}

ترجمة الأليف أو الترجمة المُضاعفة

فريد الزاهي 6 سبتمبر 2018
آراء ترجمة الأليف

أو الترجمة المُضاعفة
عمل للفنانة ريم يسوف
 

غالبا ما توصف الترجمة بترجمة الغريب، بل ثمة العديد من الكتب العربية عن الترجمة تتخذ لها من هذا الاصطلاح عنوانا ومنطلقا للتنظير. وغالبا ما تُعاش الترجمة، كما كانت في الأصل، في شكل تواصل في برج بابل، يخفف من استقلالية اللغات ومن نفورها البعض من البعض، ومن هوْسها بالانغلاق على ذاتها وموروثها. وإذا كانت الترجمة كما يرى جاك دريدا مفهوما أوسع من أن نحصره في اللغوي المحض، إذ هي تخترق الانتقال من المحسوس إلى المعقول ومن الصورة الذهنية إلى تبلوها اللساني، فإن الترجمة التي نعنيها هنا، إن كانت بحصر المعنى فهي في الآن نفسه تتوسع لتشمل الحركة الانتقالية بين التصورات واللغات في آن واحد.

في تجربتي كمترجم، تنطعت باكرا لترجمة نصوص لكتاب مغاربة أو أجانب يكتبون بلغة الآخر (الفرنسية) أو يكتبون بلغتهم عن بلد الآخر (يتعلق الأمر أساسا بعبد الكبير الخطيبي وكلود أوليي). ثم قادني الأمر إلى أن أترجم نصوصا تحليلية وفكرية وفلسفية عن مؤلفين عرب أو يكتبون أصلا بالعربية (هنري كوربان عن ابن عربي والسهروردي، وكلود عداس عن النبي وجان لوي برُني عن ابن رشد). إنها تجربة مركبة ومحفوفة بالمخاطر ولا تتطلب فقط امتلاكا للغتيْ الترجمة وإنما فكرا وثقافة وبحثا وتأصيلا، ومعرفة بمخْفيّ النص ومساربه الداخلية... إنها ترجمة تتجاوز طبيعتها وحدودها، لتغدو امتحانا ومحنة. ذلك ما أسميه الترجمة التحقيق.

الترجمة المضاعفة: الرجوع إلى الأصل فصل!

لنبدأ بحكاية... حكاية أول ترجمة لي واجهتُ فيها ترجمة الأليف وقد أصبح غريبا. ففي بداية التسعينيات، طلب مني عبد الكبير الخطيبي ترجمة رواية صديقه الروائي الفرنسي كلود أوليي، المنتمي لما يعرف بالرواية الجديدة، عن مراكش. وحين التقيت بكلود أوليي في بيته بالضاحية الجنوبية لباريس، كان أول سؤال بادرني به: "كيف تترجم عبارة: "le livre de lecture؟". والعبارة جاءت في سياق يتْلو فيه صبيان في كُتّاب آيات قرآنية... كان السؤال أشبه بتحصيل الحاصل لشخص مثلي ردّد الآيات وتلاها وحفظها عن ظهر قلب في "المسيد" (الكتّاب القرآني) بالطريقة نفسها. فقد أدركت للوهلة الأولى أن كلود أوليي قد ترجم حرفيا كلمة "القرآن" للفرنسية، وما كان علي سوى أن أعطل هذه الترجمة لأرجعها لأصلها أي أن أؤولها، والتأويل لغةً كما هو معروف رد الشيء لأوله. لكن لماذا سيكتفي المترجم بتعطيل العمل الرائع الذي يقوم به الروائي، والذي يندرج هنا في طابعه الحرفي littéraliste في الجماليات الموضوعية والموضوعاتية والظاهرياتية التي مارستها الرواية الجديدة، علما أن أوليي أصغر كاتب في مجموعة الرواية الجديدة. أليست عملية الاستعادة هذه أشبه بالفعل الأصولي الذي ينفي اشتغال الغيرية في صلب اللغة الأصل؟

لا يخفى أن الازدواج اللغوي قد تمَّ عيْشه في الكتابة المغاربية باللغة الفرنسية بشكلين أساسيين: بشكل مأساوي أقرب إلى الدرامية، وذلكم كان حال العديدين لعل أهمهم عبد اللطيف اللعبي ورشيد بوجدرة، بحيث إن الاثنين معا، وهما عارفان باللغة العربية ومتقنان لها، سارعا في الثمانينيات والتسعينيات إلى الدعوة إلى العودة للغة الأم، فكانت تجربتهما أشبه بمن يجره التيار إلى أحد الشطين، فاختار النجاة بالعوْد للشط الأبعد. وعاشها آخرون بشكل مأساوي آخر لكنه مرح (الخطيبي وعبد الوهاب المؤدب) أو مأساوي قاتل كمحمد خير الدين وكاتب ياسين.

لا ينفي عبد الكبير الخطيبي الجروح التي تخلقها وضعية الازدواج ولا ما يستتبعها من مفارقات ومن مصادفات. إنه يطالب فقط بتعويض المعاناة وبتحويل الشروخ من خلال اكتشاف جديد للذات والهوية وللآخر. الآخر بما هو غريب يعيش متعته الخاصة في تملُّك شخصي للغة مغايرة هي هنا اللغة الفرنسية. يقول في تحليله لرواية عبد الوهاب المؤدب "طالسمانو": "هكذ يشتغل ضرب من تعويض المعاناة المزدوجة اللسان: ترحيل التناقضات، تداخل الهويات والاختلافات التي تعقِّدها اللعبة المشروخة للازدواج اللغوي. إنه ترحيل نحو اليوتوبيا، أي نحو مجال للكتابة ليس بلاواقعي، غير أنه مكان الممكن والإمتاع".

حين يكتب المغاربي باللغة الفرنسية فإنه يكون غريب اللغة الذي يأتي إليها من فضاء ثقافي مغاير ويمارسها باعتبارها مرآته التي تكشف له عن متناقضاته الداخلية خارج طمأنينة الهوية والتطابق. لذا فإن مفهوم الترجمة الذي يكون لصيقا بكل وضعية مزدوجة اللسان، يغدو في الكتابة نشيطا إلى حد كبير يجعل الخطيبي يعلن: "اللغة الأم تشتغل اشتغالا كبيرا في اللغة الأجنبية. ومن الواحدة للأخرى تتم بينهما ترجمة دائمة وحوار باطني يصعب الإعلان عنه... أين يرتسم عنف النص إن لم يكن في هذا الملتقى الذي يصعب في الحقيقة المصالحة بين طرفيه؟".

هذا هو ما يخلق ظاهرة غريبة من نوعها: ترجمة الأليف من خلال لغة الآخر. فكتابات الطاهر بن جلون مثلا تغدو في تركيبتها مِطواعة للترجمة للغة العربية، لا بسبب موضوعاتها "العربية"، وإنما بتشرُّبها ببنيةِ وذهنيةِ اللغة العربية. أما كتابات آخرين، فإنها تعاكس اللغة الفرنسية وتجعلها في مواجهة رهان صعب، يجعلها ممتَنعة أو متَمَنِّعة على الترجمة، وذلك حال كتابات كاتب التي يمتزج فيها الشعري بالروائي بالمسرحي، في لجة تستدعي أحيانا منْسي المعجم الفرنسي. كما أن ذلك يتبدّى، وبشكل أكثر شفافية، لدى عبد الكبير الخطيبي، الذي تختلط لديه فتنة اللغة العربية بعشق الانتقال ما بين اللسانين: لسان الكتابة (الفرنسية) ولسان التفكير والحب والحياة (العربية).

ذلك ما يجعل لغة العربي المغترب في لسان الآخر لغة مركَّبة تحمل ذاكرتها المتراسبة ووجودها المتعدِّد. بل ذلك هو ما يجعل الخطيبي يقول في كتاب "عشق اللسانين": "تسألني عن اللسان المزدوج؟ إنه حظي وهويّتي الفردية وطاقتي الرائعة على النسيان. فليكنْ كل لسان مزدوجا في تنافُر الجسد واللسان، والكلام والكتابة، على شفا استحالة الترجمة". إن الخطيبي، كما عبد الوهاب المؤدب، يضع هنا اليد على جرح الكتابة بلغة الآخر عن الذات، ومن ثم على الجرح الذي يعيشه المترجم لهذه الكتابة. فالمترجم يرث جرح الكتابة التي يترجم، ليضيفه إلى جرحه الشخصي، ويعاني بشكل مزدوج بين لغته ولغة النص؛ ذلك النص الذي يعود في عملية الترجمة إلى لغته الأصل بعد أن يكون قد تشبَّع بلغة الآخر.

فكر اللغة وهجرة النص

يعيش المترجم تجربة أخرى قريبة من هذه، غير أن مُغايرتها تنبع من لعبة مرايا أخرى. فإذا كان الكاتب العربي بلغة أجنبية يعيش تجربة اغتراب في اللغة وألفة في الموضوع، فإن المستشرق أو الدارس للفكر العربي، مثلا، يعيش اغترابا في الموضوع. بيد أن هذا الاغتراب مجازي أصلا، إذ هو تجربة معرفة مضاعفة: فالكاتب العربي المغترب في اللغة يعرف موضوعه ويتناوله بلغة الآخر التي يعرفها أيضا؛ بالمثل، فإن المستشرق المغترب في موضوعه يدرسه بلغته لأنه عارف به. وفي الحالين معا يقدم لنا هذان النمطان من الاغتراب معرفة جديدة بالعالم العربي، وينتجان في اللغة التي يتناولان بهما مواضيعهما، تجربة جديدة مخصبة للموضوع وللغة نفسها.

هذه الخصوبة (المزدوجة بدورها) يعيشها المترجم، كما عشتها في ترجمتي لأوليي والخطيبي، ثم لهنري كوربان وكلود عداس (قيد الطبع عن البيت المحمدي) ثم جان باتيست برُني (عن ابن رشد، قيد الترجمة) هي تجربة فريدة في معطياتها كما في آثارها على عملية الترجمة نفسها، قلَّ من يتناولها بالتنظير والتحليل. فحين يعيش المترجم هذه التجربة يعيشها بقساوة تأويلاتها وارتجاجاتها وتحولاتها.

عندما يتناول هنري كوربان ابن عربي (بطاقاته التأويلية الهائلة للفكر الإسلامي) والسهروردي (بفكره الفلسفي والصوفي الخارق)، يجد المترجم نفسه أمام ارتجاجات بين هذين الفكريْن، وبين تأويل الدارس الفذّ وما ينتجه ذلك في لعبة التحليل والكتابة. وهو أمر نابع من الأساس من أن الباحث الغربي يشتغل على فكر عربي مصوغ بلغة عربية، يؤديها هو بلغته، من خلال ترجمة مباشرة ومتعدّدة تحمل من التأويل الكثير ومن الاشتغال الفكري الأكثر. وحين يجابه المترجم هذه الوضعية يجد نفسه في وضع سكيزوفريني خاص أشبه بالمأزق: فهو سيعيد الموضوع وشخصياته (ابن عربي أو السهروردي أو ابن رشد) إلى لغته بعد أن هجَّره الباحث المؤلف، لكن هذه المرة بعد أن قام برحلة ملتوية في فكر وثقافة المؤلف، وفي مسارب تأويلاته واستنتاجاته وتحويراته وجهده الاستكشافي. وهو ما يجعل هذه الاستعادة، كما في ترجمة الرواية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية، رحلة محفوفة بالمخاطر، "على شفا الاستحالة" كما نبهنا لذلك الخطيبي...

***

تنبع الاستحالة من تعرُّجات طريق استعادة الموضوع أو اللغة إلى موطنهما من خلال عملية الترجمة وتجربتها. إنها استعادة ممْهورة بفكر وبلغة مغايريْن. لهذا علينا أن نعيد النظر في مفهوم الغريب باعتباره ملتصقا بالترجمة التصاق الاسم بالهوية. ففي الحالين اللذين تطرقنا لهما، انطلاقا من تجربة ذاتية، تتخلى الترجمة عن طابعها "البسيط"، لتتخذ حلَّة جديدة مركبة ومعقدة تروم خلق حوار لا بين الذات والآخر ولكن بين ذات الآخر وآخر الذات في الآن نفسه. والغريب لا يعود غريبا، لأن المؤلف أو الموضوع يكونان أليفين (كاتب ياسين مثلا أو ابن عربي)، فيما يكون المؤلف وحده غريبا (هنريكوربان أو كلود أوليي...). بيد أن غرابة المؤلف هنا ليست تامة، فدارس الفكر العربي بلغات أعجمية يعرف العربية ويكون ناطقا بها، بل إن كوربان وكلود عداس وجانكلفيتش، مثلا وإضافة إلى ذلك، معتنقون للإسلام، أي أن أُلْفتهم العقدية واللغوية تخفف من غربتهم عنا، كما يخفف ذلك تقاسمهم للغة الفرنسية مع كتاب عرب ومغاربيين من جِلْدتنا، يكتبون بالفرنسية.

الألفة هنا تمنح الترجمة أفقا أرحب، وتجعلها عملية جديدة ذات رهانات مستجدة، نُسائلها هنا من باب التجربة أكثر من باب الرغبة في التنظير.... 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.