته المتصلة بوضع النساء داخل المجتمع.

إن برامج وإجراءات المؤسسات التي أنشئت داخل كثير من المجتمعات العربية، مستهدفة الاستماع إلى قضايا النساء ضحايا العنف المادي والرمزي، ازدادت في مطلع الألفية الثالثة بالصورة التي تتجه اليوم لتعميم فعلٍ تاريخي مناهضٍ لأفعالٍ تقلل من كرامة الإنسان. ورغم ما يفترضه العمل في هذا الباب، وفي باب مناهضة قيم اللامساواة والحرص على إسناد دعاوى المشاركة في قضايا الشأن العام داخل المجتمع، فإن الخطوات الأولى التي أنجزت في هذا المجال، حققت بفضل المأسسة ودورها في تعزيز آليات العمل الجماعي المتآزر، ما نعتبر أنه يهيىء المناخ الاجتماعي لخطواتٍ أكبرَ وأوسعَ، في أفقِ ترسيخ قيمٍ جديدة في العمل لصالح قضايا النساء.

تساعد عمليات المأسسة في تقوية عمليات التشبيك، حيث تتناسل في جهات متعددة من العالم وداخل العالم العربي مؤسساتٌ عديدةٌ، لبحث قضايا المرأة في جوانب محددة من الحياة الاجتماعية، في مجال التربية على المساواة والحرية والتسامح، وفي مجال النصوص القانونية المكرِّسة لأخلاق التمايز، المُقِرِّ بلزوم المراتبية، باعتبار أنها "فطرة " و"طبيعة إنسانية"، الأمر الذي يرسخ مجموعة من القيم المترسبة بفعل تقاليد وعادات لم يعد لها مكان مناسب، في مجتمعات تتغير بوتيرة مختلفة عن وتائر التحول الحاصلة في القرن الماضي.

3 - إن استمرار الممانعات والعودات الرامية إلى توظيف التقاليد المحافظة في مواجهة إشكالات تحرر المرأة في مجتمعنا، يعني أساساً استمرار تقصير مجتمعاتنا ومؤسساتنا التعليمية، وتنظيمات مجتمعنا المدنية رغم تكاثرها في ترسيخ قيم المعرفة العصرية، وقيم الإصلاح السياسي القاضي بتوسيع مجالات الحرية وتداول السلطة، بهدف محاصرة القيم المحافظة التي لا تلتفت إلى متغيرات التاريخ، ولا تدرك مزاياها في تطوير نظرِ الإنسان لذاتهِ ومُجتمعهِ وتاريخه..

يتمثَّل المظهر الأبرز الذي يميز عمليات المواجهة التي تمارسها النساء اليوم في العالم العربي، في تجاوز التموقع النسائي داخل المجتمع، في اتجاه تموقع أشمل يرتبط بأسئلة التحول الكبرى الجارية في المجتمعات العربية (أسئلة النهضة والتنمية والتقدم). فقد أصبح مشروع الإصلاح السياسي والإصلاح الإقتصادي، وبناء تجاوب ايجابي مع منظومة حقوق الإنسان في عالمنا، يندرج ضمن الأهداف المباشرة للمرأة العربية. ولهذا السبب تزايد الحضور النسائي داخل تنظيمات المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وتعد هذه الخطوة وسيلةً من وسائل تحقيق ما يمكِّن من التفاعل بصورة أعمق مع أسئلة التغيير، والمشاركة في عمليات بنائها بحكم أنها تندرج ضمن أسئلة وقضايا الشأن العام، ذلك أننا أمام معركة تشمل دون استثناء مختلف مجالات الحياة في المجتمع.

 نفكر في قضايا المرأة باعتبارها قضايا إنسانية عامة، ونفكر في سؤال المساواة بين الجنسين باعتبار أنه شأن يخص البشر أجمعين، مهما اختلفت درجات التراتب داخل مجتمعاتهم. كما أن فقر النساء اليوم، سواء في عالمنا أو في العالم أجمع مقارنة مع ما يملكه الرجال ما يزال يشكِّل بدوره عنصر توحيد، وذلك رغم درجات التفاوت القائمة بين مجتمعات الشمال ومجتمعات الجنوب. إضافة إلى ذلك، نستطيع أن نتحدث في المجتمعات التي عرفت تقدماً ملحوظاً في مجال منح النساء حقوقهن عن المعارك الجديدة للنساء، وهي معارك تصلنا وقائعها وأصداؤها، مما يضاعف من إشكالات واقع النساء في مجتمعاتنا. وتتضح هذه المسألة أكثر عندما نفترض أن مجتمعاتنا ستعيش هذه المشاكل الجديدة بصورة أو بأخرى في آجال لاحقة، إذا لم نعمل جميعاً على التفكير فيها، وفي سبل تقليص آثارها السلبية على حياة المجتمعات البشرية. نحن هنا نشير إلى إشكالات البطالة والعنف وإشكالات التطور في عالم الجينات في علاقاتها بأنماط الحمل الجديدة، وكذا الإشكالات المتصلة بمظاهر التشييء والتبضيع، التي أصبحت تشكل السمات البارزة في قضايا النساء والرجال في العالم المعاصر.

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.