}

زيارة أستراليا.. نبقى بعد كل شيء "عالماً ثالثاً"!

شيرين أبو النجا 19 سبتمبر 2019
آراء زيارة أستراليا.. نبقى بعد كل شيء "عالماً ثالثاً"!
أسطورة الاندماج الثقافي والتفاعل مع الآخر غائبة تماما(Getty)

أُتيحت لي فرصة زيارة أستراليا من فترة وجيزة، فقد كنت مدعوة لحضور مؤتمر الأدب العالمي والجنوب العالمي- المصطلح الذي تم صكه من قلب دراسات ما بعد الكولونيالية الأحدث- والذي نظمته جامعة سيدني. لم أكن أحمل أي توقعات لذلك البلد ولم تكن لدي أية أفكار مسبقة، بالرغم من الجهد الذي أبذله دائما قبل زيارة أي بلد جديد لمعرفة طبيعة المكان. كل ما كنت أعرفه هو أن السكان الأصليين هناك اسمهم "أوريجينالز". لم ألتق بأي شخص من السفارة فالأمر كله كان عبر الإنترنت، حتى أن التأشيرة وصلتني بالبريد: مُجرد ورقة. لكن في الطائرة من دبي إلى سيدني بدأت تراودني بعض الأفكار. فقد استغرقت الرحلة 15 ساعة (فهمت لماذا يهاجر الناس بلا عودة)، وقناعتي هي أن البعد الجغرافي يخلق الكثير من المناطق الغامضة عن الآخر سواء كان إنساناً أو مكاناً، فإما نُشيطن الآخر أو نقدسه أو نتجاهله. بشكل عام ترسخت أستراليا في وجداننا كمكان للهجرة يحوله خيال المهاجر من الجنوب إلى يوتوبيا، بالرغم من أنها هجرة من الجنوب إلى الجنوب. 
بدا لي افتتاح المؤتمر متسقاً مع الفكرة التي يطرحها، فقد ألقت الكلمة الافتتاحية أليكسس رايت، وهي كاتبة أدبية وناشطة في حقوق الأرض من السكان الأصليين، وبعد أن تكلمت كثيراً عن أدب السكان الأصليين وكيف أنه مُهمش ولا يتم التعامل معه بوصفه جزءاً من الأدب الأسترالي بل بأنه ما بعد كولونياليّ شرحت مسألة نضالها في مجال حقوق الأرض، وكانت تقصد الأرض التي يعيش عليها السكان الأصليون وتحديدا منطقة كوينزلاند وهي في الشمال الشرقي من القارة. يعيش السكان في هذه المنطقة منذ قبل الميلاد لكن المستعمر الأبيض الذي وصل عام 1606 لم يتركهم لحالهم بالطبع. ومنذ ذلك الحين تحولت المنطقة إلى مطمع كبير للحكومات المتعاقبة حتى يومنا هذا. وظل الرجل الأبيض هو الذي يتولى السلطة على المنطقة بأكملها بوصفه يحمل "عبء الرجل الأبيض" كما أكد روديارد كيبلنج في قصيدته التي تحمل نفس الاسم، والتي ألقاها عام 1900 في اليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا وفي إشارة إلى استعمار الفليبين. كانت المفاجأة هي معرفة ما أرادت الحكومة الأسترالية البيضاء فعله تجاه السكان الأصليين: أرادت ترحيلهم إلى نيوزيلندا، لكن القرار توقف بفعل جهود العديد منهم كأليكسس رايت وكلارينس والدون، وهذا الأخير هو الذي أنجزت عنه رايت فيلما تسجيليا وعرضته. تكلم الرجل في الفيلم عن نشأته التي تحكمت فيها الإرساليات التبشيرية وكان يتم جلده لأهون خطأ، بل إن الأطفال كانوا ينتزعون من أهلهم ليتم تربيتهم فيما يشبه مستعمرات منفصلة. وشرح كيف ناضل أهل كوينزلاند من أجل الاحتفاظ بأرضهم إلا أن الحكومة تمكنت من شق الصف (بالحيلة الكلاسيكية: فرق تسد) ونجحت في الحصول على موافقة السكان على البناء على أرضهم لتدخل الأرباح في مكان آخر.

غيتوات منعزلة

يقوم المجتمع الأسترالي على المهاجرين الذين يعيشون في غيتوات منعزلة، فأسطورة الاندماج الثقافي والتفاعل مع الآخر غائبة تماما- حقا خطاب دعائي ليس إلا. ويتحدث كل غيتو لغته ويأكل في المطاعم الخاصة به ويحافظ على ثقافته. ويتعامل معهم الأسترالي بوصفه الرجل الأبيض، بل إنه يقول "أنا أبيض"! وعندما سمعت هذه الجملة في أحد تجمعات المؤتمر فكرت أن أشد انتقام هو أن أضحك بصوت عال. وعندما نظر إليّ الرجل بتساؤل (بريء) قلت له إن آخر مرة سمعت مثل هذه الجملة كان في رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد. لا يهم النقاش الذي تلا ذلك لأنه كان مجرد خطاب يعتمد على ما جاء في الكتب وليس الواقع الذي شهدته بنفسي، وكأن استضافة السكان الأصليين في المؤتمر كان فعلا بمثابة غسل ضمير أمام "الضيوف". لا ننكر أن العنصرية عادت مرة أخرى في العالم بأكمله وهي نتيجة طبيعية لصعود السلطات اليمينية، لكن العنصرية المتجذرة في خطاب الحياة اليومية في مجتمع سيدني تنتمي إلى عنصرية القرن التاسع عشر، واضحة ومباشرة ومعلنة ومتغلغلة في مناحي وتفاصيل اليومي والعادي والمألوف، كما أنها معادلة معلومة لدى الجميع بما يفرز تواطؤاً من جميع الأطراف.
في ظل هذه المعادلة المرتكزة على العنصرية الفكرية والنفسية يبدو "الغزو" الصيني لمدينة سيدني بمثابة مفارقة تكمل الصورة، إذ لا تنتعش العنصرية بدون معايير مزدوجة. فالحكومة الصينية تمول جزءا كبيرا من ميزانية الجامعة في شكل أنشطة ومشروعات بحثية في مقابل أن يتم قبول الطلاب الصينيين في جامعة سيدني بغض النظر عن مستواهم، وهو ما تفعله الجامعة، والنتيجة أن العديد من هؤلاء الطلاب لا يفهم الإنكليزية. وبدورهم يتكلم الصينيون لغتهم ولا يبدون مهتمين بالاندماج في المجتمع الأسترالي، وكأن الدائرة تتسع وتتسع حتى لا يمكن رؤية المركز.
في جلسة أكاديمية أخبرت الأستاذة راوين كونيل- والتي كتبت عنها من قبل- أن ازدواجية المعايير والتمييز يجعلان سياسات الهوية في المجتمع الأسترالي مشابهة لسياسات الهوية في العالم العربي، فلم التعجرف والإصرار على رفض منح الآخرين تأشيرة مع تعمد قراءة العالم العربي من رؤية إثنوغرافية متعالية، فقالت: إن أستراليا هي جزء من الجنوب العالمي ولا نختلف عنكم في شيء سوي البعد الجغرافي عن كل البلدان، نحن جنوب الجنوب. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.