}

السجن الإلكتروني الكبير

عارف حمزة 16 مارس 2020
آراء السجن الإلكتروني الكبير
لوحة للرسام الإيطالي توتويتو جاكوبو (1518 ـ 1594) (Getty)
وصلني إيميل في بداية هذه السنة من شركة جوجل بعنوان "مستجدات مخططك الزمنيّ خلال عام 2019". وتفاجأتُ بشكل كبير بدقة المراقبة التي وضعتُ نفسي تحت عيونها بمجرّد استمرار تشغيلي لميزة "الموقع" في موبايلي.
ميزة الموقع يحتاجها أحدنا لمعرفة الأماكن وأحوال الطقس في المكان الذي هو فيه، وكذلك لمواعيد الحافلات المحليّة، وكذلك في التسوّق، وفي معرفة الخرائط خلال قيادة السيارة.
كنتُ أشعر بالمراقبة الإلكترونيّة الشديدة خاصة عندما تصلني إشعارات تتعلّق بحياتي الشخصيّة؛ كأن تأتيني رسالة تُنبّهني إلى أن الحافلة التي سأستقلّها من العمل إلى البيت ستنطلق بعد عشر دقائق!.
وهذه الرسالة لا تأتيني بشكل متكرر كل ساعة أو نصف ساعة، بل قبل انتهاء عملي في الساعة الثانية ظهراً. وكذلك قبل ذهابي من البيت إلى العمل، وفي عطلة نهاية الأسبوع لا يُرسلونها لي. وكأنّ مستر جوجل يعرف بأنّ عملي يبدأ في التاسعة صباحاً وينتهي في الساعة الثانية ظهراً، ولذلك يُنبهونني إلى وقت انطلاق الحافلة من وإلى البيت، وكذلك يُبيّنون لي حالة الطريق، كالإزدحام والأمطار.
عندما أذهب إلى مطعم أو فندق أو إلى مركز تسوّق، يهمس مستر جوجل في أذني، من خلال إشعار، فيما إذا كنتُ أعرفُ هذا المكان، وفيما إذا كنتُ أرغب بتزويدهم بصور للمكان الذي أنا فيه!
ميزة الموقع، أو تشغيل الخرائط، أصلاً تُعطيك المعلومات الكثيرة عن المكان الذي أنت فيه، أو ما حوله، من مطاعم وفنادق وسينما، وعن أسعارها وبرامجها الجديدة وعن المأكولات وساعات الدوام فيها، إضافة إلى الكثير من الصور. لماذا يحتاجون إلى صور أخرى مني؟


العقليّة الألمانيّة
كتب لي صديقي "توربن" قبل أيام عبر الواتس أب، بأنّه قرّر أخيراً الاشتراك في هذه الخدمة المجانية لحد الآن.
ابتسمتُ وأنا أتلقى رسالته التي لا يكتبها مثل مستخدمي الواتس أب، بل يرسل لك وكأنه يكتب لك إيميلاً. وتذكرتُ كلامه الكثير عن خشيته على "حرّيته الشخصيّة" من خلال استخدام برامج مثل الواتس أب والانستغرام والفيسبوك وكذلك برنامج الخرائط.
توربن هو شاب في الأربعين من عمره، أي أنه لا يحمل عقليّة المسنّين الذين يُفرطون في ابتعادهم عن التكنولوجيا الحديثة. بل تربّى في كنف تطوّر هذه البرامج والعقليّة الإلكترونيّة الحديثة، وتحت يافطة العولمة التي حوّلت الحياة إلى سجن إلكترونيّ كبير، وليس إلى قرية صغيرة فحسب.
لا يستخدم توربن، ونسبة عالية من الألمان، برنامج الخرائط، أو الجي بي إس، من خلال موبايله لمعرفة مكان ما وهو يقود السيارة. ليس مثلنا نحن المهاجرين الذي نستخدم الموبايل في كل شيء تقريباً. فالموبايل نستخدمه لمعرفة التوقيت والأماكن ومواعيد القطارات والحافلات، وأحوال الطقس، والصلوات والأدعية، وكذلك للتسوق، والقراءة والكتابة وإضافة أصدقاء وحذف أصدقاء، ومعرفة عدد الخطوات التي نمشيها، وكمية الحريرات التي تلزمنا في الطعام أو التي قمنا بحرقها، وإرسال صورة فنجان القهوة لقارئة الفنجان، والاستماع إلى الراديو والأغاني والمسلسلات والأفلام والمباريات والأخبار، وتعلم اللغة الألمانية.... وصولاً إلى إرسال الرسائل والصور والإيميلات. والكثير من هذه البرامج بحاجة إلى ميزة تشغيل الموقع.
الألمان يختلفون عنا نوعاً ما، فهم يحبّون تخصّص الآلة، ولا يُحبون إرهاقها في أعمال متعدّدة. فمن أجل الخرائط يستخدمون جهاز "النافي" المثبت داخل السيارة، وليس من الموبايل. ومنهم مَن يشتري خرائط ورقيّة عندما يذهب لزيارة مدينة ألمانيّة أخرى. ومنهم مَن يشتري كتاباً خاصاً بتلك المدينة، يحتوي الأماكن المختلفة للزيارة أو النوم أو الطعام أو الترفيه، إضافة للعديد من الخرائط.


الحياة الافتراضيّة تحكم الحياة الحقيقيّة
ربّما من الخطأ إطلاق تعبير مصطلح الحياة الإفتراضية على غير مواقع التواصل الاجتماعي، التي صارت تتحكم بالحياة الحقيقيّة. فمن المستخدمين مَن صار يعيش عزلته، وأقنعته وأمراضه وجرائمه، وحياته الشخصيّة الحارة ضمن تلك الحياة الإلكترونيّة الباردة. ورويداً رويداً، ووفق نظرية الأواني المستطرقة، صارت الحياة الشخصية الحقيقية تفقد حرارتها لصالح الحياة الإفتراضيّة الإلكترونيّة.
وقبل سنوات حذّر ناشطون من أن الشركات الإلكترونيّة الكبيرة صارت تتحكم في البشر، وهذا لا يعني فقط بأن انقطاع الإنترنت قد يتسبب بكوارث صحيّة واقتصاديّة واجتماعية، بل كذلك قد تسبب بكوارث شخصيّة ونفسيّة. وأعطوا رسماً توضيحياً يبدو فيه أحدنا ممدداً على السرير، بينما خراطيم الشركات الإلكترونية موصولة إلى دواخله، وتستشري تفرعاتها داخل الأعضاء مثل مرض عضال.
وصلتني إذاً رسالة السيد جوجل، وستصلني في كل شهر إلى بريدي الإلكترونيّ، لأنني "فعّلتُ سجل المواقع الجغرافيّة"، وفيها لا يتحدث الذين قاموا بتسجيل تحركاتي عن المطاعم والفنادق والأماكن الأثرية ودور السينما والمتاحف... بل كذلك عن عدد الأماكن التي زرتُها خلال شهر. مرفقين لك بعض الصور عن تلك الأماكن لكي لا تنسى.
وفوق ذلك يُرسلون لك عدد الخطوات التي مشيتها خلال شهر. فخلال الشهر الماضي يبدو أنّني مشيتُ 25 كيلومتراً. أي سبع ساعات فقط. وهذا أمر مفهوم، رغم أنّه غير صحي، طالما أننا صرنا نقضي جزءاً كبيراً من وقتنا، ومن حياتنا، في حافلات النقل، وليس مشياً على الأقدام. ففي الحافلات المختلفة قطعتُ الشهر الماضي مسافة 544 كيلومتراً في 16 ساعة.
أما تقرير العام الماضي فكان أكثر زخماً وإثارة، إذ قال لي السيد جوجل بأنني زرت خلال ذلك العام خمسة بلدان، وذكروها لي بالإسم. وزرتُ 63 مدينة جديدة، أي بمعدل خمس مدن في الشهر. وفي تلك المدن والبلدان الجديدة زرتُ 326 مكاناً، مرفقين مع جداولهم تلك أدلة الإتهام الصارخة، من صور حتى لشرفات غرف الفنادق، التي كنتُ أطلّ منها للتدخين، ناظراً إلى العتمة التي تلمعُ في الأسفل.
سيقول لي أحدهم: أطفئ خدمة الموقع، أو أوقف تشغيل سجل المواقع الجغرافية، وسينتهي كل شيء. هذا صحيح. رغم أنني لستُ متأكداً إذا كان ذلك سيُنهي المراقبة الأبديّة، أو أنه سيسحب "خراطيم" جوجل من حياتي. ولكنني أفكر بأن ذلك قد يترك أثراً جيداً عند أولئك الذين يُعانون من الإهمال في "وِحداتهم" الطويلة والثقيلة، وسيكتفون بذلك بهذه المراقبة، وسيسعدون بأن هناك من يجد أهمية في مراقبة حياة أقل من عاديّة لشخص مهمل ووحيد مثله، وبالتالي لن يضطر لاستئجار "تحرّ" لمراقبة نفسه، كما فعل بطل رواية "ثلاثية نيويورك" لبول أوستر!

* كاتب سوري مقيم في ألمانيا

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.