}

الكتابة المحليّة والاستشراق

عارف حمزة 4 أغسطس 2019
آراء الكتابة المحليّة والاستشراق
رفيق شامي: "أنا أنجح كاتب سوري في العالم"(14/7/2004/Getty)
ما يدفعني للكتابة حول موضوعي الكتابة المحليّة والاستشراق تلك العبارات التي نسمعها، هنا وهناك، بأنّ كاتباً عربياً صار في الغرب مستشرقاً؛ بمعنى أنّه يكتب ما يُريده الغرب، أو ما كوّنه الغرب من أفكار نمطيّة عن بلاده العربيّة، وعن الشرق عموماً. أو النخب العربيّة التي ندّد بها إدوار سعيد لأنّها "حاولت استيعاب واستبطان وتمثل الأفكار الاستشراقية" في كتابه ذائع الصيت "الاستشراق".
ربّما علينا أن نفتح هذا الملف، ولا نتركه مثل النميمة التي تتناقلُها الألسنة لمجرّد التسلية، رغم أنّها قد تكون مبنيّة على الأحقاد و"عداوة الكار" في العديد من الأحيان، ولكنّها حقيقيّة وجارحة، وقد تذهب لهدم أعمال وأسماء اشتغلت طويلاً من أجل الكتابة التي تُريد، بعضها على الأقل، أن تبقى حيّة بعد رحيل كاتبها.
قبل وصولنا إلى أوروبا قرأنا كتاب إدوارد سعيد الصادم ذاك، وقرأنا بعض الردود عليه، وبعضها كان كالمحاكمات، وصرنا ننظر إلى أوروبا، وبالتأكيد إلى أميركا، على أنّها موطن ذلك الاستشراق بمعناه "الغربيّ الإمبرياليّ المتعالي على كلّ ما هو آسيويّ، أو شرق أوسطي، أو عربي". وعندما وصلنا إلى أوروبا سمعنا من جديد تلك الهمسات التي تتحدّثُ عن "كتّاب عرب" على أنّهم صاروا "مستشرقين" من خلال أعمالهم الروائيّة خاصّة، بالإضافة إلى مقالاتهم في الصحف الغربيّة، أو حواراتهم؛ بأنّهم يكتبون، ويتحدّثون، فقط عن تلك الجوانب التي حفظها الغرب عن بلدانهم، "بلاد النفط الخام" والدين الذي يمنع حبيبين من الزواج،
ويسمح بقتلهما أو بقتل أحدهما على الأقل، وسفاح الأقارب ورجم المثليين، وزواج القاصرات والفساد والتخلف المستمرّ... إلى آخر ما هنالك من تلميع للصورة الغربيّة وتهشيم للصورة العربيّة أو الشرق أوسطيّة.
عند صدور كتاب جديد لكاتب عربيّ، اكتسب الجنسيّة من إحدى البلدان الأوروبيّة أو في الطريق لاكتسابها، يترك الكاتب ذلك الكتاب جانباً ليُحدّث الجمهور عن ذلك الشرق، وبالضبط عن تلك الأمور التي تُعزّز تلك الصورة الاستشراقيّة، كما يقول لنا مَن وصل قبلنا إلى هنا، في أنّ بعض الكتّاب يصيرون ناطقين سياسييّن ودينيّين وجنسيّين (من الجنسانيّة ومن الجنس أيضاً) ويُعزّزون تلك الدراسات التي قام بها الأوروبيّون في أن الشرقيين "غير عقلانيين وضعفاء ومخنثين، على عكس اعتبارهم الشخصية الأوروبية عقلانية وقوية ورجولية" كما يخلص إدوارد سعيد إلى ذلك.

أليس على الكاتب
أن يكون ابن بيئته؟
ولكن أليس على الكاتب أن يكون ابن بيئته؟ عن ماذا سيكتب الكاتب السوري والعراقي واللبناني والجزائري والمصري...؟ أليس عن بيئاتهم، وحكايات تلك البيئات وشخصياتها، التي ما زالت تُشكّل المادة الخام في رواياتهم، ومقالاتهم، التي يكتبونها هنا في أوروبا؟ حتى بعد عشرات السنوات من الإقامة هنا في أوروبا يكتب الروائي العربي عن حيّه وقريته ومدينته وبلاده التي حملها معه إلى هناك. وما زالت تُعطيه تلك القدرة على مواصلة الكتابة والشهرة. وإذا كتب عن البيئة الأوروبيّة يقولون بأنه أصبح غربيّاً و"مقطوعاً من جذوره" وغير أصيل أو ملتزم!! إذاً لماذا ينظرون إلى ذلك الكاتب/ الكاتبة بأنّه صار/صارت مستشرقاً/ مستشرقة؟
كل هذه الأسئلة، والتي على منوالها، والتي هي أعمق منها، صحيحة وواجبة الطرح والنقاش، ولكن تلك النظرة، على أنّه مستشرق/ مستشرقة، صحيحة أيضاً. وقد يسأل أحدنا: ولكن كيف ذلك؟
تقول الكاتبة الفرنسيّة/ المغربيّة ليلى سليماني في حوار لها بتاريخ 13/7/2019، نشره موقع قنطرة: "في فرنسا، يُنظر إليّ كفرنسية ومغربية على حدّ سواء. الفرنسيون تعجبهم فكرة أن تُجَسِّد مهاجرةٌ مثلي القيمَ الفرنسية. ولكن الأمر في المغرب أكثر تعقيداً. يشعر الناس هناك بشيء مثل الحبّ والكراهية. المغاربة يعتقدون أنني أُمثِّل شيئاً إيجابياً، ولكنهم يعتبرونني في الوقت نفسه خائنة. هذا أمرٌ معقَّد جداً يجعلني حزينة. كنت قبل فترة في زيارة للمغرب وقد أخبرت أمّي أنَّ الجميع يكرهونني ولا أحد يفتخر بي. ولكنني كنت بعد ذلك في حفلة، وكان يحيط بي أشخاص مثليون ونساء. جاؤوا لي وقبَّلوني وشكروني على كتبي. عدت إلى البيت وأخبرت أمّي أنَّني لست مكروهة فقط!".
هنا نقطة هامة جداً؛ في أنّ الأوروبي ينظر إلى الكاتب العربيّ، المستشرق بالنسبة لنا، على أنّه يمثّل القيم الأوروبيّة، بينما ينظر إليه أبناء بلده على أنّه خائن!! وخائن هنا هل تُعتبر أكبر أم أقلّ من وصف "مستشرق"؟

أشهر كاتب عربي
لا يكتب بالعربيّة
لن أضيف شيئاً من عندي، بل تمّ قول ذلك منذ سنوات في الإعلام العربي بأنّ الروائييّن رفيق شامي (ولد في دمشق سنة 1946 واسمه الحقيقيّ سهيل فاضل) والطاهر بن جلون (ولد في فاس سنة 1944) على سبيل المثال لا الحصر مستشرقان. وفي نفس الوقت 

ورغم وجود العديد من الكتّاب العرب المُترجمين إلى الألمانيّة. كيف يكون كاتب ما أهم كاتب بالعربيّة ولا يكتب باللغة العربيّة؟ وذات الشيء قد يكون مع الفرنسيّين، مع فارق كثرة الكتّاب المغاربة المترجمين إلى الفرنسيّة والمقيمين فيها، وكان أحد أسباب ذلك "الاستشراق العسكري" واحتلال تلك البلدان. سيكون الطاهر بن جلوّن أيضاً في المقدمة، مع فارق أنّ بن جلّون يعتبر نفسه كاتبا فرنسيّا، وليس مغربيّاً، ولا يُجيد الكتابة باللغة العربيّة. وهنا أيضاً قد يسأل أحدنا: هل يصرّ بن جلون على النظر إليه كاتباً فرنسيّاً وليس مغربيّاً كي يتحرّر من وصف/ تهمة الاستشراق، وربّما الخيانة على حد وصف سُليماني؟

لندع الموقف الأخلاقي العام لرفيق شامي جانباً، وهذا الموقف يتلخّص بأنّ شامي لم يلتق أو يُناصر ديكتاتوراً عربيّاً، ولم يذهب إلى تلك المهرجانات المموّلة منهم شخصيّاً بسخاء، وظلّ على موقفه من أنّ الشعب السوري يرزح تحت حكم ديكتاتوريّة الأسد العائليّة، ولنتحدث عن كتاباته القصصيّة والروائيّة. هو أيضاً قدّم للألمان، كما بن جلّون للفرنسييّن، تلك الأعمال "الفلكلوريّة والعجائبيّة" والتي تأخذ كثيراً من "ألف ليلة وليلة"، لدرجة أنّ الناس لن تتفاجأ لو أصدر شامي مثلاً جزءاً خامساً من هذا الكتاب!
قرّر شامي أن يكتب بالألمانيّة في عام 1982 ولم يكن عنده جمهور لسنوات قليلة فقط، ولكن بعد أقل من خمس سنوات صار اسمه يلمع، وأهّله لنيل العديد من الجوائز الكبرى في ألمانيا، نال أول جائزة في عام 1985 وهي جائزة شاميسو، وترجمت أعماله لأكثر من عشرين لغة، صارت تُحجز صالات كبيرة لقراءاته وتوقيعه لنسخ كتبه الجديدة التي تنفد سريعاً. حتى عندما كتب مقدمة كتاب طبخ، كتبته زوجته، كان حدثاً هنا في ألمانيا. نستطيع أن نقول بأنّ شامي هو "بنك" لدور النشر التي تعامل ويتعامل معها، وربّما هذا ما جعله يقول عن نفسه ذات مرة بأنّه "أنجح كاتب سوري في العالم"، وفق شهادة للكاتب والناقد الألماني ماركوس كلاور نشرها في 25 أيار/مايو 2015. ولكن ما المقصود بالنجاح هنا؟ الجوائز؟ الترجمات؟ عدد طبعات الكتاب؟ نفاد جميع أماكن الحجز للأمسيات؟ أم ما تقوله وتقدمه تلك الكتب ومستواها الفنّي الإبداعيّ؟
جمهور شامي يحضر أمسياته بكثافة، ولا يبقى ولا مقعد فارغ في صالة تتسع لأكثر من

خمسمئة شخص، تلك الأمسيات التي لا يقل سعر بطاقة الدخول إليها عن 15 يورو، ناهيك عن الكتاب الذي لا يقل سعره عن 20 يورو. لأكثر من ساعتين يتحدّث معهم كحكواتي. لا يملّون حتى لو تحدّث لساعات. يحكي القليل عن كتابه الجديد بينما يكون الوقت الأكبر لأشياء أخرى جاء من أجلها الكثيرون. يخرجون سعداء وضاحكين وكأنّه ألقى على مسامعهم النكات الجديدة المضحكة طوال الوقت. أحد الكتاب السورييّن غادر أمسيّته ممتعضاً لأنّه استغرق طوال ساعة في الحديث عن "بدويّين" دخلا مركز مدينة حمص مع جملين. استغرق في وصف حركة الجمل، والبدويّين الذاهلين، ضمن الشوارع والسيّارات والمحلات والناس المذهولة، والجمهور مستغرق في الضحك!

ختم الاستشراق الأبديّ
إذا كتب أحد النقّاد أو أحد الصحافييّن العرب عن كتاب جديد لشامي، والذي أصدر أكثر من ستين كتاباً ونال عليها أكثر من ثلاثين جائزة، ولو كان كتاباً للفتيان، عليه أن يضع ذلك "الختم" في مقالته بأنّه مستشرق. لقد انتهى الأمر، حتى لو كتب شامي رواية مهمّة فنّياً وحكائيّاً ولا تنتمي إلى تلك المقولات، وقد حدث ذلك أكثر من مرّة، فلن يخرج من ذلك الوصف الأبديّ. حتى ولو لم يرض شامي بذلك. حتى ولو صرخ بأنّه سوريّ قبل أن يكون ألمانيّاً فلن يضع أحد ألمه ومنجزه في الكفّة المقابلة لكفّة الاستشراق.

السوق وفهم
شروط اللعبة
دور النشر في أوروبا هي شركات ربحيّة بكلّ معنى الكلمة، وهذه الشركات لها مندوبوها ومحرروها وصحافيوها ومذيعوها وكذلك نقّادها وقراؤها. هنا من السهل أن نقول عن حركة النشر بأنّها "سوق الكتب"، التي لها صحفها ومجلاتها وقوائمها الطويلة والقصيرة ومعارضها وجوائزها، والجميع يدخل في تلك الدوّامة السوقيّة والربحيّة والماليّة، ولكن هناك مَن يعرف متى يخرج منها، أو يبقى بشروطه وليس وفق شروط السوق.
قد يدخل كتاب ما فجأة لأنّه يُحرك دماغ الأوروبيّين بملعقة الاستشراق الكبيرة، كما حصل مع ترجمة "الخبز الحافي" و"برهان العسل" و"عمارة يعقوبيان" وكثير من الروايات العراقيّة والسوريّة التي تتحدّث عن العنف والجنس والثورة والديكتاتور، وذلك الكتاب عن أول امرأة سعوديّة تقود سيارة في بلدها في القرن الحادي والعشرين، وبقيّة الروايات من كاتبات خليجيّات. لكنّها أعمال مؤقتة، موسميّة، تأتي وتذهب خلال فترة قصيرة، حتى أعمال نجيب محفوظ كانت مؤقتة بسبب نيله نوبل، وانتهى الأمر. ودور النشر لا تحتاج مثل هذه "الفقاعات"، المؤقتة زمنيّاً، ولكنّها أيضاً لا تركض وراء أولئك الكتّاب الذين يُعزّزون الأفكار النمطيّة عن شرق "الحريم والجنس والديكتاتوريّات". لدى دور النشر دائماً حركتها التي لا تتوقّف على كاتب وكتب معيّنة. ولكن هناك مَن يُقدّم نفسه كي يدور في تلك الدوّامة ولا يخرج منها، ظاناً أنّ الشهرة وصلت، وكذلك الأموال والترجمات، ناسياً أنّنا لن نغفر له الاستشراق. بمعنى آخر، تحتاج دور النشر ما يدوم مثل كتب الروائي الألماني/ المصري حامد عبد الصمد (1972) التي هي أكثر قرباً لفكرة الاستشراق لدى نُقّادنا، فروايته "وداعاً أيّتها السماء" (صدرت عن دار ميريت 2008 المصريّة) أدت ترجمتها إلى الألمانيّة إلى رواجها بسبب تطرّقها إلى قضيّة اغتصاب الأطفال في مصر والكوارث النفسيّة التي تترتّب عليها. ثمّ تحوّل لناقد إسلاميّ

مُعتمد في الجامعات والقنوات الألمانيّة. لو بقي عبد الصمد في مصر وتابع نشر كتبه في القاهرة، ولو تُرجمت تلك الأعمال إلى اللغات الأخرى، لما أهداه أحد ما وصف "المستشرق". ولكنّه سافر إلى ألمانيا؛ بحجّة تلقيه تهديدات بالقتل من جماعة إسلاميّة، واكتسب جنسيّتها وصار منظراً لكتابه "سقوط العالم الإسلامي". هل هذه الأفكار تُبرّر نعت أعمال عبد الصمد بالاستشراق؟
دار "هانزر" الشهيرة احتكرت أعمال شامي والعراقيين نجم والي وعباس خضر، والأخيران يُقدّمان أعمالاً عن العراق والعالم العربيّ، على الرغم من أنّ والي تُعتبر أعماله أكثر سياسيّة من شامي وخضر، ولكن هل الثلاثة، وهم مختلفون فنّياً وفكريّاً، يُقدمون أعمالاً استشراقيّة؟ هذا الوصف بحاجة لتدقيق كبير قبل إطلاق أحكام قد لا تُمحى لعقود من الزمن.
لو نظرنا إلى الكثير من الأعمال التي تنشر في العالم العربي، لوجدنا أنّ الكثير منها يطفو على بحيرة الأفكار الاستشراقيّة، ولكن أصحاب تلك الأعمال ما زالوا في بلدانهم. بمجرّد أن يذهب الكاتب إلى هناك، ويُقيم في البلدان الأوروبيّة، ويتحدّث عن القضايا المعروفة والمثيرة في ذهن المتلقّي الغربيّ، واضعاً جانباً روايته وفنّيتها، ويُصبح شخصاً لامعاً إعلاميّاً ويتلقّى عشرات الآلاف من اليوروهات أو الدولارات، فالنقاد عندنا سيتركون أيضاً روايته وفنّيتها جانباً، ويدفعونه، بلا رحمة، إلى حفرة الاستشراق العميقة.
الكاتب العربيّ المستشرق، وفق خلاصات الأقوال والانتقادات، هو ذاك الكاتب الذي يذهب إلى الغرب، سواء طواعية أو دراسيّاً أو بسبب تأمين حياته وأفكاره، ويفهم لغة السوق والوصفة السحريّة غير المكتوبة لدور النشر عن الشرق، ويهضمها ويعمل تحت سقفها من خلال كتبه التي يُقدمها بشكل ربّما تفوق ما يطلبه الناشر حتى، ولو من خلال ملاحظاته أو من خلال ملاحظات محرّر دار النشر، ثمّ يبني تلك العلاقة مع الإعلام والجمهور من خلال الحديث عن ذلك الشرق، عن ذاك العالم الآخر وليس الثالث، بشكل يُثير رعب المستمعين أو يُثير ضحكاتهم واستهزاءهم. أمثال هذا الكاتب يُصبحون "عُمّالاً" ماهرين وحاذقين في سوق النشر تلك وليسوا أرباب فنّ أو مهنة فنّية.

* كاتب سوري مقيم في ألمانيا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.