}

صالح علماني.. شغف الترجمة

راسم المدهون 9 يناير 2020
آراء صالح علماني.. شغف الترجمة
صالح علماني (1949 - 2019)
تختلط صورة الراحل صالح علماني في ذهني بصور أصدقاء عديدين كانوا معنا في اللقاء الأول وتبدو اليوم رغم بعد الزمن محمَلة بحماسة التفاؤل والرغبة في تحقيق شيء خاص لا يفعله سواه. صالح في تلك البدايات الأولى تحدَث كثيرا عن إسبانيا ولكنه رغم ذلك كان دائما يعود إلى ما يشبه بؤرة تلك الإهتمامات كلها، إلى غابرييل غارسيا ماركيز وبالتحديد إلى روايته الأشهر "مئة عام من العزلة".

عشقه لتلك "الرواية الكبرى" كان يمتزج دائما بحديثه عنها كرواية مفصلية في الأدب الروائي العالمي الحديث. يتعلق الأمر هنا بقيمتها الفنية ولكن أيضا بما ستخلقه في حياتنا الأدبية من صخب واهتمام بتيار "الواقعية السحرية" الذي كان يرى أنه أهم ما يميز أدب أميركا اللاتينية وأدب ماركيز بالذات.
كنتُ في مقابل فرحه ذاك بماركيز أرى صورة إسبانيا التي جاء منها صالح لتوه تكاد تنحصر في شاعري الأثير فيدريكو غارسيا لوركا وهو لم يخف يوما ولعه بلوركا لكنه كان يعلي انحيازه للرواية كجنس أدبي، مثلما يرى ماركيز عالما سرديا بكرا لم نكتشفه كعرب، ونحتاج لقراءته أكثر من احتياجنا لأي أدب آخر. هو ولعه الذي جعلنا نثق أن رواية "مئة عام من العزلة" ستكون أول ما يترجمه ويدفعه لقراء العربية، لكن ذلك الحلم انكسر فجأة حين صدرت الرواية بترجمة مشتركة للأخوين سامي وإنعام الجندي ومن خلال لغة ثالثة وسيطة هي الفرنسية.

تلك الترجمة التي تناقلتها الأيدي وأحدثت دويا هائلا في حياتنا الثقافية العربية حملت لصالح علماني غصة أخرى. جاءني يوما وهو يحمل نسخة الرواية التي ترجمها الأخوان الجندي وعليها ملاحظات كتبها بالقلم الرصاص كتبها على حواشيها وكان بعضها قليل الضرر، لكنني فوجئت أن بعضها الآخر كان فادحا كما قلت له يومها. تلك الاختلافات التي وصفتها بالفادحة كانت تبتعد في معناها عن المعاني التي قصدها ماركيز وتذهب بالقارىء نحو مناخات أخرى بعيدة كان صالح يرى أن بعدها يضعها خارج عالم ماركيز وغاياته التي ظلت كما كان يؤكد حاضرة في النص الأصلي بالإسبانية.


موت الزمن
بدأ صالح علماني رحلته مع ترجماته لماركيز بل ومع الترجمة عموما برواية ماركيز الأصغر والتي كثيرا ما جادلته في اعتبارها روايته الأهم، وأعني "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه". كانت رواية تحدق في رأيي في قضية كبرى تتعلق بحياتنا العربية هي "موت الزمن"،

فباستثناء عنوان عابر يراه "الكولونيل" كمانشيت جريدة يشير إلى "حرب السويس" لم تحمل الرواية أية إشارات إلى زمن وقوع أحداثها. مع ذلك لم يخل صدور تلك الترجمة من طرائف؛ نشرت الرواية "دار الفارابي" اللبنانية والتي كان يمثلها في دمشق المبدع الراحل سعيد حورانية، ما جعل الدار تطبع تلك الترجمة منسوبة لشخصين، إذ وضعت عبارة ترجمها صالح علماني بخط صغير ومعها عبارة كتبت بخط أكبر وتقول: راجعها سعيد حورانية، رغم أن حورانية لم يكن يعرف الإسبانية، حتى أن الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان أطلق بشأن تلك الطبعة دعابة تقول "راجعها سعيد حورانية من لغة لا يعرفها إلى لغة لا يعرفها". عموما كانت "الكولونيل" فرحا خاصا لنا ليس لأنها أولى ترجمات صالح عن الإسبانية وأدب أميركا اللاتينية وحسب، ولكن أيضا – وهذا بتقديري هو الأهم – بما أشاعته تلك الرواية من دهشة دفعت إلى جدالات لا تحصى عن مفهوم الواقعية في الأدب وما يتصل برؤانا للواقعية الاشتراكية ومعنى "الالتزام"، وهي جدالات تجاوزت عالم الرواية إلى الشعر وخصوصا نماذجه الكبرى في الشعر الإسباني (لوركا، ألبرتي، نيرودا) وتحديدا المباشرة ومسألة الموضوع المباشر والصراعات الكبرى وكيفية حضورها في الشعر.
صالح علماني نقل لي عدوى شغفه بأدب أميركا اللاتينية حتى أنه خصني في مرات كثيرة بمنحي متعة قراءة بعض تلك الأعمال من خلال قراءة فصولها خلال ترجمتها، وأذكر هنا أننا تناقشنا أحيانا عن الكلمة التي تناسب هذا المعنى أو ذاك إذ سألني مرة عن كلمة تناسب رجلا يعمل في استخراج الفحم أو بيعه، ووجدتني أتذكر عنوان أحد الأفلام السينمائية الجزائرية وهو "الفحام" فضحكنا معا وتوافقنا معا على أنها الكلمة المناسبة. كان يرغب في الابتعاد عن اللجوء إلى التعريف بالمعنى في الهامش وكنت أتفق معه على أن ذلك يخرج القارئ – وخصوصا قارئ الشعر – من تركيزه. ولصالح علماني وحده أدين بأهمية نيرودا كشاعر رغم الترجمات الرديئة التي جعلتني أراه شاعرا رتيب السطور وأكتشف ما ألحقته تلك الترجمات بشعره من طعنات كان سببها صدور تلك الترجمات عن حماس أيديولوجي أكثر من اتصالها بعشق الشعر كجنس أدبي يحمل خصوصيته وعلاقته البالغة الحساسية باللغة ووسائل التعبير، ولكن تلك حكاية أخرى تحتاج وقفة أطول أكبر وأكثر دقة.


اللاجئ
صالح علماني هو أيضا لاجئ فلسطيني من لاجئي مخيم حمص، أي أنه أيضا إبن مخيم الصديق الراحل الشاعر أحمد دحبور. تلك ليست مجرَد معلومة وحسب، ولكنها حملت لسهراتنا التي لا تحصى كثيرا من نوادر طفولة لاجئين عاشوا صورا في حالات فقر وعوز جعلت الراحل دحبور يقول لنا إنه طيلة تلك السنوات كان يرى عائلة صالح علماني عائلة مترفة وغنية بالنسبة لعائلته وها هو يكتشف أنهما كان في الفقر شرقا كما كنت أقول لهما. كنا نبتعد، أو لأقل تباعد بيننا الحياة وظروفها وأحوالها، لكننا كنا نظل قريبين مهما فصلت بيننا المسافات ولا أنسى أن لقاءاتنا وأحاديثنا "الفيسبوكية" خلال السنوات الأخيرة كانت وسيلتنا الوحيدة للتواصل ومتابعة ما انقطع من تفاصيل حياتنا.


اليوم وقد رحل صالح علماني عن عالمنا أتأمل حقيقة كبرى: كيف استطاع مترجم بهذا العمر القصير زمنيا أن ينجز كل ما ترجمه وكأنه مؤسسة وليس فردا؟
هي بالتأكيد ترجمات غزيرة وبالغة التنوع ولكنني أجزم أنها – دون استثناء – صدرت عن حب، فهو لم يترجم سوى الآثار الأدبية التي أحبها والتي رأى فيها ما يستحق أن ينقله إلى اللغة العربية والقراء العرب. تلك مسألة على درجة كبيرة من الأهمية تجعلنا نرى أهمية تلك الحصيلة الغنية من الترجمات وحاجتنا اليها أمس واليوم وغدا، خصوصا وأنها ترجمات تنتمي – غالبا – إلى الجنس الأدبي الأشد اتصالا بالحياة اليومية للناس في العالم وفي منطقتنا العربية بالذات.
هو في البال أيضاً الصديق الذي جمعتني به الألفة ورفقة أيام كانت في العموم صعبة ولكنها كانت أيضا حميمة وتحمل المودة والكثير الكثير من الحوارات حول الأدب والحياة ومعهما أيضا شؤون وشجون فلسطين وما يتصل بها من أحداث وصراعات كبرى عشناها ولا نزال، وعاشها ذلك الفتى الذي ولد في مخيم "الثكنة" الفرنسية في حمص وكان يحدثني بشغف وحرقة عن بلدة صغيرة في فلسطين اسمها ترشيحا كان ينبغي أن تكون مسرح طفولته وملاعب شبابه بل عمره كله وظل طيلة الوقت مشدودا إليها متوحدا مع صورتها وقصصها وحكاياتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.