}

الشخصية المحمدية: نظرات معاصرة

فريد الزاهي 16 أغسطس 2018
آراء الشخصية المحمدية: نظرات معاصرة
حروفيات عثمان

لا مراء في أن الكثير من الدارسين أدركوا أن شخصية الرسول تعد لوحدها مدخلا لفهم طبيعة الرسالة المحمدية فأوْلوْها ما أولوها من الاهتمام والدراسة والتحليل. ولا شك أيضا في أن الكثير من الرسامين والكاريكاتوريين أدركوا الطابع الرمزي والقدسي الحاد الذي تتميز به، خالطين، طبعاً، بين شخصية رسول الأمة الإسلامية والمتعصبين الإسلاميين الذين أفرزتهم، بشكل أو بآخر، نهاية الحرب الباردة. هذا الدور المركزي للشخصية المحمدية له طابع ديني كما له طابع تاريخي وحياتي.

لكن إذا كانت السيرة النبوية (كما تطرقنا إليها في مقال سابق) صارت مرجعية للعبادات فإن الجوانب التأريخية والحكائية فيها قد تسللت إلى تاريخنا بشكلين أساسيين لهما تفرعاتهما: الكتابات الصوفية وما يحيط بها من أذكار ومديح وسماع، والكتابات الحديثة بما تتضمنه من دراسات ومقاربات بل ومن تمثيلات تخييلية شعرية وروائية بالأخص.

مقاربات خارج السيرة

في الأشهر الأولى التي حططتُ فيها الرحال شابّا بباريس للدراسة بجامعة السوربون في بداية الثمانينيات، عثرت، في مصادفة عجيبة، في مكتبة الجامعة على رسالة الدكتوراه لحسن حنفي باللغة الفرنسية، وهي مقاربة فينومينولوجية ناقشها، سنة 1967، الرجل الذي درّسني الفلسفة المعاصرة في جامعة فاس. أتذكر أني قرأت بشغف هذه الأطروحة التي لم أعثر للأسف على ترجمة أو صيغة لها بالعربية في مؤلفات المفكّر المصري. وليس من باب الصدفة، أن المؤرخ اليساري مكسيم رودنسون كان بصدد تأليف كتاب بيوغرافي وتحليلي في الفترة نفسها عن نبي الإسلام، نشره سنة 1968، مشيرا في مقدمته إلى أن الاهتمام بشخص النبي أفرز العديد والكافي من المصنفات؛ بيْد أن الكتابة من جديد عن نبي الإسلام تظل مشروعة باعتبار أن كل جيل له الحق في إعادة كتابة نظرته وتصوره للماضي كما الحاضر، كما يلح على ذلك رودنسون.

ظلت شخصية النبي تتابعني، بشكل أو بآخر. وأنا أعد أطروحتي لدكتوراه السلك الثالث عن صديقي الراحل عبد الكبير الخطيبي عثرت له على دراسات هامة عن الإسلام وعن شخصية النبي وقبلهما مسرحية عن النبي المقنع، ترجمتها وصدرت لاحقا ضمن كتاب بعنوان: "المغرب العربي وقضايا الحداثة". أحسست بالتقارب العميق بين نظرة حسن حنفي الفينومينولوجية والمقاربة الفكرية المواربة للخطيبي. كان ثمة افتتان بالشخصية وفي الآن نفسه تحليل عمودي لموقعها في بناء شخصية المسلم.

لكن دهشتي كانت أكبر حين اطلعت على موسوعة معروف الرصافي الغنية عن الشخصية المحمدية، والتي يعيد فيها كتابة تاريخها بجرأة قلّ نظيرها، معتمدا على الرأي الحرّ والمقارنة الصريحة، ساعيا إلى تجريدها من الميثولوجيا والخرافات. وقد كتب الرصافي في ذلك قائلا في مقدمة كتابه: "وما علي في نجاح هذه الدعوى مني وصدقها إلا أن أفتكر حرّا وأكتب حرّا ... أما سخط الناس من أجل أنني خالفتهم لوفاقها، وصارحتهم في بيانها، جريا على خلاف ما جروا عليه من عادات سقيمة وتقاليد واهية، فلست مباليا به ولا مكترثا له... وإني لأعلم أنهم سيغضبون ويصخبون ويسبون ويشتمون...".

النبي والمرأة وتأنيث العالم

لم يُحبِّبْني أحد في شخصية النبي أحد أكثر من ابن عربي، حين التهمت بنهم بالغ، كل ما عثرت له عليه من مؤلفات. ففي "فصوص الحكم"، يخصص فصلا له جعله يدور حول الحديث: "حُبّب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة". هذا الحديث يبني عليه ابن عربي تصوره الخارق لأنثوية العالم ولمبدأ التأنيث الذي يبدأ من الذات الإلهية ليطول كل مناحي الوجود.

مرة أخرى تتسلسل المصادفات الاستكشافية لتتابع الحكاية المتناسلة، حكايتي مع شخصية النبي. فقد صدر في نهاية الثمانينيات كتابان بالفرنسية لكاتبتين مغاربيتين (رحلتا عنا في وقت متقارب) عن النبي: الأول لعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي بعنوان "الحريم  السياسي: النبي والنساء"، الذي تعيد فيه النظر، من خلال بحث سيوسيولوجي تاريخي ذي منزع نسوي، في إقصاء النساء من مجال السياسة والمشاركة في الشأن الاجتماعي والسياسي. والثاني للروائية الجزائرية آسيا جبار بعنوان "بعيدا عن المدينة المنورة"، وهي رواية تاريخية تحكي علاقة النبي الودود بالنساء عموما وبابنته فاطمة بالأخص.

لم أكن بعد حينها قد التقيت فاطمة المرنيسي، التي تعرفت عليها بعد التحاقي بالمعهد الجامعي للبحث العلمي والاشتغال جنبا إلى جنب معها في المؤسسة نفسها حتى تقاعدها. بيد أن الصدفة لاقتني بآسيا جيار حين دعاها المعهد الفرنسي إلى تقديم روايتها. حاورتها مطولا عن روايتها ومصادرها الوثائقية واقترحت عليها ترجمتها للغة العربية. غير أننا عجزنا معا عن العثور على مصدر تمويل للترجمة فظلت رغبة لا تزال تسكنني لحد اليوم. اشتغلت آسيا جبار على المصادر بمعية أحد أصدقائي المغاربة الباريسيين، ونهلت من السير كما من الأخبار لتبني رواية شيقة عن الوجه الإنساني لعلاقة النبي بالنساء وعشقه لهن وتقديره الكبير لكينونتهن. والحقيقة أن كتاب فاطمة المرنيسي هو المرآة البحثية لرواية آسيا جبار. ولو تأخرت تلك الدراسة عقدا من الزمن فقط لكانت فاطمة المرنيسي قد كتبتها بشكل روائي، بعد أن استهوتها الكتابة الحكائية.

تستمر الحكاية، لكن هذه المرة مع ادريس الشرايبي، وهو كاتب باللغة الفرنسية، عشقته يافعا هو وكاتب ياسين. ليس من الغريب أن ينهي كاتب متحرر حياته بالعودة لجذور الجذور. فبعد أن كرس الروائي حياته لكتابة روايات عن أصول المغاربة وعلاقتهم ببلاد يعيش خارجها، بعمق وسخرية لا تضاهى، ها هو يكرس كتيِّبا صغيرا صدر عام 1994 عن نبي الإسلام سماه "رجل الكتاب". إنه كتاب يمزج بقوة سادرة بين الشعري والحكائي، يحاور فيه صوت الكاتب حياة رجل يعيد إحياءه في الصورة: "إن الوجه الرمزي للنبي، أيا كان اسمه وشارته، يعبر جيدا عن هذا المفهوم، أي مفهوم المسافة الرابطة، وهو متحقق على الأرض. النبي معروف بترحاله الكثير وتنقلاته الكثيفة وتموقعه على هامش المجتمع. ويدفعه ذلك إلى التطلع الدائم إلى حياة المغامرة. وهذه المواصفات تجعلنا نتمثله دوما في وضع من التأهب وهو على مفترق طرق. وأقواله أيضا لا تفلت من ذلك إذ تتموقع دائما على الحدود والأطراف. أما مواقفه فهي تحد حقيقي لما هو مؤسس وللنظام القائم المرتكن إلى السكون. وبموازاة ذلك، نجده في داخل المجتمع وينفث مشاعر من القلق في أوصاله وأركانه. ولذلك، فهو تجسيد حي لهذه المفارقة".

تتابع الحكاية استمرارها حين اقتُرح علي ترجمة كتاب لباحثة متخصّصة في الإسلاميات عن محبة النبي في التصوف الإسلامي. فكلود عداس ابنة الباحث الإسلامولوجي الشهير المتخصص في ابن عربي شكودييفيتش، سورية القلب. والكتاب الذي ستصدر ترجمتي العربية له بعد أشهر قليلة، عبارة عن بحث عميق في تاريخ سريان وتطور المعتقدات، وفي الآن نفسه احتفاء بشخصية النبي في التصورات والممارسات الصوفية. إنه يكتب تاريخ تحول شخصية النبي إلى مدخل للقدسية التي يسعى إليها المتصوف.

هكذا يسعى الكثير من الباحثين، وإن باحتشام لا يزال كبيرا، إلى إعادة كتابة تاريخ جهد سياسي القرون الأولى للإسلام في منحه صورا نمطية. وسعوا بذلك إلى إضفاء الطابع المقدس على تأويلاتهم، غالقين باب الاجتهاد والتأويل، بصدد شخصية ذات لغز مقدس كما نعتها الرصافي. بيد أن الحكاية، حكايتي أنا، كانت قد كادت تكتمل، لتنفتح من جديد. حينها رأت النور ابنتي الثالثة والأخيرة، لأجد نفسي، كما كان النبي، أباً لا وريث ذكر له يحمل اسمه... وتلك هي معاني الحكاية، وذلك هو لغزها المفتوح...

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.