}

وجوه العدالة: ما بين مقتل إياد الحلاّق وجورج فلويد

فيصل درّاج 16 يونيو 2020
آراء وجوه العدالة: ما بين مقتل إياد الحلاّق وجورج فلويد
وقفة في الخليل لإحياء ذكرى إياد الحلاق وجورج فلويد(الهدهد)

قرّرت العنصرية، منذ زمن طويل، تقسيم البشر إلى مراتب يتفوّق بعض منها على الآخر، ما يسوّغ الاضطهاد والقهر والاستعمار، وصولًا إلى طرد شعب من أرضه، وهو ما فعلته الصهيونية.
وصف ت. تودوروف في كتابه الشهير: "اكتشاف أميركا"، تنكيل الغزاة الإسبان بسكان أميركا الأصليين، الذين اعتبرهم الغزاة امتدادًا للطبيعة الصماء، و"لا أرواح لهم". شاركه الرأي الأميركي اللاتيني، إدواردو غاليانو، في كتابه "أميركا التي لم تكتشف بعد"، مؤكدًا أن الهنود الحمر وجدوا قبل الاستعمار، ولم "يخلقهم" أحد. أعلن المثقفان الكبيران أن الاستعمار "يخلق الشعوب" قبل استعمارها بشكل يبرّر الغزو ويجعله فضيلة.
زعم الروّاد الصهاينة أن "عودتهم" إلى فلسطين تجسيد لإرادة إلهية (وعدهم الإله بما عادوا إليه)، وتحقيق لرسالة حضارية، فأهل البلاد الأصليون مزيج من الجهل والتخلّف. وما كانت رسالة الإنسان الأبيض، في أفريقيا السوداء، مختلفة. شحنت سفنه عشرات الألوف من "العبيد" إلى أرض الحضارة، ومنها الولايات المتحدة، حيث للإنسان الأسود استعمالات مختلفة.
ولما كان وعي الإنسان محصلة لشروط معيشته، كذّب أهل فلسطين المزاعم الصهيونية، وقاسوا أكثر من هجرة ومجزرة وعقاب لا تزال مستمرة إلى اليوم. وتمرّد الأسود الأفريقي، الذي لم يروّضه الرصاص والكلاب الكاسرة، على تعاليم "السادة"، منذ وصوله إلى "بلد الحرية" إلى يوم مقتل "جورج فلويد"، قبل أسابيع. وعلى الرغم من فروق أكيدة في الحالين، فإن كفاح الطرف الأول، كما تمرُّد الطرف الثاني، لم يرتبطا بلحظة، أو توقيت، محدّدين، إنما جاءا من

تجربة متراكمة توازعها القهر المنظّم، ومقاومته المتوالدة الباحثة عن تحرّر محتمل.
ولعل هذه المقاومة الموغلة في التجربة هي التي أطلقت المظاهرات العارمة في الولايات المتحدة، التي شارك فيها سود وبيض، وجماعات ديمقراطية فرنسية وإنكليزية. بل إن هذه المظاهرات أطلقت وعيًا جديدًا ارتدّ إلى الوراء، جسّده أميركيون غاضبون حطّموا تماثيل لشخصيات قادة شهيرة من الماضي، اعتبرت تأديب "الجنس الخفيض" من البشر فريضة دينية. والأكثر تأثيرًا وجمالًا، وإرضاء للأرواح العادلة، مشاهد متظاهرين إنكليز وفرنسيين أرادوا بدورهم تحطيم تماثيل "أبطال مستعمرين"، اضطهدوا الشعوب المستضعفة وحصدوا "المجد والأوسمة الفخيمة"، كما لو أن جيلًا جديدًا يطالب بمحاكمة استعمار مضى، ضعفت براثنه ولا يزال قائمًا.
غدا مقتل "جورج فلويد" جريمة يعاقب عليها القانون ـ بمقدار؟ وواقعة تاريخية تشير إلى عدالة مفقودة يمكن العثور عليها ولو بعد حين. من يحاكم الإنكليزي بلفور، الذي تصرّف بأرض ليست له، ولا يزال يتصرّف بها، بكثير من الفجاجة والغرور والجهل، الرئيس الأميركي: ترامب؟ بيد أن ما مضى لا يمضي تمامًا، وما يريد أن يخلفه لن يكون طويل العمر!!
تزامن مصرع الأميركي الأسود مع مصرع الفلسطيني المريض إياد الحلاّق، الذي أطلق عليه النار "شرطي إسرائيلي" بحجة جاهزة هي: الإرهاب، تتخفّى وراء حجة أكثر اتساعًا وأمتن قوامًا: تراكم الحقد العنصري والكراهية الصهيونية للعرب. ما قام به الشرطي الأميركي قام به عسكري إسرائيلي يشرف عليه رئيس الوزراء "نتنياهو"، المدعوم بلا شروط من الإدارة

الأميركية المتصهينة، بلا قناع ولا زيغ، كما لو كان ترامب قد ولد في "أورشليم"، وانتمى روحيًا إلى "البالماخ" وكتائب مناحيم بيغن.
سؤال "فضولي" لا بدّ منه: لماذا بدا مصرع الفلسطيني "المتوحّد" أمرًا بالغ الصغر قياسًا بالأصداء الواسعة التي أثارها مقتل فلويد؟ شيّعه الفلسطينيون المحاصرون تشييعًا يليق به، وأطلقوا الشعارات، وشجبوا الإرهاب الصهيوني... لكن مقتل الشهيد حلاّق بدا، في التحديد الأخير، أمرًا معزولًا يخص الفلسطينيين من دون غيرهم. أمّا لماذا هذا فيعود، ربما، إلى أسباب متعددة: هناك أولًا: "قوة القول من قوة المتكلّم"، ما وضع في قضية فلويد تاريخ كفاح السود ضد التمييز العنصري في المجتمع الأميركي، وهو تاريخ طويل. وهناك ثانيًا ما يدعى: استبداد المكان، فحادثة في نيويورك، في رمزيتها المتعددة، تختلف أصداؤها عن مقتل شاب فلسطيني في زمن نتنياهو وغطرسته المتوسّعة، وذلك الحديث الذي لا ينتهي عن "صناعة الهولوكوست"... وربما يوجد أيضًا بعد من أبعاد الوضع الفلسطيني الراهن، الذي يحتاج، حتى يقف، إلى دعائم عديدة يصعب الحديث عنها!!!

احتجاجًا على مقتل إياد الحلاق على يد الشرطة الإسرائيلية أمام المبنى الإداري لوزارة العدل في القدس (9/ 6/ 2020/الأناضول)

تساؤل أقرب إلى السذاجة: هل شهدت شوارع مدن الوطن المحتل، كما الشوارع العربية، مظاهرات نصرت قضية الأسود الأميركي القتيل، ذلك أن نصرة قضية عادلة تستلزم أن ينصر أهلها القضايا العادلة في كل مكان. فالفلسطيني يكون حرًا، وجديرًا بدعم الأحرار، حين ينفتح بسخاء على القضايا العادلة في العالم كله، بعيدًا عن أسطورة العروق والمعتقدات المغلقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.