}

والشِّعر إذا أبكى.. شهادة وليد الخشاب

عماد فؤاد 27 مايو 2020
آراء والشِّعر إذا أبكى.. شهادة وليد الخشاب
وليد الخشاب: تظلّ "أنشودة الخريف" أنشودة المراهقة الأزلية

نافذة أسبوعية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا - يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.

هنا شهادة الناقد والشاعر والمترجم المصري المقيم في كندا وليد الخشاب:


*****

وليد الخشّاب: أنشودة بول فيرلين للخريف
لم أعد أبكي حين أقرأ الشِّعر أو أسمعه، وإن كانت تشجيني كثير من القصائد. تصورت أوّلًا أن النزعة التهكمية والكلبية في جيلي، مع التقدم في العمر بعيدًا من مرحلة العشرينيات والثلاثينيات العمرية، قد قضيا على ملكة التأثّر إلى حدّ البكاء. فالإنسان الواعي بمفارقات الحياة، وعبثية خطابات الهوية والحداثة والعدالة، قد يضحك ساخرًا أو يبتسم خبثًا، لكن يصعب عليه أن يبكي تأثّرًا، لأنّ البكاء في هذه الحالة وليد تصديق القيم والمرويات المعتادة، مثلًا عن لوعة العشّاق، أو تضحية الأمّهات، أو روعة الأوطان.

لكنّي ما زلت أشعر بالشجن وتشجيني كثير من القصائد، ولعل هذه رواسب النوستالجيا في قرننا الحادي والعشرين، بقية من تصديق، شذرات من براءة فَضَّت الرأسمالية بكارتها. ويمتزج شجن ما بعد الخمسين بذكريات الحنين لأيّام العشرين والثلاثين، حين أتذكّر قصائد فارقة أبكتني. كنت أبكي كثيرًا - مثل كلّ مراهق وكثير من الشباب – حين أقرأ قصائد رومانسية أو وجودية عن الحزن والضجر. وكانت بعض القصائد العاطفية في حب امرأة أو في حب الوطن تبكيني. كنت مثل أي شاب يقبل عاطفية الحداثة، التي تبني الذات الفردية مستهلكة قيم السوق ومنتجاتها، مستعينة بإنتاج خطاب عاطفي عن الحبّ والرّغبة، يكرّس لفكرة الاقتناء ("اقتناء" الحبيب المعادل لاقتناء السلع) ولفكرة الانتماء (حبّ السوق التي نستهلك فيها السلع وثيق الصلة بحب الوطن، الذي هو الصورة المتعالية للسوق القومية).
أنقدُ البكائيةَ التي تلازم التصديق الساذج لخطابات تفرّد الذات الرومانسية وتجييش العواطف القومية، وهما جناحا الغنائية الحداثية. ورغم هذا النقد، الذي أسمّيه نقدًا محايثًا، لا يزعم التحليق في الفضاءات الوهمية للمثالية المتسامية، فضاءات الرومانسية والقومية، لا أستحي من أن الشجن يخالجني حين أذكر بعض القصائد التي أبكتني عاطفيتها الوطنية في شبابي. أذكر بوضوح أني كنت أبكي في سيارتي، إذ أنصت لقصيدة أحمد فؤاد نجم، شاعر العامية المصرية، عن انتفاضة 1977 في مصر، لا سيما حين يقول "حدّ فيهم شاف علامة من علامات القيامة؟ (...) لما قامت مصر قومة بعد ما ظنّوها نومة". قصيدة شديدة المباشرة لا إبداع فيها، لكن سماعها بصوت الشيخ إمام، المغني الأثير لنجم، كان يجعلني أجهش بالبكاء، حتى حين بلغت الثلاثين من عمري. ربما كانت العاطفية هنا مبرّرة أو "مشروعة"، لأنّها تحتفي بانتفاضة تحاول تغيير أوضاع اجتماعية تفتقر إلى العدل، لكنّها تظلّ بحاجة إلى "نقد" ساخر يحميها من الابتذال ومن التعبئة في دوامات الشعبوية.

لهذا ربما ما زلت أحتفي إلى اليوم بقصيدة أخرى أبكتني مرارًا في سنوات المراهقة، لأنّها لا تحمل أية شبهة أيديولوجية جماعية، قد تجرفها الغوغائية أو الانتهازية وتستلبها. بل هي قصيدة مغرقة في الذاتية، تصف حزن المراهقين وسأمهم و- بالتعبير الحديث - اكتئابهم، الذي قد يكون أثرًا من طحن الرأسمالية لروح الشاب حين يستقبل سوق العالم المغترب، أو نتاجًا لاضطرابات الهرمونات في جسد لم يستقر نموه تمامًا. وهي بذلك نص مغرق في الذاتية وشديد العمومية في آن، لأنّه يصف حالة مزاجيّة يمرّ بها ملايين الشباب في عالمنا الحديث.
"أنشودة الخريف" قصيدة كلاسيكية شهيرة للشاعر الفرنسي بول فيرلين نُشِرَت عام 1866 في ديوانه "قصائد من زُحَل"، الذي ظهر وعمر الشاعر بالكاد اثنان وعشرون عامًا. على مدار ما يقترب من 150 عامًا، لا يكاد يكون هناك طفل أو شاب فرنسي لم يقرأ هذه القصيدة في المدرسة. وفي مصر، على مدار عقود طويلة، كان طلّاب المدارس الفرنسية يدرسون هذه القصيدة. ربّما كان مدعى ذلك هو بساطتها وعموميتها، ومناسبة موضوعها لمزاج المراهقين، الذين كثيرًا ما تعتريهم نوبات حزن شديد ومفاجئ، بسبب الاضطرابات الهرمونية التي تصاحب تلك المرحلة من نمو الجسد. وإن كانت تدهش القارئ المدقّق لأنّها تتحدّث عن "الأيام الخوالي" على لسان شاب ليس في حياته ماض يقبل هذه التسمية. كأنّ الصوت الشّاعر يعي منذ قصائده الأولى أنه صوت شيخ في جسد يافع.
لمن يهتمون بالمشهد الشعري العربي، يلفت النظر في "أنشودة الخريف" أنها قصيدة تشبه في جمالياتها البسيطة، جماليات الحد الأدنى، روح القصائد التسعينية العربية، قصائد التفاصيل وقصائد الحياة اليومية ذات الصبغة الوجودية أحيانًا، التي عادة ما يسميها النقاد "قصيدة نثر". إن كان سركون بولص وأنسي الحاج ومحمد الماغوط (ونجيب سرور) من آباء قصيدة النثر العربية، فإن جاك بريفير وبول إيلوار وبول فيرلين من أخوالها.
مثل مئات الآلاف من طلاب المدارس الفرنكوفونية في مصر، درست هذه القصيدة في الثانوية العامة في برنامج المستوى الرفيع للغة الفرنسية، الذي كانت تضعه وزارة التعليم المصرية آنذاك. ومثل مئات الملايين من قراء هذه القصيدة من الشباب، كنت أبكي من لمسها أوتار القلب، وهي القصيدة التي تبلور مصفوفة الكمان/القلب/الحزن كما اعتمدتها ثقافات أوروبية كثيرة، حتى إنّ ذكر الكمان أصبح مجازًا مرسلًا للحزن والأسى. ولسهولة معجمها وبساطته، كانت من أوّل ما ترجمتُ إلى العربية وأنا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وكانت من أوّل ما نشرت من ترجمات لشذرات شعرية في الأعداد الأولى لأخبار الأدب، في بضع السنوات التي فتح فيها الأستاذ جمال الغيطاني باب التعاون مع جيلي التسعيني. لكن خوفًا من مفارقة الابتذال، آثرت أن أبدّل "قيثارات" بـ"كمانات"، رغم أن القيثارة تحمل ملامح أكثر كلاسيكية ورسمية من الكمان المرتبط بالحزن البسيط الميلودرامي والشاب، وهو الأقرب لتأثير النص الأصلي.
تظلّ "أنشودة الخريف" أنشودة المراهقة الأزلية، ووترًا يحزّ في القلب كلّما بدأ الفصل الدراسي في الجامعة، فصل الخريف.

 

أنشودة الخريف

بول فيرلين

(ترجمة: وليد الخشاب)



نشيج قيثارات

الخريف

الطّويل

يدمي قلبي

بأَسَى

رتيب

*

مختنقًا

شاحبًا، حين

تدقّ الساعة

أتذكّر

الأيام الخوالي

وأبكي

*

وأمضي

تحملني

الريح الفاسدة

من هنا إلى هناك

مثلَ

ورقة ذابلة.



#قصيدة أنشودة الخريف Chanson d'Automne لبول فيرلين:

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.