}

الاسترقاق الأبديّ.. الحرية وديكتاتورية المال

عارف حمزة 4 أبريل 2020
آراء الاسترقاق الأبديّ.. الحرية وديكتاتورية المال
لوحة للتشكيلي السوري بسام الإمام
ظلّ مفهوم الحرية من المفاهيم التي حارب من أجلها الكثيرون، وحارب أيضاً ضدها الكثيرون، ومع تطور الزمن والعلم، تغيّرت الأساليب المناهضة للحرية، وكذلك المطالبة بها. وربما تغيّرت أخلاق "العبيد" الذين "إذا أمطرت السماء حريّة فتح البعض منهم مظلاته"! كما قال أفلاطون.
وربّما تعريف الحرية نفسها لم يصل بعد لشكله النهائي؛ بسبب التطوّرات المذهلة في العلم والقوانين والأنظمة، رغم وجود تعريفات تبدو من الأمور المسلم بها. فالتعريف المبسّط لهذا المفهوم يذهب إلى قدرة الفرد على اتخاذ قرار، أو اختيار شيء، من بين عدة أشياء متاحة، من دون ضغط أو إكراه أو أي قيود.
هذا التعريف، المبني على حرية الرأي أو الاختيار، من الممكن الرضى به في الدول التي تحكمها منظومة من القوانين الديمقراطية، والتي جعلت شرعة حقوق الإنسان أرضية وخلفيّة لها. بمعنى أنه توجد انتخابات ديمقراطية، ومن حق الفرد أن ينتخب مَن يشاء من بين المرشحين، وكذلك له الخيار في أن لا يُمارس هذا الحق، فهو يندرج ضمن مفهوم الحق وليس ضمن مفهوم الواجب.
ولكن هناك مَن قد يقول بأن حرية الإنسان تعني حرية تصرفّه في جسده وفي كل ما يملكه من آراء وأشياء، رغم أن تعبير "ما يملكه" يقف ضد مفهوم الحرية نفسها. إلا أن "حرية التصرف" تعني كذلك التحرر من كلّ القيود والعوائق المادية والمعنوية التي قد يضعها فرد أو جماعة.


حق الليلة الأولى
وحرية التصرف بالجسد هذه أدت لاحترام حقوق المثليين، على سبيل المثال. وكذلك أدت قديماً إلى التخلص من "حق الليلة الأولى" الذي كان ممنوحاً للكاهن، على وجه الخصوص، أو السيد أو النبيل الإقطاعي، في فض بكارة كل عروس ليلة زواجها!


ولكن حرية التصرف بالجسد مسموح بها بحسب قوانين كل دولة، وكذلك بما لا يُخالف حقوقاً أخرى، مثل حق الحياة على سبيل المثال.
والمفهوم المضاد للحرية، كما هو معروف، هو العبوديّة، التي "كانت" ميّزة بيد البشر دون غيرها من الكائنات. فالاسترقاق كان دوماً واقعاً من الإنسان القويّ المالك للسلطة والمال والعلم على فئة من أبناء جلدته، وكذلك على الحيوانات، التي صار أكثرها داجناً، والنباتات التي بقي القليل منها برّياً.  

مؤتمر العبوديّة الدولي

في عام 1792 كانت الدانمارك أول دولة تلغي "تجارة الرق"، وتلتها بريطانيا وأميركا بعدة سنوات. ورغم الإعلانات الكثيرة عن نهاية ذلك العار البشري، إلا أن "مؤتمر العبودية الدولي" لم ينعقد من عصبة الأمم إلا في عام 1906! حيث قرر تحريم العبودية "بكافة أشكالها". ولكن هذا يعني أيضاً أن هذا المؤتمر انعقد بعد إعلان الدانمارك ذلك بمئة وأربعة عشر عاماً!!. ولكن هل انتهت العبودية والاسترقاق في هذا العالم بعد ذلك المؤتمر، وتوقيع كافة دول العالم على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟
في حارتنا كان هناك منزل لأحد أبناء شيوخ العشائر. لم يكن شيخ عشيرة، بل مجرّد أحد الأثرياء من عشيرة كبيرة ومعروفة. وكان عندهم خدم يُطلقون عليهم "العبيد"، وكنا نظنّ أن هذا الوصف يُطلق عليهم بسبب لونهم فحسب، ولكن تبين أن والدهم "اشتراهم" في السعودية. كان العبد يبدو مثل أبناء ذلك الرجل الثري. ولكن كانوا يعرفون حدودهم التي رسمها ذلك اللقب، مهما حاول السيد أن يجتهد أمام الناس بأنهم مثل أبنائه.
في روايات كثيرة من الخليج العربي خاصة نجد شخصيّة العبد/الخادم، والتي لا يُقصد بها عمال الخدمة، بل العبيد الذين يملكهم السيد. ورواية جوخة الحارثي "سيدات القمر" مثال جيد لهذه الفكرة. ولحد الآن يوجد هناك عبيد، ولو بشكل قليل، لدى الشيوخ الأثرياء، أو شيوخ السلطة.

لوحة للتشكيلي السوري بسام الإمام  


















الحلم الاشتراكي الضائع
مع تطور الزمن، وتطور العلم، يتغير نمط الاسترقاق أيضاً. ومع تغير النظم السياسية الحاكمة تتغير كذلك طريقة ومفهوم الاسترقاق. لندع النظام الملكي جانباً، فلاسمه دلالة ملكية الملك وعائلته كل فرد وكل شيء، ولو بشكل غير مُعلن، داخل تلك المملكة.
في النظم الاشتراكية نجد كذلك ملكاً من دون تتويج، ونجد فيها العملية المضنية في محو الخصوصية الفردية من الجميع لصبّها في شخصية الحاكم الفرد، وهو رئيس الحزب الاشتراكي الحاكم لحين حدوث انقلاب أو سقوط النظام بأكمله وتفكك دولته.

عبادة الشخص، وتعني وجود السيد الأوحد وعبيده، جاءت من ذلك "المحو" للشخصيات الفردية، لتجعل الشخص متساوياً مع الآخرين بالإكراه، ليس من أجل مبدأ المساواة، بقدر ما هو لمبدأ تمييز الحاكم عن الجميع، والذي يتحول رويداً رويداً إلى زعيم أبديّ في منزلة إله!
رغم أن الاشتراكية تبقى حلماً بشرياً بتساوي الجميع في حقوقهم في ملكيتهم لوسائل الإنتاج و"وضع شروطهم كعمال" للانعتاق من "عبودية رأس المال"، ولكنها للأسف ألّفت دكتاتوريات سقط أكثرها سياسياً، وحتى تفكك بعضها كدولة، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق ويوغسلافيا. لذلك تبدو الاشتراكية، بمفهوميها الإقتصادي والفلسفي، حلماً من أحلام الحرية الضائعة.
وهناك أسئلة لا بدّ من طرحها عن سبب انزياح الكفّة لصالح العبودية؟


ديكتاتوريّة المال
في الدول الرأسمالية، أو شبه الرأسمالية، نجد أن الحريات متاحة للجميع وفي كل الاتجاهات. ولكننا نجد فيها أن العامل، والنسبة العالية من سكانها هم عمال، تحوّل إلى آلة مبرمجة لضخ المال في جيب صاحب العمل بالدرجة الأولى، وإلى آلة لجميع المال طوال أيام الأسبوع وتبديدها خلال عطلة نهاية الأسبوع، أو خلال العطلة السنوية المعطاة له كحق أساسي.
في الدول الاشتراكية كانت السلطات الأمنية تتدخل حتى في "الجينات الوراثيّة" للناس، وهذا منا على سبيل المجاز، لإنتاج المزيد من عبدة الشخص أو عبدة الزعيم. بينما في الدول الرأسمالية هناك الديكتاتور الذي لا يُمكن إسقاطه أبداً- "المال".

في تلك الدول التي يكون فيها المال هو الحاكم، تتعود الناس على مواعيد معينة، خلال أيام العمل، للاستيقاظ والنوم والأكل والذهاب للسينما والمسرح وممارسة الجنس وعدم رفع صوت الموسيقى...  بينما في نهاية عطلة الأسبوع، في يومي السبت والأحد، يتحول أولئك الناس لبشر آخرين. فتجدهم يصرخون في الشوارع لدرجة العواء، أولئك الذين كانوا يتصلون بالشرطة عندما يرفع أحد جيرانهم صوت الموسيقى في الليل. ومنهم الكثيرون الذين يشربون الكحول بطريقة هيستيرية تجعلهم يتبوّلون قبل الوصول إلى الحمامات. أو يفعلونها هكذا في محطات القطارات أو الشوارع.

لوحة للتشكيلي السوري بسام الإمام


















كنتُ أسألُ نفسي أحياناً، أين كان هؤلاء الناس طوال بقية أيام الأسبوع؟ ولماذا يفعلون ذلك خلال نهاية عطلة الأسبوع؟ هل لأنه من الواجب عليهم أن يتقنوا دور "العبودية" خلال أيام العمل، وينفلتوا "بحرية" خلال يومي التحرر من العمل؟

ربّما هؤلاء ليسوا كلهم من السكان الأصليين للدول الرأسمالية، أو شبه الرأسمالية، ربما كانوا أولئك الذين هاجروا من بولونيا ودول يوغسلافيا وتشيكيا ودول الإتحاد السوفييتي والذين يحملون "جينات" سكان ألمانيا الديمقراطية السابقة، الذين هاجروا من دولهم الاشتراكية، بسبب الفقر أو عدم وجود فرص للعمل أو رواتب جيدة، إلى الدول الرأسمالية الجارة. ربما هم أولئك الأحرار الذين دفعهم العوز للعودة إلى العبودية ولو لخمسة أيام في الأسبوع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.