}

أين اختفى عرب الأدب الهولندي؟

عماد فؤاد 26 يناير 2020
آراء أين اختفى عرب الأدب الهولندي؟
من اليمين: المرابط، نصر، بنعلي، بوعزة، البزاز، ستيتو
قبل عشرين عاماً من الآن، وفيما شكّل ظاهرة لافتة على ساحة الأدب الهولندي آنذاك، برزت على سطح الحركتين الثّقافيتين في أمستردام وبروكسل أسماء عربيّة عديدة لكُتَّاب وشُعراء شباب، ينافسون على أهم الجوائز الأدبيّة في البلدين المتحدّثين بهذه اللغة الصّغيرة، هولندا وبلجيكا. واستطاع عدد كبير من هذه المواهب اللافتة أن يقتنص أغلب الجوائز الأدبيّة المرموقة آنذاك، سواء أكانت في الشِّعر أو الرّواية، ما عجّل باحتلال أصحابها قوائم "الأكثر مبيعاً" وصدارة المشهد الأدبي في البلدين. ومن جهتها؛ انتبهت السّاحتان الأدبيّتان في أمستردام وبروكسل إلى هذه المواهب ذات الأصول الأجنبيّة التي تضخُّ إبداعها مباشرة في اللغة الهولندية، والتي اكتسبها أبناء المهاجرين فكتبوا من خلالها أزماتهم مع قضايا الهويّة في بلاد اللجوء. أمّا اليوم فحين نبحث عن أصحاب هذه الأسماء، سنجد أن أغلبها قد اختفى أو توارى حضوره الإبداعي، ومنهم من توقّف عن الكتابة منذ عشر سنوات أو يزيد، فيما اكتفى بعضهم بالمساحات المحفوظة لأعمدتهم ومقالاتهم في المجلّات الأدبيّة وملاحق الصّحف الثّقافية!

بدءاً من السّنوات الأولى للألفيّة الجديدة، التفتت الحركة النّقديّة الهولنديّة بقوّة إلى تجارب هؤلاء الشّباب الإبداعية، خاصّة في الرّواية والشِّعر، بحرص حقيقي، وكان السّر في ذلك ما استشعرته الحركة النّقدية في كتابة هؤلاء من نكهات مغايرة لم يعرفها الأدب الهولندي من قبل، وبرزت أعمال أدبيّة لافتة لهذه الأسماء التي انتمت إلى جيل الهجرة، فهم في غالبيتهم كُتَّاب من مواليد السّبعينيّات، أبناء الجيل الذي تمّ استقدامه من المغرب وتركيا أوائل ستينيّات القرن الماضي، ليكونوا عمّالاً في المناجم البلجيكيّة والهولنديّة.

من بين هذه الأسماء التي لا تخطئ الأذن وقعها العربي، الكاتب الهولندي حفيظ بوعزة (1974)، والذي بدأ نشر قصصه القصيرة أواخر التّسعينيات، وتميّزت أعماله ذات العوالم السّحرية بأجوائها الصّحراويّة النّابعة من أصوله المغربية وعشقه لـ"ألف ليلة وليلة" والشِّعر العربي القديم. كما صعد نجم الشّاعر الهولندي رمزي نصر (1974)، المولود لأب فلسطيني وأم هولنديّة يهوديّة، وكان أوّل شاعر من أصول عربيّة يتمّ اختياره شاعراً لمدينة أنتويرب البلجيكيّة، ما تسبّب وقتها في صدام إعلامي كبير بين نصر والجالية اليهوديّة الضّخمة في المدينة، وصل إلى حد أن وصفت وسائل الإعلام الهولندية هذا الصراع عام 2005 بـ"قضيّة رأي عام"، ولم ينج رمزي نصر من اتهامه حينها بمعاداة السّامية من قبل اللوبي اليهودي المتشدّد في بلجيكا. ولكن بعد مرور 4 سنوات على هذه القضيّة "الفلسطينيّة/اليهوديّة" كما وصفتها الصّحف آنذاك، تم اختيار رمزي نصر في 2009 ليكون "شاعر البلاط الهولندي" وهو اللقب الذي ظلّ نصر محتفظاً به حتى يناير/كانون الثاني 2013. كما برزت أسماء ذات أصول عربية أخرى، من بينهم المغاربة: مصطفى ستيتو (أيضاً مواليد 1974) وعبد القادر بنعلي (1975) وجمال وارياتشي (1978) ورشيدة المرابط (1970) ونعيمة البزّاز (1974) وغيرهم، ما أثرى ساحة الأدب الهولندي وقتها، وضخّ فيها دماء ونكهات أدبيّة جديدة.

خفوت واختفاء

اليوم اختفت أغلب هذه الأسماء أو توارت، فالشَّاعر مصطفى ستيتو (1974) ذو الأصول المغربيّة لم يقدّم جديداً بعد العام 2013، الذي أصدر فيه مجموعته الشّعرية الرّابعة والأخيرة "المعبد". وكان ستيتو قد أصدر قبلها ثلاث مجموعات شعرية لافتة كان أوّلها: "أشكالي" 1994، والتي قال كبير الشعراء الهولنديّين الأحياء ريمكو كامبرت بعد قراءتها قولته الشّهيرة: "أخيراً شاعر"! وبعد أربعة أعوام أصدر ستيتو مجموعته الشّعرية الثّانية "أشعاري" عام 1998، ثم مجموعة "خنزير البطاقات البريديّة الوردي" في 2003، والتي نال عنها جائزة VSB الشِّعرية عام 2004، وقالت لجنة تحكيم الجائزة عن قصائد ستيتو حينها: "تحفل قصائده بالهويّات الثّقافيّة المتداخلة بعضها ببعض، تارة في ارتباط وتآلف، وطوراً في صراع وجدل مستمرّين. نجد حضوراً شفيفاً للثّقافة الإسلامية إلى جوار حضور آخر ومواز للثّقافة الهولندية الرّاهنة، في مزيج شعري ولغوي متماسك".

أمّا حفيظ بوعزة، الذي فاجأ الوسط الأدبي الهولندي بروايته الأهم "بارافيون" في بداية 2004، ونال عنها جائزة "البومة الذهبية" كأفضل رواية لعام 2005، فقد توارى عن الأنظار ودخل في دوّامة من الأزمات الخاصة، بعدما كان الوسط الأدبي الهولندي قد تنبأ له أن يكون "أمين معلوف اللغة الهولندية" الجديد، بل واعتبر الكثيرون وقتها أن حصول بوعزة على الجائزة، لهو مؤشر واضح على أن إحياء الأدب الهولندي سيكون على أيدي هؤلاء الكُتّاب الجدد من ذوي الأصول الأجنبيّة، وعلى رأسهم حفيظ بوعزة الذي: "استطاع أن يمزج بين خصائص الثّقافتين العربيّة والهولنديّة ليصنع نسيجاً جديداً على الأدب الهولندي لم يسبقه إليه أحد"، وفقاً لتقرير لجنة تحكيم الجائزة عام 2005.
قبل 6 أعوام من الآن، وتحديداً في العام 2014، عاد اسم حفيظ بوعزة إلى الواجهة من جديد بعد اختفاء طال، إثر صدور روايته "ميرسوين" والتي أثارت من الضّجة والنّقاش في الأوساط الأدبية الهولندية والبلجيكية حينها ما كان كافياً لتحقيق الكثير من المبيعات. وكان السرّ في هذا الانتشار السّريع هو موضوع الرواية الذي يمكن وصفه بـ"الفضائحي". حيث عالج بوعزّة إدمانه الشخصي على الكحول والمخدّرات لسنوات طويلة في أحداث الرواية، سارداً مأساة اقترابه الحثيث من الموت بعد إصابته بنزيف حاد، وهي التجربة التي أدخلته المشفى ثلاث مرات، واتّخذها بوعزة لتكون عالماً فانتازياً وآسراً في روايته، لكن بعد صدور الرّواية لم يصدر عن بوعزة أي عمل أدبي جديد، اللهم بعض الترجمات التي يقوم بها عن العربية والإنكليزية من وقت إلى آخر.

أما رمزي نصر فانشغل بالمسرح بوصفه أحد ألمع مخرجيه وممثليه في هولندا اليوم، صحيح أنّه أصدر عدّة كتب في أدب الرّحلة في السّنوات العشر الأخيرة، وقدم أكثر من عمل مسرحي وسينمائي ناجح، إلا أن تخلّيه عن كتابة الشِّعر، الذي بدأ نشره منذ العام 2000، يبدو واضحاً حين نعلم أن آخر مجموعاته الشّعرية صدرت في خريف 2011 تحت عنوان "وطني الجديد"، والتي ضمنها نصر القصائد التي كُلِّف بكتابتها بوصفه "شاعر هولندا الرسمي"، وهي مجموعة يمكن وصفها بـ"الملتزمة اجتماعياً"، وشكلت خيبة أمل لكثير من النقاد الذين كانوا قد تحمّسوا لمجموعات رمزي المبكّرة، ومن بينها مجموعته الشّعرية الأولى "27 قصيدة من دون أغنية واحدة"، والتي لفتت إليه الأنظار بقوّة، خاصة بعد أن رُشّحت لأكثر من جائزة أهمها "سي بودينغ" الهولندية الشهيرة، وفي الأسبوع الأول من صدورها بيع منها أكثر من 2000 نسخة، وكانت أغلب قصائدها تتحدّث عن الحب بشكل جديد على اللغة الهولندية.
ولم تختلف عن مصير الأسماء أعلاه أسماء أخرى ذات أصول عربية كانت ملء السمع والبصر على الساحتين الأدبيتين في هولندا وبلجيكا قبل عقدين من الآن، منها مثلاً الروائية البلجيكية رشيدة المرابط (1970) ذات الأصول الأمازيغية المغربية، فبعد روايتين لافتتين قدمتهما المرابط هما: "مرسيدس 207" عام 2006 و"أرض النّساء" في 2007، لم تقدّم بعدهما إلا مجموعة قصصية صدرت في 2008 تحت عنوان "ابن الله"، والتي حصلت عنها على جائزة الأدب الجديد من هولندا عام 2009.

استثناء

الاسم العربي الوحيد الذي يمكن لنا أن نستثنيه من هذا الغياب عن ساحة الأدب الهولندي اليوم، هو الهولندي من أصل مغربي عبد القادر بنعلي (1975)، والذي يُعتبر من أغزر أبناء جيله إصداراً للأعمال الأدبية، فله الآن ما يزيد عن العشرين مؤلّفاً في الرواية والمسرح والشّعر وأدب الرّحلات وصولاً إلى كتب الطبخ.. لم لا وهو يعلن بنفسه على موقعه الشخصي أنه "مقاول كتابة"، يكتب ما يُطلب منه! أصدر بنعلي روايته "فيلدمان وأنا" عام 2006، ثم توالت أعماله، ومن بينها: "الفنان الأبدي" الذي كتبه تكريماً لعميد الأدب الهولندي هاري موليش وصدر في 2007، رواية "عدّاء الماراثون" 2007، رواية "صوت أمي" 2009، نوفيلا "متحف الأحبّاء المفقودين" 2009، رواية "عدّاء الرّمل" 2010، وأخيراً روايته "ولد سيِّئ" في 2013.

تختفي هذه الأصوات أو تتوارى اليوم، ليظهر جيل أحدث من أبناء اللاجئين على ساحة الأدب الهولندي الرّاهن، جيل جديد أصغر عمراً لكنّه أكثر ارتباطاً بتقنيّات العصر التّكنولوجي الذي نحياه اليوم، حيث تحوّلت القصائد لدى أبنائه إلى ألعاب لفظية تُلقى على مسارح الـ"ستاند أب كوميديان"، ليضحك الجمهور الأوروبي من مشاكل اللاجئين وعدم قدرتهم على الاندماج في المجتمعات التي ولدوا ونشأوا فيها. وتحوّلت الروايات لدى كُتَّابه إلى ساحات صراع للهويّات المتناقضة التي خلقتها المذاهب الدينيّة المختلفة واللهجات المحلِّية وصدامها الدّائم مع قوانين البلاد الأوروبية. وتجلّى هذا الصّراع الكبير في هويّة الجيل الثّالث من أبناء اللاجئين العرب في أوروبا بقوّة مع بدء معايشة أبنائه لأزمة اللجوء التي تشتدّ مع حلول سنوات التّغيّرات الكبرى في العالم العربي، أو ما عرف باسم الربيع العربي، ولم يكن مستغرباً أن تدرك الأحزاب الأوروبيّة على اختلافها فشل سياسات الاندماج التي قطعوا فيها أشواطاً على مدى عقود وعقود، وهم يكتشفون أن من بين أبناء هذا الجيل الثّالث للمهاجرين، خرجت فرق الانتحاريين التي قامت بتفجيرات باريس (نوفمبر/تشرين الثاني 2015) وبروكسل (مارس/آذار 2016)!


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.