}

الدولة للجميع والسلطة مناط سجال

حسن السوسي 30 مارس 2020
آراء الدولة للجميع والسلطة مناط سجال
زخرفة مغربية في قصر الحمراء، مدينة غرناطة، إسبانيا(Getty)
إن الانطلاق من كون الدولة دولة للمجتمع بأسره، وليس لفئة واحدة منه فحسب، عند تحديد السلوك السياسي، يعفي من كثير من النقاشات البيزنطية التي تقيم الجدران الإسمنتية، غير القابلة للاختراق، بين فئة أو فئات من الشعب وبين دولتهم. كما يساعد على تدبير قضايا الاختلاف بين السلطة السياسية ومختلف القوى التي لا تشاطرها الرأي، جزئياً أو كلياً، في هذه القضية أو تلك. كما قد تختلف معها على مستوى التوجهات الاستراتيجية الكبرى، وقد تعتبر نفسها، في حالات بعينها، حاملة للبديل الشامل لما هو قائم على صعيد المشروع المجتمعي كما على مستوى تدبير الشأن العام، من مواقع الحكم ومؤسساته أو من مواقع المعارضة التي تضع على عاتقها مهمة بناء نظام سياسي بديل.

وقد عايشنا مثل هذا التصور لدى ما كان يسمى اليسار الجديد أو اليسار الراديكالي في مجمل البلدان العربية خاصة بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 والتي ترافقت مع أجواء دولية ثورية عبرت عنها بوضوح انتفاضة الشباب في فرنسا في مايو/أيار 1968.


قد يقال: وأين التحليل المادي الجدلي، المتعارف عليه في عدد من أدبيات اليسار، من كل هذا، في تصور الدولة، بمختلف أجهزتها والأدوار الطبقية التي تضطلع بها، والتي هي بالتعريف في خدمة الطبقة السائدة أو المتحالفة معها فحسب؟
صحيح أن قوة الدفع الرئيسية لثورات الشباب في الغرب وفي منطقتنا كانت العقيدة الثورية اليسارية بمختلف تلاوينها اللينينية والتروتسكية والماوية آنذاك غير أن تغيرات كثيرة قد طرأت على أوضاع العالم منذ تلك الفترة بحيث يبدو أنه لم يعد مقبولاً حصر تفكيرنا وتحليلنا ضمن أطر أيديولوجية تحجب رؤية التطورات التي عرفتها المجتمعات خلال العقود الأخيرة. لذلك ورفعاً لكل التباس يحول دون الفهم المتبادل لما يجري على أرض الواقع من تطورات، ينبغي توضيح ما يلي: إن الدولة كمفهوم، في هذا التحليل، لا تختزل في مجرد أجهزتها الإدارية والأيديولوجية والأمنية والزجرية، وإنما هي جماع تطلعات الشعب وآماله ومصالحه بمختلف شرائحه الاجتماعية وتياراته الفكرية والسياسية وفي مقدمتها تطلعه إلى تأكيد وجوده ككيان سياسي مستقل وذي سيادة، ضمن كيانات سياسية إقليمية ودولية، وفي إطار العلاقات المتبادلة بين تلك الكيانات كما تحددها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وفي مقدمتها ميثاق الأمم المتحدة.

ومن هنا، فإن الصراع ينبغي أن يخرج من مناط التنافس حول امتلاك الدولة واحتكار التعبير عنها باسم ديكتاتورية البروليتاريا أو غيرها من الديكتاتوريات الشمولية ذات الطابع الديني أو القومي، ليستقر في مجاله الحقيقي وهو التنافس حول امتلاك سلطة القرار التنفيذي والتشريعي وهو ما يحدد آلياته الشرعية الدستور أو ما يقوم مقامه من عهود أو مواثيق باعتبارها القانون الأسمى للمجتمع والدولة معاً، في مختلف البلاد التي تملك مؤسسات تمثيلية تقريرية أو استشارية او انتقالية. وإذا كان أسلوب الغلبة ومصادرة السلطة بالقوة المادية والعسكرية الأسلوب السائد في مختلف أنماط النظم السياسية التقليدية في الأزمنة ما قبل الديمقراطية الحديثة، كما دلت على ذلك كل تجارب الاستيلاء على السلطة في بلدان العالم القديم، فإن الأسلوب الديمقراطي، اليوم، هو الذي يتولى تعيين القيمين على مؤسسات الدولة المختلفة. وهذا ما يفسر كيف أن البلدان التي عرفت انتقال السلطة من فئة اجتماعية أو سياسية أو عسكرية إلى أخرى، عن طريق الانقلابات العسكرية، قد وجدت نفسها مضطرة إلى اعتماد بعض الهيئات التمثيلية التي تتميز بها الأنظمة الديمقراطية الحديثة فتراها تنشئ برلماناتها أو مجالسها الوطنية أو الشعبية أو ما شابه لأنها تدرك أنه لم يعد مقبولاً اعتماد الحكم الفردي المطلق والمباشر. وهو ما تمت معاينته في تجارب سورية والعراق والسودان وغيرها، وإن بتفاوت بين تلك التجارب في بدايتها إذ انتهت في آخر المطاف إلى إفراغ تلك المؤسسات من مضامينها التمثيلية خدمة للحزب الواحد الذي يحتكر كل سلطات القرار في كل مناحي الحياة.

 

اعتماد النهج الديمقراطي
إن القوى الديمقراطية واليسارية الحقة مدعوة اليوم إلى اعتماد النهج الديمقراطي أسوة بغيرها من القوى السياسية، لأن هذا يجنب المجتمع والدولة هزات أمنية ورجات سياسية، وربما زلازل هيكلية، لا قبل لهما بها، علاوة على كونه عاملا أساسيا من عوامل جعل المشهد السياسي وخرائطه مقروئين بشكل أفضل في كل عملية تقويمية لتطبيق الآليات الديمقراطية في الآجال المحددة، وعلى ضوء البرامج السياسية المختلفة، التي تعرض على الشعب للبت فيها وتحديد أيها يختار في هذه الاستشارة الانتخابية أو تلك، إبان هذه الفترة أو تلك.

وهذا يفترض، أول ما يفترض، أن تجري تلك الاستشارات في أجواء من الحرية والنزاهة والشفافية القصوى بحيث يتمكن الشعب بأوسع فئاته من التعبير عن رأيه واختيار ممثليه في المؤسسات المنتخبة وفق ما يمليه الضمير الخاص بكل ناخب وما يعتبره الانتصار لمصالحه المشروعة والعمل على تحقيق طموحاته وتطلعاته بالطرق الشرعية السلمية والديمقراطية. لأنه الأسلوب الملائم للتنمية السياسية والدفع بالمجتمع نحو التقدم في معالجة قضاياه الوطنية والاجتماعية والسياسية الأساسية، بما فيها قضايا الخلاف حيث تحتد التناقضات وتشتد التجاذبات بما يفرض على السلطة السياسية إعادة طرح مسألة الثقة الشعبية فيها على محك انتخابات سابقة لأوانها على اعتبار أن هذه هي الطريق المثلى لتجاوز الأزمة بالأساليب الديمقراطية المنصوص عليها في الوثائق الدستورية ذات الصلة.
ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال، إلى الأسلوب الذي اعتمده المغرب في تدبير الحراك الشعبي الذي عرفه عام 2011 حيث بادر الملك محمد السادس إلى تدشين ورش الإصلاح الدستوري الشامل والذي أنتج الدستور المصادق عليه عبر الاستفتاء الشعبي في فاتح يوليو/تموز من تلك السنة، واعتبرته مختلف القوى السياسية نقلة نوعية في المجال السياسي الديمقراطي. كما يمكن استحضار تجربة تونس لما بعد زين العابدين بن علي حيث تم إعادة الاعتبار للديمقراطية التمثيلية التعددية وتم اعتبارها من أنجح تجارب ما يسمى الربيع العربي.
صحيح أن التناقضات بين مكونات المجتمع قد تتحول، ضمن ظروف ملموسة، إلى تناقضات تناحرية، في سياق أزمة هيكلية كبرى تستدعي القطع مع الأساليب التقليدية في المعالجة، خاصة عندما يتم حرفها عن غاياتها والتلاعب بمقتضياتها بطرق مختلفة كالتزوير وأساليب الإكراه المادي والمعنوي المختلفة، التي بدل أن تكون عوامل إيجابية للفعل في الأزمة والتوجه بها نحو الحل، لا تقوم إلا بتعفينها وتعقيدها ووضعها في منطقة الانفجار، أي حالة التنازع على السلطة على مستوى الشرعية والمشروعية وعلى مستوى الامتلاك، غير أن حالة التنازع على السلطة هذه، التي هي حالة استثنائية في سياق ديمقراطي طبيعي، تطرح معالجة استثنائية بالتأكيد. وقد تتراوح بين القيام بإجراءات تأسيسية جديدة متوافق عليها بين مكونات الأمة حيث يتم عرض تلك التوافقات على الشعب للبت فيها بصورة نهائية في شكل استفتاء يحولها إلى قرارات ووثائق دستورية جديدة ومرجعية في ضبط إيقاع الحياة السياسية.

كما قد تتم الدعوة إلى ندوة وطنية استثنائية شاملة لكل قوى المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية تعرض فيها مجمل التصورات على طاولة الحوار ويتم خلالها الفرز بين قضايا الإجماع وقضايا الاختلاف بحيث يتم العمل الجماعي على قاعدة الأرضيات المشتركة لتأمين استمرار الكيان السياسي وتحقيق الحد الأدنى من المصالح المشتركة للشعب على أن يتم الاستمرار في التداول حول قضايا الخلاف من خلال لجان مختصة إلى أن يتم فرز جيل آخر من الإصلاحات السياسية والإجراءات التي يقتضيها الوضع بما يسمح للدولة باستعادة قدرتها على الإشراف على مجمل العمليات السياسية للمجتمع على المدى المتوسط والبعيد وعلى أسس في مستوى رفع تحديات التنمية وبناء المستقبل المشترك لمختلف مكونات الأمة. أي بما يسمح بعودتها إلى طبيعتها الأصلية، وهي دولة المجتمع بسائر فئاته وليست دولة فئة أو طبقة بغض النظر عن اتساع أو ضيق قاعدتها الجماهيرية.

 

الطريق المسدود
قد تصطدم محاولات المعالجات السياسية بالطريق المسدود في ظروف بعينها، خاصة إذا كان النظام السياسي مغلقاً ومستعصياً على الإصلاح الذاتي،

من خلال آلياته الداخلية التلقائية أو التنظيمية، وفي سياقات ديمقراطية، وفي هذه الحالة فقط، فإن القوى الوطنية الحية في البلاد تكون مدعوة إلى اجتراح أساليب جديدة للقطع مع عوائق التغيير والتطوير بما في ذلك الانتفاضة والثورة على الوضع القائم ليس لتغيير نمط السلطة القائمة فحسب، وإنما أيضاً بما يحفظ للدولة كيانها المستقل كتعبير عن إرادة الأمة والشعب المعنيين.
ويمكن هنا عدم تجاهل أن وراء الكثير من التحركات الجماهيرية التي عرفتها مصر وسورية واليمن وليبيا محاولات للقطع مع الأفق المسدود الذي فرض على المجتمعات ولو أن نتائج تلك المحاولات لم تتخذ المنحى الذي كان ربما هدفاً للقوى الأصلية التي كانت وراءها مما أدى إلى الكثير من الحروب والحروب بالوكالة لا يبدو أنها قد تؤدي بالمجتمعات إلى استعادة عافيتها السياسية في الزمن المنظور.

*كاتب مغربي مقيم في لندن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.