}

قراءات محجور صحي في عز كورونا ورمضان

بوعلام رمضاني 11 مايو 2020
آراء قراءات محجور صحي في عز كورونا ورمضان
لوحة القارئة للتشكيلي فراغونار
إذا كنت لا أعتقد أنني الوحيد الذي قرأ أكثر من أي وقت مضى منذ أن أجبرتنا جائحة كورونا على التزام بيوتنا عنوة، فإنني أعتقد جازما أن الروائية ريجين دوتمبال الأخصائية في العلاج النفسي بالقراءة محقة علميا، حينما أكدت أن الكتاب وسيلة علاجية تقلل من أوجاع الجسد والنفس، وتوفر سعادة لا يشعر بها إلا القارئ أو القارئة كما خلد ذلك الرسامان جان هونوري فراغونار وكلود مونيه في لوحتين بغض النظر عن طابعهما الفنيين المختلفين. هذه الروائية التي سأعود إليها في مقال لاحق، أكدت أن سلطة الكلمة على الإنسان عظيمة وغير محدودة في كل الحالات، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالإنسان المعزول والهش صحيا، كما مر معنا في مقال مارسيل بروست الذي حارب مرضه بالكتابة، وأبدع في رواية "بحثا عن الزمن المفقود" منقطعا عن العالم الخارجي.


"غوته والإسلام" وفضل العربية على الفرنسية
قرأت كثيرا هذه الأيام وما زلت، ليس لأنني أهوى العزلة بطبعي، وأعاني من حساسية تجبرني على التزام البيت في فصل الربيع فحسب، بل لأنني وجدت نفسي أعيد قراءة كتاب أصفر غلافه، وساهم إلى جانب كتب أخرى في زيادة وزن حقيبتي وأنا عائد من الجزائر الى باريس قبل أكثر من عقدين على الأقل. أنا السعيد في هذه اللحظة على إيقاع ضجيج المطبخ المحاذي لمكتبي، تمتعت بكتاب "غوته والإسلام" للراحل عبد الحميد ابن شنهو (1907-1976)، متذكرا حديث أندريه ميكال لي عن عظمة اللغة العربية، وهي العظمة التي عمقها الشاعر والمسرحي الألماني يوهان غوته (1749-1832) متحديا محيطه بتمجيده القرآن الكريم والشعر الشرقي بشقيه العربي والفارسي إلى درجة انعكست في إبداعاته. كنماذج لما جاء في كتاب "غوته والإسلام" الذي نشرته دار "شريفة" باللغة الفرنسية دون ذكر سنة طبعه في أعالي العاصمة الجزائرية ببوزيعة، نقرأ قول الكاتب الراحل ابن شنهو: "دراسته للقرآن أدت إلى إيمانه بالتوحيد، وفي إحساسه بوجود الله الذي لا شريك له" (ص 13)، وإلى أن الغرب قد استفاد من دراسته للشرق وتأثر بشعره: "وهذا ما جاء في كتابه "الديوان" الذي قال فيه إن من يريد معرفة الشعر، يجب أن يذهب إلى الشرق، وليرى فيه كيف يصبح القديم جديدا". اللغة العربية التي يعدها غوته من أغنى اللغات، هي اللغة التي سحرت أيضا الكاتب جان بروفو صاحب كتاب "أجدادنا العرب... فضل العربية على الفرنسية" الصادر عن دار جان كلود لاتيس عام 2017. ويقول بروفو في كتابه الذي قرأته متنقلا بينه وبين كتاب "غوته والإسلام" محجورا في جو رمضاني، إن "اللغة العربية تأتي في المرتبة الثالثة بعد الإنكليزية والإيطالية من حيث كمية الكلمات المستعملة في اللغة الفرنسية، ويبرهن على ذلك من منطلق منهج تاريخي شمل كافة مناحي الحياة مستشهدا بقول المفكر الراحل ألبير جاكار (1925 ـ 2013): "دون علم مني... كنت أتحدث دائما اللغات العربية والصينية والتركية والسنسكريتية أنا الذي كنت أعتقد أنني أتحدث اللغة الفرنسية فقط".

3 كتب عن الحراك الجزائري المعلق
"عودة التاريخ ...الجزائر بعد بوتفليقة" لبنيامين سطورا، و"الجزائر.. الاستقلال الثاني" لجان بيار فيليو، و"حراك في الجزائر... ابتكار انتفاضة" لمجموعة من الباحثين- عناوين كتب تهم القارئ الفرنسي أساسا، لأنها لا تضيف جديدا لعامة ولخاصة الناس من منظور إعادة التذكير بحراك ساهم الكثيرون في صنعه، وفي تعليقه بسبب جائحة كورونا. وحتى لا يساء فهم كاتب هذه السطور، يجب التنبيه إلى أن الكتب المذكورة تبقى هامة رغم اجترار أصحابها أحداث وتطورات الحراك بطريقة صحافية معروفة، وتتجلى أهميتها السياسية والفكرية في تشكيك سطورا المنهجي في مآل حراك معقد ومناقض للتبسيط. سطورا الذي عاد بالقارئ إلى الوراء كمؤرخ، عالج الحراك كامتداد لثورة التحرير التي انتهت باستقلال لم يعكس توجهات وطموحات كل الأطياف الأيديولوجية، وربما ذلك ما ترك فيليو يعطي لكتابه عنوانا يؤكد تشكيك سطورا الصحي في ثورة لم تحقق الاستقلال الحقيقي والشامل كما كان يطمح شهداء سقطوا من أجل أن تعود الكرامة للجزائريين كاملة وغير منقوصة، ولا تستغل موارد أرضهم لصالح فئات انفردت بالحكم. خلافا للكتابين، جعل عمر بنديرا وفرنسوا جيز ورفيق لبجاوي وسليمة ملاح الذين أشرفوا على الكتاب من الحراك مبررا للعودة بشكل غير برئ لعشرية الإرهاب بدعوى الربط بينها وبين الحراك.

هذا الربط أضحى مكشوفا في معهد العالم العربي الذي احتضن ندوة تحدثت عن الكتاب من منظور فرنسوا جيز وجوزي غارسو والضابط السابق المنشق حبيب سوايدية صاحب كتاب "الحرب القذرة".  المنظور الأمني ـ وحتى لو عد توظيفه مقبولا منهجيا ـ  تسبب في التغطية على تحليل الحراك الذي يطرح العديد من التساؤلات والإشكالات، وبلغ تحويل مجرى معالجة الحراك كما يوحي به عنوان الكتاب درجة مغالاة أساءت لمصداقية أصحاب الكتاب بعد أن تمحورت مداخلة سوايدية حول إرهاب العشرية السوداء: "الضباط الذين حولوا مجرى مكافحة الإرهاب هم أنفسهم الذين يحاربون الحراك بعد أن أصبحوا جنرالات". أثار هذا الكتاب غضب أحد الحاضرين في معهد العالم العربي يوم تقديمه بحضور جيز وغارسو وسوايدية، ووجد الغاضب في التركيز على الإرهاب مبررا لإحداث فوضى علقت عليها سيدة كانت جالسة أمامي: "هذا من المخابرات الجزائرية وأين هم أعوان الأمن لإسكاته؟"، مرت الضجة بسلام، ولم يطرد المشاغب الذي كان يفترض أن لا يصرخ بكل ما أوتي من قوة صوتية للتعبير عن سخطه مقاطعا المتحدثين عدة مرات، سيما وأن فرصة النقاش قد أعطيت لاحقا لجميع الحاضرين.


سياسة وإعلام وكتب في كتاب
رغم سعة الوقت التي منحتها لي كورونا لقراءة عدة كتب في نفس الوقت بشكل لم يحدث من قبل في حياتي، ولأنني مهووس بالمنهجية، رحت ألتهم الكتب السياسية "الثقيلة" التي تناول أصحابها الفساد وتحديات التعامل مع الرهانات الفكرية والأيديولوجية في ضوء الثورات أو الانتفاضات العربية. وكشاهد على صحة اعتبار القراءة علاجا نفسيا وجسديا لآلام عدة ومنها الآلام التي يسببها التهاب مفاصل العنق، رحت أقاوم مرضي بلذة علاجية لا يعرف فعاليتها إلا أمثالي، متنقلا من كتاب المحلل الأميركي مايكل جونستون "متلازمات الفساد: الثروة والسلطة والديمقراطية"، و"العرب في زمن المراجعات الكبرى:

محاولات في تعقل تحولات الراهن العربي" للمفكر المغربي كمال عبد اللطيف و"هل وسائل الإعلام خطيرة.. فهم ميكانيزمات الإعلام" لمجموعة من الفلاسفة والمحللين الاجتماعيين والإعلاميين تحت إشراف إريك فوتورينو الذي استقال من "لوموند" وأسس موقعا خاصا به احتجاجا على خضوع أشهر الصحف الفرنسية لسيطرة كبار رجال المال والأعمال. كورونا التي أنستني فيروسها، وغذت نقص مناعتي حيال فيروس القراءة، كرست سلطتها التي أصبحت لا تقاوم في عز رمضان الكريم الذي عمقت فيه حبي لطقس نادى به ديننا الحنيف كما أكد ذلك الراحل مالك شبل صاحب كتاب "حكايات من القرآن والإسلام" الذي سأعود إليه في ختام جولتي على طريقة روجيه غرونييه (1917 -2017) في جو كوروني ورمضاني استثنائي. في "قصر الكتب" جال وصال هذا الرجل الذي عمل نصف قرن في دار غاليمار، أشهر دور النشر الفرنسية، في كتب بروست وكامو وبودلير ووولف وبوكاشيو وبيكيت وبلانشو وفلوبير ودولوز وصاند وغيرهم من الذين نكتشف من خلالهم لماذا نقرأ وكيف نقرأ. كتاب "قصر الكتب" الذي يعد مصدر متعة خارقة، دفع بي دفعا لتقليد من عاش قرابة قرن في أحضان الكلمات والكلمات فقط لعلي أعيش طويلا مثله، وليس بالضرورة حتى سن 100 عام!



من جزائر وطار وبقطاش إلى مصر الغيطاني
هل من محلل نفساني يفسر عودتي إلى "الزلزال"، رواية صاحب قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي عاد إليها الراحل الكبير بن قطاف ومسرحها منتزعا إعجاب كبار النقاد العرب؟ أرد على السؤال عاجزا عن فهم عودتي لرواية قرأتها قبل أن يغزو الشيب شعري بسنوات، ومعتبرا إياها استباقا لزمن الإقصاء والخراب والزلازل السياسية الجزائرية المتتالية منذ الاستقلال حتى ساعة الحراك.

وطار العجيب بكل المقاييس، فتح شهيتي الروائية، فرحت أقرأ روايتي "نهاوند" و"البابور" لمرزاق بقطاش- همنغواي الجزائر- الذي يعيش محجورا قبل كورونا مناجيا أمواج بحر يعد ذاكرته السرمدية. بقطاش الذي نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال في عز العشرية السوداء، مثقف ومترجم وصحافي ومحب كبير للفنون وللحضارات وللتاريخ، وكاتب يطوع بمهارة آسرة الذاكرة للوقوف على أوجاع الحاضر. معمقا تمتعي بلذة القراءة التي تنسي كل الأوجاع، حط هوسي رحاله في مصر الفقيد الكبير جمال الغيطاني. في كتابه "منتهى الطلب إلى تراث العرب"، وقف عند عشرات الدراسات التراثية بأسلوب بديع متأسفا على جهل وتجاهل الكثير من أبناء جلدته ذاكرة أدبية تم إقصاؤها باسم الحداثة التي لم يقف ضدها ولم يقدسها إلى الحد الذي تحولت فيه إلى دين!

ختامها مسك
فعلتها في الأخير، وقرأت كتاب "شجرة القصائد: مختارات شخصية" (1992-2012) للشاعر اليساري المغربي الكبير عبد اللطيف اللعبي الذي كتب مؤيدا كاتب ياسين في صفحة 34 بقوله: "الصلاة أفضل من النوم... يقول المؤذنون... أليس النوم صلاة؟". اللعبي نفسه كتب يقول في قصيدة "ساعتان قطار" والتي أهديها للشاعر أزراج عمر الذي التقطت له صورة وهو في القطار:

في ساعتين على متن القطار

أستعيد شريط حياتي

بمعدل دقيقتين في السنة

نصف ساعة لطفولتي

وأخرى للسجن

وللحب والكتب والتيهان

يد رفيقتي تذوب شيئا فشيئا في يدي

رأسها على كتفي أخف من حمامة

عند الوصول أبلغ سن الخمسين

وتبقى لي حوالي ساعة لكي أعيش.

قبل أن تعلن إذاعة الشرق عن آذان المغرب، أنهيت قراءة كتاب "حكايات من القرآن والإسلام" للفقيد مالك شبل الذي عاد الى الجزائر في نعش قبل أن يدعو عز الدين ميهوبي، وزير بوتفليقة للثقافة، إلى دراسة فكره المجهول. لم أقرأ هذا الكتاب قبل اليوم، لأنه كان في غرفة ابنتي فرح التي حظيت وهي برفقتي بتوقيع الراحل يوم السابع من فبراير/شباط 2009!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.